عائد
من لبنان
د.أنيس فوزي قاسم
بعد
رحلة الى بعض قرى جنوب لبنان
والضاحيه الجنوبيه من بيروت
ومشاهدة اثار الدمار والحديث
الى الناس، يعود الزائر بحفنه
من الملاحظات والانطباعات.
ان
اولى هذه الانطباعات ان حجم
الدمار ونوعيته لا ينبيء عن
وجود معارك بين جيش نظامي وقوات
مقاومه، بل ان الدمار ينبيء عن
حقد كريه يمارسه جيش نظامي ضد
السكان المدنيين. اذ لا يستطيع
الزائر استيعاب كيف يتم تدمير
ثلاث او اربع بنايات سكنيه
تدميراً كاملاً، ويجد بناية
اخرى لصيقة بتلك البنايات
المهدمه سالمه الاّ من شظايا
بسيطه، وهكذا يتكرر هذا المنظر
بوضوح في قرى مثل الخيام، وكما
هو واضح في الضاحية الجنوبيه.
يستثنى من ذلك المربع الامني في
الضاحيه حيث تمً تدميره بعملية
منظمه ومستهدفه بما في ذلك منزل
السيد حسن نصر الله. وقد يكون من
المبرر استهداف جسر رئيسي مثل
جسر الزهراني، الاّ انه لا يمكن
فهم او تفهم تدمير جسور صغيره لا
تحمل دلالة عسكريه بل هي اقرب
الى ربط شقي بلده.
لاشكّ
ان الجيش الاسرائيلي الذي كان
يتباهي بـ "نظافة سلاحه" قد
مارس حرباً لا أقذر ولا أحقد.
انه يدلل على فقدان
هذا الجيش ضوابطه
والتزاماته، وافرغ حمولة من
الحقد على المدنيين بعد ان فشل
في النيل من عناصر المقاومه.
انها ممارسه جيش بلغ حدّ اليأس
وضلّت به السبيل وليس امامه
اهدافاً محدده لعملياته. لقد
خرج الجيش الاسرائيلي ملطخاً
بعار الدم البريء على سلاحه،
وهذه اكبر ادانه اخلاقيه (عدا
القانونيه) للجيش "الذي لا
يقهر".
ان
ثاني هذه الانطباعات هي التعرّف
على "حزب الله". هذه ظاهره
عربيه غير مسبوقه لا على مستوى
التنظيمات الحزبيه ولا على
مستوى الدوله. يتمتع هذا الحزب
بقدره غير عاديه في التنظيم على
كافة الاصعده. من المعروف أنه
ادار الحرب بكفاية عاليه وتدريب
منضبط وبروح قتاليه دمرت
معنويات الجيش الاسرائيلي،
وبسلاح لم يتم اكتشاف أية قاعدة
صواريخ او مخبأ اسلحة له،
وبجهاز استخباراتي مثير للدهشه
والاعجاب، وبقدرة لوجستيه
فعّاله. الاّ ان قدرة هذا الحزب
تتجلى كذلك في العمل بعد انتهاء
العمليات الحربيه. لقد تمّ
فعلاً صرف مبلغ اثني عشر الف
دولار لكل من تهدم مسكنه لايواء
اسرته مضافاً اليها ثلاثة الاف
دولار للتأثيث. ومن تضرر منزله،
تقوم لجنه بتقييم الضرر وتحديد
المبلغ اللازم لاصلاح الاضرار.
فان لم يوافق ذلك صاحب العلاقه
يستأنف الى لجنة ثانيه التي
تقوم باعادة التقييم، فان لم
يقبل صاحب العلاقه قرارها، ذهب
الى لجنة عليا ويكون قرارها
نهائياً. وتتم عمليات الصرف
والتقييم بدون تعقيدات اداريه
او فرض شروط تعجيزيه او الدخول
في اجراءات روتينيه.
اما المباني التي هدمت
بالكامل، فان عناصر الحزب
يقومون بحراسة المبنى بمجرد
انتهاء الغارة الجويه, ويمنعون
أي شخص من الاقتراب حفظاً على
موجودات الناس المتضررين، ولا
يتم البدء بازالة الانقاض الاّ
بعد دعوة اصحاب البنايه المهدمه
للحضور واخذ ما يخصهم من
ممتلكات او اية اشياء ثمينه. وما
يتم العثور عليه بين الانقاض
فيما بعد، يحفظ في صندوق امانات
مع وضع البيانات الكافيه عليه.
وزرنا بيوتاً القيت في حدائقها
وساحاتها قنابل عنقوديه، وقد
شاهدنا بعضاً منها، وقد حذّر
مهندسو الحزب ساكني هذه البيوت
من العبث بها الى ان يتم جمعها
وتفجيرها، وشاهدنا فرقاً من حزب
الله يطرقون البيوت بيتاً بيتاً
لتوزيع عبوات المياه المعدنيه
عليها. سيما في القرى التي تضررت
فيها شبكة المياه. وعلمنا ان
المهجرين الذين نزحوا الى بيروت
لم يعتدوا على بيت او محل بقاله،
بل كانوا في حاله من الانضباط
والسلوك وهذا بخلاف ما وقع
اثناء الحرب الاهليه. ولا شك ان
عناصر الحزب لعبت دوراً في ضبط
هذه الحاله.
والأهم من كل ذلك، انه بمجرد
توقف القتال، طلب الحزب من
جماهيره العوده الى الجنوب. وفي
خلال ايام، عاد مليون نازح
تقريباً الى قراهم برغم تقطع
الطرق والجسور وانعدام البنى
التحتيه في الكثير من القرى
التي مرّ منها الاسرائيليون،
وبرغم مخاطر القنابل العنقوديه
التي –كما قالت صحيفه هاآرتس في
افتتاحيتها تاريخ 18/9/2006-
"أغرقت المنطقه" في الايام
الاخيرة للحرب وذلك "بقرار
أخذ" من قادة الجيش، الاّ ان
جماهير الحزب لم تتردد في
العوده.
ويلحظ الزائر ان العمل جار في
ازالة الانقاض مما يعني توفير
تلك الاليات الضخمه والشاحنات
وفرق المهندسين والمراقبين
والعمال بالاضافة الى فرق
الحراسه والرقابه. وعلمنا ان
هذه الانقاض تنقل الى موقع تمّ
استئجاره من قبل الحزب، حيث ان
الحكومه لا زالت تناقش في تحديد
الموقع والتكلفه، ولم تقرر بعد.
ان هذه العمليات تعني
"ادارة" ذات كفايه عاليه
وتدريب عال وقياده تتمتع
بمصداقيه عاليه. وبالمقارنه، لم
نسمع عن أي حركه شعبيه او حزب
سياسي –على الاقل في المنطقه
العربيه- استطاع ان يجند هذه
الطاقات ويدير عمليات بحجم
العمليات التي يشاهدها الزائر.
بل واكثر من ذلك، ربما لا نجاوز
الحقيقه اذا قلنا ان ما يقوم به
حزب الله لا قدرة لدولة – على
الاقل في المنطقه العربيه- على
القيام به. واننا نعلم عن حالات
سقوط الثلج في بعض الدول
بمعدلات لا تتجاوز بضعة انشات،
او حالات امطار غزيره، لترى ان
مرافق الدولة قد تعطلت.
من
هنا، يمكن
القول ان حزب الله ظاهره جديره
بالدراسه والاقتباس وذلك بغض
النظر عن موقف المرء السياسي او
المذهبي من هذا الحزب.
اما ثالث هذه الانطباعات
والجديره بالاهتمام فهي هذا
التلاحم العضوي بين جماهير
الناس وحزب الله. لا شكّ ان
لبنان يعاني الان من انقسام
سياسي حاد بين جماعة 14 اذار
(وتضم عناصر من مختلف الاطياف
السياسيه والمذهبيه) وبين جماعة
حزب الله (وتضم كذلك عناصر من
مختلف الاطياف السياسيه
والمذهبيه)، الاّ ان التلاحم
الذي يشاهده الزائر الى الجنوب
يعني ان حزب الله يتماهى مع
جماهير الناس. وبتوصيف ادق، انه
"حزب الشعب" . ترى الناس
البسطاء وتسمع قادة رأي وكتاباً
وعمال مطاعم وكأنهم اعضاء في
حزب الله وهم ليسوا كذلك.
ويتساءل المرء، كيف يمكن تجريد
"الشعب" من سلاحه؟! ان هذا
يدلل على صدق ما قالته وزيرة
الخارجيه الاسرائيليه، من انه
لا توجد قوة تستطيع تجريد هذا
الحزب او تفكيكه. انه الشعب،
والشعب هو حزب الله.
اما الملاحظه الأهم فهو النقاش
الذي يدور حول قيمة ما قام به
حزب الله بالمقارنه مع الخسائر
والدمار الذي الحقته القوات
الاسرائيليه بلبنان، ويقول
هؤلاء هل ما تعرض له لبنان يستحق
أسر جنديين؟ ألم يكن اولى بحزب
الله ان يكون اكثر رشداً في
تصرفاته وبذلك يكون قد وفّر على
لبنان كل هذه المآسي.
الظنّ ان هذه اقوال فيها سذاجه
اكثر مما فيها عقلانيه. بداية،
لا بدّ من تسجيل السوابق التي
خطف فيها الحزب جنوداً
اسرائيليين وتمّ تبادل الاسرى
على اثرها. وحدث هذا سابقاً مع
حزب الله ومع الجبهه الشعبيه
لتحرير فلسطين- القياده العامه-.
وكانت عملية خطف الجنديين لا
تخرج عن هذا السياق، سيما وان
العقلانيه التي طغت في السابق
كان من المفروض ان تطغى على هذه
الحاله؛ اذ لا يعقل ان تستخدم
دوله كل قوتها للافراج عن
جنديين. ففي السابق، اعتقلت
كوريا الشماليه (في يناير 1968)
سفينة التجسس الاميركيه بويبلو
وعلى متنها (82) من رجال البحاره،
وكان بامكان الولايات المتحده
مسح كوريا الشماليه من الخريطه،
الاّ انها انخرطت في مفاوضات
دامت احد عشر شهراً الى ان تمّ
الافراج عن البحاره. وبعد
انتصار حركة الامام الخميني،
تمّ اعتقال كافة العاملين في
السفاره الاميركيه في طهران،
ولجأت الولايات المتحده الى
محكمة العدل الدوليه والى مجلس
الأمن الدولي الى ان تمّ
الافراج عنهم. وكان بامكان
الولايات المتحده اللجوء الى
اعمال عسكريه عنيفه للافراج عن
مواطنيها. ومع ذلك، لجأت الى
العقلانيه في سبيل الافراج
عنهم. وقياساً على ذلك، فان من
الاولى ان يوجه الناقدون لعملية
حزب الله سهامهم الى تصرفات
اسرائيل وردة فعلها التي خالفت
فيها كل السوابق المحليّه
والدوليه، كما ان ردة فعلها
كانت بعيده عن تصرفات دوله
مسؤوله، بل مارست ردة فعل
العصابات.
وثانياً، لم يترك الصحفي
الاميركي الشهير سيمون هيرش
فرصه لهذه الاقوال الساذجه ان
تمرّ، فقد نشر مقالاً طويلاً
وموثقاً على عادته في ان
التنسيق بين الولايات المتحده
واسرائيل كان مستمراً لترتيب
خطة الاعتداء على حزب لبنان في
اكتوبر القادم، وان الزيارات
المتبادله بين اجهزة
الاستخبارات في الدوليتن كانت
مستمره، وان الاستراتيجيه كانت
تستند الى القصف الجوي العنيف
لضرب مواقع صواريخ حزب الله. وان
هذه العمليه ستكون مقدمه لأية
حرب سوف تخوضها الولايات
المتحده ضد ايران. ونقل هيرش عن
المستشار الامني للكنيست
الاسرائيلي قوله ان مسألة ضرب
حزب الله "ليست الاّ مسألة
وقت". فالضربه كانت قادمه
سواء تمّ الخطف او لم يتم، اذ ان
الخطط كانت جاهزه والتنسيق
مستمر وكانت المسألة فقط هو
متى؟
وثالثاً، من المؤكد ان دماراً
كبيراً قد حلّ بلبنان ولا سيما
في جنوبه وفي الضاحيه الجنوبيه
من بيروت، ولكن هذا الدمار قابل
للاصلاح والترميم، ومنه ما يرمم
آجلاً ومنه ما يعاد بناؤه بعد
فترة زمنيه. وطبعاً لكل هذا
تكلفه. اما الدمار الذي اصاب
اسرائيل فانه غير قابل للاصلاح.
والقصد هنا هو الدمار الذي لحق
بالبنيه السياسيه والاجتماعيه.
ان من يطالع الوضع الداخلي في
اسرائيل يشعر وكأن حرباً اهليه
قد اندلعت بين جنرالات الجيش،
وبينهم وبين القاده السياسيين،
وبين قيادة الدوله واحزاب
المعارضه. وعلى سبيل المثال
فقط، فقد انتقد رئيس الاركان
الاسرائيلي السابق، موشيه
يعلون، رئيس الوزراء وقد نعى
عليه عدم خبرته العسكريه، فرد
رئيس الوزراء بجواب حاد
مستهزئاً "أي حرب ادار بوغي
[يعلون]؟.. هل الدخول الى مخيم
لاجئين في جنين؟ أهذه
حرب؟" (هاارتس 21/9/2006). حتى ان
تشكيل لجنة لتقصّي الحقائق تثير
مطاحنات ومشاحنات بين رئيس
الوزراء ووزير دفاعه، وفي
النهايه لم تشكل لجنة تحقيق
رسميه، فقد رفض رئيس الوزراء
لجنة "لفحص جذور الاخفاقات
والتقصيرات في الحرب.." . وقام
مراقب الدوله بتوجيه جهازه
لتفحص جميع افعال الحكومه
ووزراءها وهيئات المراقبه فيها
(هاآرتس 20/9/2006). وهذه الخطوه وجدت
معارضه من رئيس الحكومه.
ويتساءل قادة اسرائيل عن كيفية
"ترميم قوة الردع
الاسرائيليه" (يديعوت
احرونوت، 20/9/2006)، وعلقت معاريف
على الوضع الاسرائيلي بقولها:
"لقد عافت نفس الجمهور العريض
منظر القاده المتنازعين فيما
بينهم، ويزداد الشك في قلوب
الكثيرين حول قدره هذه الحكومه
على تصحيح الاخطاء
والتقصيرات..."(20/9/2006).
وبعد، فاني ادرك ان الآم الناس
لا يمكن تعويضها بسبب فقدان
عزيز، ولكن رأيت سيدة من الجنوب
على شاشة التلفزيون وقد هدم
بيتها وكانت تقف الى جواره،
واجابت المراسل الذي يسألها عن
الدمار الذي لحق بها : "ومين
بيعتقد انه بيعمر ويبني ويظل
عماره قائم واسرائيل الى
جواره؟!". لا اعمار مع وجود
اسرائيل. انه درس لكل الطامحين
الى سلام مع هذه المستوطنه
المتوحشه.
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|