ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

السبت 14/10/2006


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

إصدارات

 

 

    ـ القضية الكردية

 

 

   ـ أبحاث    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


 

العبور بالدم إلى أسدستان

د. هشـام الشـامي

لقد كان المكان كئيباً مظلماً ضيقاً مخيفاً ، و كنت أشعر فيه بخوف شديد لم أشعر به من قبل ، فوجهي شاحب أصفر يقطر عرقاً بارداً ، و جوفي جاف متشقق كالأرض العطشى ، و الغصة تخنق حلقي ، و قلبي يخفق أسرع بمرتين أو أكثر من عقرب الثواني لساعة الحائط السوداء التي حُفرت عليها ثعابين متشابكة ، و كل من تجمهر حولي غلاظ شداد ، سود الوجوه ، لا تعرف قلوبهم الرحمة ، هذا إذا كانت لهم قلوب ، كانوا يصفعونني بأكفهم على خدّيّ بكل لؤم و حقد و شراسة ، فإذا ما سقطت مغشياً علي من شدة الصفعات ، سكبوا المياه الباردة على رأسي ليعيدوني إلى حالة الصحو ، و يتابعوا  مسلسل اللكمات و الصفعات و حملة التعذيب التي لا ترحم من جديد  ، و كانوا يرفعون قدمي بقسوة ليشدوا على ساقيّ عصا الفلق الغليظة ، و كنت بسبب ضعفي و انهياري و غيبوبتي المتكررة بحالة لا تسمح لي أن أفهم أو استوعب ما يريدونه مني ، لكنني كنت أسمع أقذع و أشنع و أفظع كلمات السباب و الشتم البذيئة ، و ألفاظ الكفر الشنيعة ، و فهمت أنهم يريدونني أن أعترف ، بماذا سأعترف ؟ و كيف أظلم نفسي و أنسب لها ما لم تفعله و أنا ابن السابعة عشر و قد أنهيت دراستي الثانوية للتو ، و أريد أن التحق بالجامعة ، و لم أكن أعرف سوى مدرستي و كتبي و مذاكرتي و دروسي ، حتى أنني قصّرت في صلة رحمي و صحبي ، بسبب دراستي و اجتهادي ، و امتنعت عن متابعة البرامج  التلفزيونية ، و معرفة آخر الأخبار ، و خاصة في السنة الأخيرة التي حددت مصيري ، و حققت طموحي و طموح والديّ و حصلت على مرتبة متقدمة على مستوى مدرستي و محافظتي ، جعلتني راضياً عن نفسي ، و رفعت رأس والديّ عالياً .

كانت المرة الأولى في حياتي – حسب ما أذكر - التي أصفع بها ، و أضرب بها ، و أنا الطفل المطيع المدلل ، الذي لا يعصي والديه ، و يعرف ما له و ما عليه ، و كانت مجرد نظرة والدي المستنكرة لتصرّفٍ ما قمت به و لم يعجبه ، تجعلني أتألم و أحزن لأسبوع و ربما أكثر ، و ربما ما ذلت أذكر تلك النظرات الحادة منه وسببها حتى الآن ، بسبب ندرتها و محدوديتها و تأثيرها العميق في نفسي الحساسة المرهفة .

و كنت رغم هلعي و خوفي و ألمي و ذلي و انكساري بين يدي هؤلاء المجرمين الحاقدين ، أسأل نفسي : ماذا يريد مني هؤلاء الطغاة المجرمون ؟ ؛ لماذا أحضروني إلى هنا ؟ ؛ و متى و كيف أحضروني ؟ ؛ فأنا لا أذكر في تلك اللحظات العصيبة متى و كيف تم ذلك ؟ ، ربما لأنهم خدروني حين اختطفوني ، أو ربما فقدت ذاكرتي القريبة من شدة الضرب المبرح على رأسي و جسدي .

كان شريط الذكريات يمر بي كلمح البرق و أنا أتلقى أشد الصفعات و اللكمات ، و أسمع أبشع و أشنع الكلمات ، مرت صورة والدي الذي كان يراني حلمه الكبير و أمله الوثير و هو يطبع قبلة على جبيني و يدعو لي بالنجاح و التوفيق ، و أن أكون أفضل و أسعد مخلوق على وجه المعمورة . و مرت صورة والدتي الحنون و قد حملت لي كأساً من الشاي الساخن  الذي أحب ؛ و وضعته أمامي على طاولة الدراسة ؛ و هي تقول لي : ألا تريدني أن أحضّر لك العشاء ، فأنت لم تأكل جيداً هذا اليوم ؟ . و مرت صورة جدتي العجوز و هي تشد كتابي من بين يدي و تقول لي : ارحم نفسك و دع عنك هذا الكتاب قليلاً ، و أذهب و ألعب مع أترابك ، أو حتى اجلس و شاهد أحد المسلسلات أو البرامج التلفزيونية و روّح قليلاً عنك . و مرت صورة أخوتي و أخواتي و هم يسألونني أن أساعدهم في شرح درس أو حل مسألة . و مرت صورة حيّنا الشعبي الوادع الذي تحف شوارعه الضيقة شجيرات الياسمين و الريحان فيعبق منها أجمل و أعطر عبير ، و مرت صورة مدرستي و أساتذتي و زملائي في الصف و قد وقفت أمامهم أحل مسألة عجز عدد من الزملاء قبلي عن حلها ؛ و عدت إلى مقعدي و كلمات الإطراء من أستاذي تطرب مسمعي ، و تزكي روحي و ترفعها لتجعلها تحلق في سابع سماء . و مرت صورة الاعتقالات التي حصلت هذا العام في مدرستي عندما حاصرت مجموعة من المخابرات  و القوات الخاصة المدرسة ، و اقتحمتها ، و دخلت غرفة المدير ، و قامت باستدعاء عدد من الأساتذة الأفاضل الذين كانوا يدرسوننا ، و كان منهم أستاذ الرياضيات الذي خرج حين طلبه أحد الرفاق الموجهين و عنصرين من المخابرات ، قرعوا باب الصف علينا ، ثم طلبوا منا الهدوء و عدم الحركة ، و قالوا للأستاذ : تفضل معنا دقيقتين . ثم خرج و لم يعد – و قيل بعدها أنه لن يعود أبداً - ، و سيق مع زملائه و زج بهم بعنف و قسوة في مركبات المخابرات بعد أن عصبت أعينهم و وضعت الأغلال في أيديهم وراء ظهورهم ، و أمام طلابهم و زملائهم بشكل مهين ، بعد أن كانوا أمثولتنا العليا و قدوتنا المهابة .

و تذكرت عمي الذي سافر منذ أسابيع إلى الكويت ، بعد أن اشترى تأشيرة عمل هناك بمبلغ كبير، و هو يودعنا و عيوننا جميعاً قد اغرورقت بالدموع حسرة و لوعة ، لأننا نعلم أنه لن يعود أبداً ، بعد تلك المحنة القاسية التي تعرض لها في وطنه ، و بعد أن جروه من مكتبه في وسط المدينة إلى فرع المخابرات ، ليذوق أبشع ألوان الذل و الهوان ، و ليخرج بعد ثلاثة شهور ، و قد خسر أكثر من ثلث وزنه ، و غابت البسمة التي كانت تزين شفتيه من غير عودة ، و بدا شاحباً حزيناً مكتئباً و هو يرينا أثار التعذيب على ظهره و مرفقيه و أخمص قدميه ، و لكنه - و رغم ذلك - كان يحمد الله كثيراً لأنه من القلة القليلة الذين كتب لهم  الخروج من هذا القبر المخابراتي الفظيع ؛ رغم أن تهمته كما قالوا له : هي تشابه بين اسمه و اسم أحد المطلوبين ، و تذكرت لحظة صعوده إلى الطائرة و هو يتلفت إلينا و يمشي متباطئاً متثاقلاً ، و كأنه يقول : أحبكم ؛ أحب وطني ؛ و الله أنني لا أريد أن أفارقكم ، لكنني لا أحتمل التعذيب و الهوان . و نحن نسند في تلك اللحظات جدتي العجوز المريضة التي انهارت و سقطت مغشياً عليها ( و التي ماتت بعد سنوات و الحسرة تأكل كبدها على رؤية ولدها المهاجر ) ، و أما والدي فكان يبكي و ينتحب كمن فقدت وحيدها .

هذا ما أذكره من شريط الذكريات الذي عبر بسرعة في خيالي خلال لحظات ؛ لأصحو بعدها من صدى صفعة شديدة ؛ و أجد نفسي مبلل الرأس و الثياب ، مخفوض الرأس و مرفوع القدمين ، و أبرة سحب الدم في يدي ، و أكياس الدم الممتلئة أمامي ، و حولي بعض الممرضين الذين يسعفونني بالضرب و سكب المياه على رأسي ، و زميلي و صديق طفولتي سعيد الذي جاء معي لنتبرع بالدم لإحضار وثيقة التبرع بالدم و إكمال الملف المطلوب منا للتسجيل في الجامعة يقول لي : الحمد لله على السلامة . بينما الممرض الذي كان قد غرز الإبرة الغليظة في ساعدي يقول لي : لقد أغرتنا صحتك و شبابك ؛ و طمعنا بزمرة دمك النادرة ، فسحبنا منك وحدتين من الدم ، فإذا بك تنهار سريعاً مغشياً عليك .

عندها فقط عرفت أنني ما زلت في بنك الدم ، فبدأت ألملم جراحي و استجمع قوتي و أنا أحاول الجلوس بمساعدة سعيد ، ثم تنهدت و زفرت زفرة حارة طويلة أفرغت بعضاً من نار هذا الكابوس الرهيب ، و تناولت من يد سعيد كأس عصير البرتقال البلدي الماوردي المخضب بالحمرة ؛ لأتجرعه و أطفئ نار جوفي المستعرة بالآلام و الحسرات على محنة وطني الحبيب السليب  .

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ