العبور
بالدم إلى أسدستان
د.
هشـام الشـامي
لقد كان المكان
كئيباً مظلماً ضيقاً مخيفاً ، و
كنت أشعر فيه بخوف شديد لم أشعر
به من قبل ، فوجهي شاحب أصفر
يقطر عرقاً بارداً ، و جوفي جاف
متشقق كالأرض العطشى ، و الغصة
تخنق حلقي ، و قلبي يخفق أسرع
بمرتين أو أكثر من عقرب الثواني
لساعة الحائط السوداء التي
حُفرت عليها ثعابين متشابكة ، و
كل من تجمهر حولي غلاظ شداد ،
سود الوجوه ، لا تعرف قلوبهم
الرحمة ، هذا إذا كانت لهم قلوب
، كانوا يصفعونني بأكفهم على
خدّيّ بكل لؤم و حقد و شراسة ،
فإذا ما سقطت مغشياً علي من شدة
الصفعات ، سكبوا المياه الباردة
على رأسي ليعيدوني إلى حالة
الصحو ، و يتابعوا
مسلسل اللكمات و الصفعات و
حملة التعذيب التي لا ترحم من
جديد ،
و كانوا يرفعون قدمي بقسوة
ليشدوا على ساقيّ عصا الفلق
الغليظة ، و كنت بسبب ضعفي و
انهياري و غيبوبتي المتكررة
بحالة لا تسمح لي أن أفهم أو
استوعب ما يريدونه مني ، لكنني
كنت أسمع أقذع و أشنع و أفظع
كلمات السباب و الشتم البذيئة ،
و ألفاظ الكفر الشنيعة ، و فهمت
أنهم يريدونني أن أعترف ، بماذا
سأعترف ؟ و كيف أظلم نفسي و أنسب
لها ما لم تفعله و أنا ابن
السابعة عشر و قد أنهيت دراستي
الثانوية للتو ، و أريد أن التحق
بالجامعة ، و لم أكن أعرف سوى
مدرستي و كتبي و مذاكرتي و دروسي
، حتى أنني قصّرت في صلة رحمي و
صحبي ، بسبب دراستي و اجتهادي ،
و امتنعت عن متابعة البرامج
التلفزيونية ، و معرفة آخر
الأخبار ، و خاصة في السنة
الأخيرة التي حددت مصيري ، و
حققت طموحي و طموح والديّ و حصلت
على مرتبة متقدمة على مستوى
مدرستي و محافظتي ، جعلتني
راضياً عن نفسي ، و رفعت رأس
والديّ عالياً .
كانت المرة الأولى
في حياتي – حسب ما أذكر - التي
أصفع بها ، و أضرب بها ، و أنا
الطفل المطيع المدلل ، الذي لا
يعصي والديه ، و يعرف ما له و ما
عليه ، و كانت مجرد نظرة والدي
المستنكرة لتصرّفٍ ما قمت به و
لم يعجبه ، تجعلني أتألم و أحزن
لأسبوع و ربما أكثر ، و ربما ما
ذلت أذكر تلك النظرات الحادة
منه وسببها حتى الآن ، بسبب
ندرتها و محدوديتها و تأثيرها
العميق في نفسي الحساسة المرهفة
.
و كنت رغم هلعي و
خوفي و ألمي و ذلي و انكساري بين
يدي هؤلاء المجرمين الحاقدين ،
أسأل نفسي : ماذا يريد مني هؤلاء
الطغاة المجرمون ؟ ؛ لماذا
أحضروني إلى هنا ؟ ؛ و متى و كيف
أحضروني ؟ ؛ فأنا لا أذكر في تلك
اللحظات العصيبة متى و كيف تم
ذلك ؟ ، ربما لأنهم خدروني حين
اختطفوني ، أو ربما فقدت ذاكرتي
القريبة من شدة الضرب المبرح
على رأسي و جسدي .
كان شريط الذكريات
يمر بي كلمح البرق و أنا أتلقى
أشد الصفعات و اللكمات ، و أسمع
أبشع و أشنع الكلمات ، مرت صورة
والدي الذي كان يراني حلمه
الكبير و أمله الوثير و هو يطبع
قبلة على جبيني و يدعو لي
بالنجاح و التوفيق ، و أن أكون
أفضل و أسعد مخلوق على وجه
المعمورة . و مرت صورة والدتي
الحنون و قد حملت لي كأساً من
الشاي الساخن
الذي أحب ؛ و وضعته أمامي
على طاولة الدراسة ؛ و هي تقول
لي : ألا تريدني أن أحضّر لك
العشاء ، فأنت لم تأكل جيداً هذا
اليوم ؟ . و مرت صورة جدتي العجوز
و هي تشد كتابي من بين يدي و تقول
لي : ارحم نفسك و دع عنك هذا
الكتاب قليلاً ، و أذهب و ألعب
مع أترابك ، أو حتى اجلس و شاهد
أحد المسلسلات أو البرامج
التلفزيونية و روّح قليلاً عنك .
و مرت صورة أخوتي و أخواتي و هم
يسألونني أن أساعدهم في شرح درس
أو حل مسألة . و مرت صورة حيّنا
الشعبي الوادع الذي تحف شوارعه
الضيقة شجيرات الياسمين و
الريحان فيعبق منها أجمل و أعطر
عبير ، و مرت صورة مدرستي و
أساتذتي و زملائي في الصف و قد
وقفت أمامهم أحل مسألة عجز عدد
من الزملاء قبلي عن حلها ؛ و عدت
إلى مقعدي و كلمات الإطراء من
أستاذي تطرب مسمعي ، و تزكي روحي
و ترفعها لتجعلها تحلق في سابع
سماء . و مرت صورة الاعتقالات
التي حصلت هذا العام في مدرستي
عندما حاصرت مجموعة من
المخابرات و
القوات الخاصة المدرسة ، و
اقتحمتها ، و دخلت غرفة المدير ،
و قامت باستدعاء عدد من
الأساتذة الأفاضل الذين كانوا
يدرسوننا ، و كان منهم أستاذ
الرياضيات الذي خرج حين طلبه
أحد الرفاق الموجهين و عنصرين
من المخابرات ، قرعوا باب الصف
علينا ، ثم طلبوا منا الهدوء و
عدم الحركة ، و قالوا للأستاذ :
تفضل معنا دقيقتين . ثم خرج و لم
يعد – و قيل بعدها أنه لن يعود
أبداً - ، و سيق مع زملائه و زج
بهم بعنف و قسوة في مركبات
المخابرات بعد أن عصبت أعينهم و
وضعت الأغلال في أيديهم وراء
ظهورهم ، و أمام طلابهم و
زملائهم بشكل مهين ، بعد أن
كانوا أمثولتنا العليا و قدوتنا
المهابة .
و تذكرت عمي الذي
سافر منذ أسابيع إلى الكويت ،
بعد أن اشترى تأشيرة عمل هناك
بمبلغ كبير، و هو يودعنا و
عيوننا جميعاً قد اغرورقت
بالدموع حسرة و لوعة ، لأننا
نعلم أنه لن يعود أبداً ، بعد
تلك المحنة القاسية التي تعرض
لها في وطنه ، و بعد أن جروه من
مكتبه في وسط المدينة إلى فرع
المخابرات ، ليذوق أبشع ألوان
الذل و الهوان ، و ليخرج بعد
ثلاثة شهور ، و قد خسر أكثر من
ثلث وزنه ، و غابت البسمة التي
كانت تزين شفتيه من غير عودة ، و
بدا شاحباً حزيناً مكتئباً و هو
يرينا أثار التعذيب على ظهره و
مرفقيه و أخمص قدميه ، و لكنه - و
رغم ذلك - كان يحمد الله كثيراً
لأنه من القلة القليلة الذين
كتب لهم الخروج
من هذا القبر المخابراتي الفظيع
؛ رغم أن تهمته كما قالوا له : هي
تشابه بين اسمه و اسم أحد
المطلوبين ، و تذكرت لحظة صعوده
إلى الطائرة و هو يتلفت إلينا و
يمشي متباطئاً متثاقلاً ، و
كأنه يقول : أحبكم ؛ أحب وطني ؛ و
الله أنني لا أريد أن أفارقكم ،
لكنني لا أحتمل التعذيب و
الهوان . و نحن نسند في تلك
اللحظات جدتي العجوز المريضة
التي انهارت و سقطت مغشياً
عليها ( و التي ماتت بعد سنوات و
الحسرة تأكل كبدها على رؤية
ولدها المهاجر ) ، و أما والدي
فكان يبكي و ينتحب كمن فقدت
وحيدها .
هذا ما أذكره من
شريط الذكريات الذي عبر بسرعة
في خيالي خلال لحظات ؛ لأصحو
بعدها من صدى صفعة شديدة ؛ و أجد
نفسي مبلل الرأس و الثياب ،
مخفوض الرأس و مرفوع القدمين ، و
أبرة سحب الدم في يدي ، و أكياس
الدم الممتلئة أمامي ، و حولي
بعض الممرضين الذين يسعفونني
بالضرب و سكب المياه على رأسي ،
و زميلي و صديق طفولتي سعيد الذي
جاء معي لنتبرع بالدم لإحضار
وثيقة التبرع بالدم و إكمال
الملف المطلوب منا للتسجيل في
الجامعة يقول لي : الحمد لله على
السلامة . بينما الممرض الذي كان
قد غرز الإبرة الغليظة في ساعدي
يقول لي : لقد أغرتنا صحتك و
شبابك ؛ و طمعنا بزمرة دمك
النادرة ، فسحبنا منك وحدتين من
الدم ، فإذا بك تنهار سريعاً
مغشياً عليك .
عندها فقط عرفت
أنني ما زلت في بنك الدم ، فبدأت
ألملم جراحي و استجمع قوتي و أنا
أحاول الجلوس بمساعدة سعيد ، ثم
تنهدت و زفرت زفرة حارة طويلة
أفرغت بعضاً من نار هذا الكابوس
الرهيب ، و تناولت من يد سعيد
كأس عصير البرتقال البلدي
الماوردي المخضب بالحمرة ؛
لأتجرعه و أطفئ نار جوفي
المستعرة بالآلام و الحسرات على
محنة وطني الحبيب السليب
.
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|