يومَ
ينقلب السحر على الساحر
الطاهر
إبراهيم*
قبل إبرام اتفاق الطائف عام 1989
جرت عدة محاولات لسحب فتيل
الاقتتال بين اللبنانيين من قبل
جهات كان أبرزَها لجانٌ شكلتها
الجامعة العربية، وآخرها كان
اللجنة الثلاثية عام 1988 التي
شاركت فيها المملكة العربية
السعودية بشخص وزير خارجيتها
الأمير سعود الفيصل. وما تزال
صورة الأمير منطبعة في ذهني وهو
يعلن فشل الوساطة، وأن سورية
كانت وراء الفشل، وأن العراق
ساهم بشكل إيجابي لدعم اتفاق
ينهي الاقتتال. الذين يعرفون
"البئر وغطاءه"، يعلمون أن
النظام السوري كان يستمد قوته
في لبنان من "اتفاق جنتلمان"
تم مع واشنطن عام 1976 ،سمح فيه
للجيش السوري بدخول لبنان لوقف
زحف قوات
"ياسر عرفات" على
المليشيات المسيحية.
بعد ذلك دعت السعودية أعضاءً
مجلس النواب اللبناني إلى عقد
مؤتمر في مدينة الطائف لتدارس
الأمر والخروج باتفاق، اعتبر في
حينه بمثابة دستور مواز للدستور
اللبناني، يحكم العلاقة بين
الطوائف اللبنانية المتخاصمة
من خلال تحديد صلاحيات الرؤساء
الثلاثة في لبنان، رئيس
الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء
ورئيس مجلس النواب.
ولأن أعضاء المؤتمر والداعين له
أدركوا أن الاتفاق لن يمر إلا
إذا رضيت عنه سورية، فقد اقتضى
الأمر العودة ،في كل مرة، إلى
دمشق في بنود الطائف الأساسية.
ولأن الرئيس اللبناني قبل
الطائف لم يكن مضمون الولاء
لسورية فقد سعت هذه لإشراك
الحكومة ببعض صلاحيات رئيس
الجمهورية. ولأن الموالين
لسورية قد لا يشكلون أكثرية في
الحكومة فقد فرض "الطائف"
أن تكون قرارات الحكومة مرهونة
للثلث المعطل، الذي قد يعطل
حركة الحكومة والرئيس، إذا لم
تكن القرارات على هوى سورية،
خصوصا لجهة بقاء القوات السورية
في لبنان. وهكذا انتُخِب "رينيه
معوض" أول رئيس للجمهورية بعد
اتفاق الطائف. ولأنه جاء على غير
ما تريده قوى إقليمية معروفة
فقد تم قتله وإزاحته من الطريق.
وما كان لأحد بعد "معوض" أن
يقامر برأسه فجاء "الياس
الهراوي" وفق أجندة دمشق.
وفي عهد "الهراوي"، جرت أول
انتخابات نيابية في لبنان بعد
"الطائف"، ثم جرت انتخابات
لدورة نيابية ثانية وجاء المجلس
الثاني كما جاء الأول وفق ما
تريده دمشق. ولأن الأمور بين
واشنطن ودمشق ،في حينه، كانت
"سهيدة ومهيدة"، فقد تم
التمديد ثلاث سنوات للرئيس
الهراوي خوفا من أن يأتي رئيس
غير مضمون الولاء لدمشق، تجري
انتخابات نيابية في عهده تأتي
بنواب يعملون على تحريك دفة
لبنان بما لا تشتهيه سفن دمشق.
في عهد الرئيس "حافظ أسد"،
لم يستطع معارضو الوجود السوري
في الحكومة اللبنانية أن
يستصدروا قرارا برحيل القوات
السورية من لبنان، لأن الطائف
يفترض موافقة الحكومة
اللبنانية على خروج القوات
السورية من لبنان، وكان هناك
دائما رئيس جمهوريةٍ موالٍ
وحكومةٌ موالية بأكثريتها
لسورية، والأهم من ذلك أن رياح
واشنطن كانت تهب في اتجاه جريان
السفينة السورية، وكان الرئيس
الراحل ربانا ماهرا. أما في عهد
الرئيس "بشار أسد" فقد بدأت
الرياح تغير من اتجاهها وسرعتها.
وفاقم الأمر إصرار الرئيس
السوري على فرض تمديد للرئيس
"إميل لحود"، على غرار ما
جرى مع الرئيس "الهراوي".
كما بات المناخ الدولي غير
مواتٍ، ما أدى لصدور القرار 1559
لعام 2004 ،الذي أكد على أن يُترك
اللبنانيون وأمْرَ اختيار
رئيسهم الجديد من دون تدخل
خارجي.
وبحسبة خاطئة ممن خطط له، فقد جاء
اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق
"رفيق الحريري" في 14 شباط
2005 ليقصم ظهر الوجود السوري في
لبنان ويزيد "طينته بلة".
هذا المناخ المشحون بالعواصف
جعل الرئيس السوري يأمر قواته
بمغادرة لبنان في 26 نيسان "أبريل"
2005 ، وإن بقيت واشنطن تؤكد بقاء
المخابرات السورية فيه. وما زاد
هذا التأكيد قوة وقوع اغتيالات
ومحاولات اغتيال بعد خروج
القوات السورية من لبنان.
تشكيل المحكمة الدولية التي
ستحاكم المشتبه بهم في قضية
اغتيال الشهيد "الحريري"،
ألقى بظلامه الحالك على النظام
السوري وحلفائه في لبنان. ما جعل
الأمور تختلط على هؤلاء، وما
جعل أكثرية اللبنانيين يتحسبون
من أي تصرف طائش غير محسوب، قد
يوقع الجميع في ورطة أشد وأبقى.
ولا شك أن خبراء اتفاق الطائف
،من داخل لبنان وخارجه، وجدوا
أن الذي خطط له الموالون للنظام
السوري أثناء مداولات مؤتمر
الطائف، أوقعهم في شرك نصبوه
لغيرهم. فقد نص اتفاق الطائف على
أنّ تكليف رئيس الجمهورية لأي
رئيس جديد للحكومة، ينبغي أن
يسبقه ترشيحات ملزمة من قبل
النواب، ما يعني أن الرئيس لا
يستطيع تشكيل حكومة تصريف أعمال
إذا ما أقال الحكومة الحالية،
لأن هذه تحظى بأكثرية مريحة
مؤيدة في مجلس النواب ،ما يعني
أنها هي التي ستكون حكومة تصريف
الأعمال.
لقد حرص الموالون لسورية، عندما
كُتِب اتفاق الطائف، أن يُنَصّ
فيه على إشراك الحكومة -بشخص
رئيسها- مع رئيس الجمهورية
بالتوقيع على الاتفاقيات
الدولية. وما كانوا يظنون أن
يأتي يومٌ ينقلب فيه السحر على
الساحر، كماهو حاصل الآن في
موضوع التصديق على بروتوكول
المحكمة الدولية. فرئيس
الجمهورية لا يستطيع رفض
البروتوكول لأن الحكومة شريك له
في اعتماده أو رفضه. النظام
السوري يحاول المستحيل بحيث لا
تصبح هذه المحكمة حقيقة واقعة،
حتى ولو اقتضى الأمر المقامرة
بأمن واستقرار لبنان. مالا
يدركه الذين أدمنوا المقامرة
بمصائر الشعوب وهم جالسون في
قصورهم، تأتيهم أخبار الدمار
عبر أسلاك الهاتف أو موجات "الموبايل"،
(كما فعل "نيرون" من قبْلُ
وهو يتفرج من قصره على حريق روما.
أو يوم تم اغتيال الشهيد "رفيق
الحريري" حيث كانت تُنقَل
أخبار التفجير أولا بأول -عبر
الموبايل- إلى الذين خططوا لهذا
الفعل الآثم)، أنه "ليس في كل
مرة تسلم الجرة" وأنه ربما
جاء الدور عليهم ليكونوا أول
الخاسرين.
ويبقى أن يعرف المقامرون أنه
ربما لم تبق إلا شعرة واحدة
ويكتمل بهاالضغط الذي يقصم ظهور
الطغاة، "وسيعلم الذين ظلموا
أي منقلب ينقلبون".
*كاتب سوري
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|