ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الخميس 02/11/2006


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

إصدارات

 

 

    ـ القضية الكردية

 

 

   ـ أبحاث    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


 

من نظام الحزب الواحد إلى الديمقراطية!

تجربة المجر

د. فاضل الخطيب / بودابست

بدون طلقة رصاصة واحدة أعطى نظام الحزب الواحد مكانه للديمقراطية, وقد وضع قوانين التحول الديمقراطي السلمي البرلمان الذي كان خاضعاً له!

عالم بكامله سقط في الهاوية ونظام عالم جديد بدأ في النهوض, لكن النظر إلى قوة تغيير النظام تبقى كقوة الثورات الكبيرة, ورغم ذلك انتقل المجتمع المجري(الهنغاري) من عالم إلى عالم آخر بدون أن يحدث أي خلل دستوري ولو للحظة واحدة, فهل يا ترى يتعامل المجريون بحضارة حتى في الديكتاتورية!!

انهيار الأنظمة الاشتراكية"الشيوعية" والذي تمّ خلال سنوات معدودة اتّبع كل منها طريقاً يختلف عن الآخر.

في هنغاريا حصل التحول نحو الديمقراطية خلال ثلاث سنوات(1987 ـ 1990), ويمكن اعتباره طريقاً خاصاً لم تسلكه أية دولة اشتراكية آنذاك.

التغيرات "الثورية" التي تمت كانت بشكل عام سلمية وعن طريق المباحثات ودون إطلاق رصاصة واحدة, وتم الانتقال وإدارة الدولة بدون أن ترافقه أية فوضى, وإنما على أساس ديمقراطي دستوري وضمن قوانين دستورية وضع أساسها الحزب الحاكم سابقاً وبتأثير من الاتجاه الإصلاحي في الحزب نفسه!

فترة التحول السلمية هذه أنهت نظام الحزب الواحد وأحلت محله نظام التعدد الحزبي وأنهت نظام الملكية الحكومية ووضعت الأسس لانتقالها للملكية الخاصة ونظام السوق, وإلى جانب ذلك نال البلد استقلاليته الكاملة. وكانت الشعارات التي وُضعت حينها"إصلاح واستحقاق, إصلاح وديمقراطية, عقد إجتماعي,...".

وكانت تلك الشعارات قد ظهرت في عام(1986 ـ 1987), وأول تنظيم(حزب) سياسي معارض كان المنبر الديمقراطي المجري والذي تأسس في 27 سبتمبر 1987.

وكان قد بدأ حزب العمال الاشتراكي المجري(الحزب الشيوعي) ـ كان قد بدأ في سلسلة مباحثات مع المعارضة في يونيوـ سبتمبر 1989 وسُميت حينها"الطاولة المستديرة الوطنية" وفي 23 أكتوبر 1989 تمّ الإعلان عن التخلي عن تسمية جمهورية المجر الشعبية واستبدالها بجمهورية المجر وهي إشارة من الحزب الحاكم حينها(الشيوعي) عن التخلي عن بعض مفاهيمه الإيديولوجية والانفتاح على المعارضة وعلى الشعب.

وفي مارس ـ ابريل 1990 تمت إجراء انتخابات ديمقراطية ـ متعددة الأحزاب بكل معنى الكلمة, وكان نظام الخصخصة ـ بيع المؤسسات الحكومية الخاسرة للقطاع الخاص قد بدأ بشكل قانوني رسمي. كذلك تمّ الاتفاق مع السوفييت على سحب قطعاته العسكرية والتي كانت متواجدة منذ الحرب العالمية الثانية و"بشكل مؤقت" وبدأ سحبها في إبريل 1989 وأنهت انسحابها بشكل كامل في يونيو 1991, وفي نفس الوقت تمّ الانسحاب من حلف وارصو ومجلس التعاون الاقتصادي.

ومما لاشك فيه أنه ساعد في عملية التغيير الديمقراطي ضعف الاتحاد السوفييتي وخسارته العالمية التاريخية أمام الولايات المتحدة الأمريكية, كما ساعد ذلك الخصوصيات الاجتماعية والاقتصادية التي كانت موجودة في بلدان أوربا الشرقية.

ويمكن تقسيم فترة التحول الديمقراطي في هنغاريا والتي تمت خلال ثلاث سنوات إلى ثلاث مراحل, آخذين بالاعتبار التغيّر السياسي في هيكلية القيادة للحزب الحاكم وإلى تأثيرات أنظمة سياسية واقتصادية وقانونية في علاقات هيكل الدولة والمجتمع وخاصة التأثيرات الثقافية لمجموعة من المثقفين المجريين, وهذه العناصر والخصوصيات لم تكن دائماً في تفاعل وانسجام تام. إذاً كان هناك تحرك إجتماعي محدود سمح فيه النظام وكان هناك تأثير لمراكز القوى داخل الحزب الحاكم, وبعض الأحداث كانت مرتبطة بقضية ما أو قرار سياسي أو تغيير في هيكلية الحزب الحاكم.

الفترة الأولى كانت منذ صيف 1987 وحتى صيف 1988,

الفترة الثانية من مايو 1988 إلى سبتمبر 1989, وهي الفترة التي وافق فيها الحزب على"الطاولة المستديرة الوطنية",

الفترة الثالثة منذ سبتمبر 1989 حتى خريف 1990, وهي الفترة التي تمت فيها الانتخابات البرلمانية والمحلية, وكانت فترة التغيير الجذري بكل جوانبه.

لقد حمل تغيير النظام صفات الثورة لكنه لم يحمل خصائص ومميزات الثورة, والتي وضعت الأسس للتحول الاقتصادي وبشكل أوسع التحول الاجتماعي.

ومن مميزات تغيير نظام الهيكلية السياسية كان ازدياد في تجمعات مراكز القوى السياسية الفاعلة وهي منظمات لها قواعدها بوجه منظمات الحزب الحاكم,

وتغيير النظام لا يعني بشكل اوتوماتيكي تغيير كل القيادة التي كانت بيدها مقاليد الحكم(القوة), ولا يعني صعود كل الذين كانوا ينادون بالتغيير.

وتغيير الحكم(الإدارة) يتضمن بنفس الوقت تغيير في قيادة الحكم(الصفوة), وتغيير في القيادة السياسية وفي القاعدة الجماهيرية المهتمة بالسياسة, وتغيير في البنية الهيكلية القانونية للحكم والإدارة مع تغيير الأفراد والمشرفين على ذلك, ثم التغيير في إيجاد أنظمة اتخاذ القرار والتنفيذ.

أي أن تغيير النظام يعني تغيير في المؤسسات والهياكل الحكومية والمشرفين عليها.

في مارس 1989 تمت سلسلة لقاءات لقوى المعارضة سُميت"الطاولة المستديرة للمعارضة" ثم تحولت إلى"الطاولة المستديرة الوطنية" والتي كانت في البداية لقاءات للمعارضة ثم صارت قوة مستقلة مركزية أجبرت الحزب الحاكم على الاعتراف بها وبدء المباحثات معها, وفي نفس الفترة ازداد تأثير وقوة الاتجاه الاصلاحي داخل الحزب الحاكم, وصارت كممثل رسمي في مباحثاتها مع المعارضة المتحدة(المتفقة على أهدافها العامة).

ومنذ عام 1987 بدأت تظهر برامج راديكالية للمعارضة وبدأت تتحول إلى قوى إجتماعية لها تأثيرها الشعبي, وكما يُعتبر عام 1989 عام المباحثات الجديّة"الطاولة المستديرة" يعتبر أيضاً أهم تاريخ في التغيير الدستوري السلمي للنظام.

وكان اللقاء الأول للطاولة المستديرة من شخصيات كانت تُمثّل تجمعات إجتماعية وسياسية وثقافية, وكان هذا اللقاء غير رسمي, تبادل فيه المجتمعون وجهات النظر واتفقوا على تسمية ناطق رسمي لهم وإنشاء لجنة للتنسيق الداخلي بين المنظمات العديدة للمعارضة, وسُميت حينها بلجنة منتدى منظمات التنسيق البديلة, وكان هدفها تنسيق الحوار بين المنظمات والشخصيات المعارضة. وفي ديسمبر 1989 أصدر المجتمعون بياناً وزعوه للصحف أكدوا فيه تصميمهم وإرادتهم/ كمنظمات سياسية واجتماعية مستقلة / على إجراء التحويلات الدستورية الديمقراطية والاقتصادية في البلد, والارتقاء إلى مستوى المسؤولية من أجل حل المشاكل الاجتماعية والأخلاقية في البلد, واتفاق النظام والمجتمع يمكن أن يتم على أساس المبادئ التي تخدم الشعب المجري وأهدافه.

والجولة الثانية للطاولة المستديرة كانت في يونيو 1989 في إحدى قاعات البرلمان, وكانت بحضور رئيس البرلمان آنذاك(ماتياس سوروش) وكان من جانب الدولة رئيس الحزب(الشيوعي) كارولي غروس, ومن جانب المعارضة(تسع منظمات) كان إيمرا كونيا وكان من جانب المنظمات الشعبية(سبع منظمات) اسطفان كوكوريللي. وتم الاتفاق في 21 يونيو 1989 في جلسة عامة للبرلمان على: تعديل الدستور, نظام للأحزاب, التحضير لإجراء انتخابات برلمانية حرة, تعديل قانون العقوبات وملحقاته, وقف أي عمل عنفي(قمعي) على أساس مواقف سياسية, متابعة المباحثات.

وقد حاول بعض زعماء الحزب الحاكم إبطاء تلك الإجراءات والتملص من تنفيذ بعضها, وقد وصفت الصحافة حينها تلك المباحثات الثلاثية(الحكومة ـ المعارضة ـ المنظمات الشعبية) بأنها "سفينة تُبحر في مثلث برمودا السياسي".

ومنذ شهر آب قاد المباحثات عن الحكومة الإصلاحي المعروف إيمرا بوجغاي والذي كان له فضل كبير في تسريع تلك الإجراءات وتنفيذها.

وشارك(ساهم) في مباحثات"الطاولة المستديرة الوطنية" أكثر من ألف شخص, وشارك بشكل مباشر أكثر من ستين سياسي ومتخصص من أجل صياغة ستة قوانين جديدة, وفي النهاية وافق على تلك النتائج 15 منظمة شعبية من أصل 17 منظمة كما وافقت منظمات المعارضة وعددها تسعة على مسودات القوانين الجديدة التي تم تقديمها للبرلمان لمناقشتها وإقرارها وهي:

1 ـ تعديل الدستور,

2 ـ قانون إنشاء المحكمة الدستورية العليا,

3 ـ قانون عمل وتمويل الأحزاب,

4 ـ قانون الانتخابات,

5 ـ قانون العقوبات,

6 ـ قانون الجنائيات(وهو يعتبر قانون لتنفيذ قانون العقوبات والاجراءات المتعلقة بذلك).

أما مجموعات القوانين التي كانت أساس تغيير النظام فهي:

1 ـ قانون التجمعات والتنظيمات,

2 ـ قانون التظاهر والاجتماعات والاحتجاجات,

3 ـ قانون إنشاء الشركات,

4 ـ قانون الاستفتاءات والمبادرات الشعبية وحملات التواقيع ..

5 ـ قانون الانتخابات البرلمانية.

وكان قد تمَ الاتفاق مع الحكومة على مجموعة قوانين أخرى لكنها لم تطرحها للبرلمان لإقرارها.

ونظرة سريعة على نشوء المعارضة المجرية ودور الحزب الحاكم وأسلوب تعامله معها,

حسب سجلات الأمن السياسي المجري لما قبل 1989 يظهر أنه خلال الـخمسة عشر سنة الأخيرة لنظام الحزب الواحد(منذ أواسط السبعينات) تمت مراقبة 2000 شخص من المعارضين للنظام وكان لكل منهم إضبارة, وهذا لا يعني أنه لم تتم مراقبة آخرين بهذا الشكل أو ذاك, لكن هؤلاء كانوا يُعتبروا أعداء أو معارضين للنظام, وعدد الذين كانوا مراقبين بشكل مستمر كان حوالي 200 شخص.

مقارنة بعدد المعارضة البولونية أو التشيكية آنذاك يظهر أن المعارضة المجرية كانت قليلة ومتواضعة النشاط جداً.

وأول نشاط لهم كان توقيع بيان عام 1977 وكان عددهم 34 شخصاً.

وفي عام 1985 كانت هذه المعارضة في قمة نشاطها حيث عقدت لقاء لها في منطقة ( مونور ) وحضره 45 شخصاً, واعتبر نجاحاً كبيراً جداً عندما استطاعوا الحصول على 350 توقيع على بيان(عريضة) سياسي, وكانت بشكل عام كل نشاطات المعارضة قبل عام 1988 مجرد تجمع صغير في ذكرى الثورة(العيد القومي) أمام تمثال أحد الزعماء التاريخيين, وفي أحسن الحالات كان يصل عدد هكذا تجمعات إلى بضعة مئات!

أي أن حجم المعارضة المجرية كان صغيراً جداً بالمقارنة مع البولونية والتي كان لها نشاط ونفوذ منذ بداية السبعينات.

فالمعارضة البولونية كانت قادرة على تحريك آلاف الأشخاص في مظاهرات في الشوارع أو إضرابات في المعامل وتطورت حتى ظهرت حركة"تضامن" للعمال 1980,

أما في المجر فكانت المعارضة من المثقفين فقط ونادراً جداً ما كان يوجد أحد عمال المصانع, والمعارضة المجرية لم تهدد يوماً أمن النظام.

وتهديد استقرار النظام المجري حينها كان سببه مجموعة عوامل داخلية وخارجية استطاعت المعارضة استغلالها بشكل ذكي وبمسؤولية تاريخية.

ولم يتغير النظام في المجر نتيجة نشاط وقوة المعارضة, بل أن النظام سقط من تلقاء نفسه, وقد لعبت سياسة غورباتشوف دوراً أساسياً لتنشيط القوى الفاعلة والقادرة على التغيير, وقد كان دور المعارضة المجرية وتأثيرها كبيراً جداً مقارنة بحجمها المتواضع!

ومن عوامل تأثير المعارضة المجرية أنها كانت الوحيدة في الدول الاشتراكية والتي كانت على تماس(حوار واحتكاك) دائم مع مسؤولين من النظام. وقد ينظر البعض اليوم لممثلي(رموز) المعارضة من الكتاب والمثقفين ولقاءاتهم السابقة مع قيادات مسؤولة في الحزب والدولة آنذاك ـ ينظرون إليها بعتاب وتشكيك وعدم نزاهة!!

وكانت قيادة الحزب(الشيوعي) بلا استثناء وكل على حدة تلتقي بشكل مباشر أو غير مباشر مع المعارضة(المثقفين) أو مع "أنصاف المعارضة" حينها,

وبالمقابل نرى أن بريجنيف لم يلتق ولا لمرة واحدة مع أية شخصية معارضة لنظامه وكانت لقاءات المعارضة السوفييتية تتم عن طريق المخابرات فقط كما حدث مع ساخاروف وسولجينستين, بينما غوستاف هوساك زعيم تشيكوسلوفاكيا آنذاك كان حواره مع المعارضة عن طريق الشرطة والمخابرات والسجون.

هذه الخاصية المجرية وهي كيف يمكن لزعيم الحزب الحاكم أن يلتقي شخصياً أو من يمثله من قيادة الحزب مع أفراد من المعارضة هذه كانت فريدة من نوعها في أنظمة الحزب الواحد!

وهذه اللقاءات لم تكن لشراء المعارضة أو استدراجهم لصفوف الأمن والمساومة بل كانت قد تخطت كل الإغراءات ولهذا بقيت معارضة.

وفي بداية الثمانينات أرادت السلطة(الحزب الحاكم) إيجاد شيء من الاتفاق(المساومة) مع زعماء المعارضة(المثقفين المعروفين) ليس خوفاً منهم بل تحسباً من تأثيرهم الشعبي الذي بدأ يظهر.

وبعض عناصر المعارضة(الاختصاصيين) كانوا يقتربوا حيناً من النظام ويبتعدوا أحياناً وذلك حسب الظروف والفرص المتاحة آنذاك, أي أنهم كانوا مثل "رقّاص ساعة الحائط" مرة في قلب المعارضة ومرة في قلب السلطة.

وفي الثمانينات صار الإصلاحيون موجودين في داخل المعارضة وكذلك في داخل النظام سواء بشكل مباشر أو غير مباشر وكان هذا عامل ربط بين الطرفين أو شبه جسر بين المعارضة والحكومة.

وكانت قيادة الحزب والحكومة تعرف جيداً المعارضة و"أنصاف المعارضة" ليس من تقارير الأمن وإنما كانت تعرف كل شخص على حدة وبشكل مباشر وكانوا يعرفوا وجهات نظر كل واحد منهم, ومن قيادات الحزب والدولة الذين كانوا يلتقون بالمعارضة راجو نيارش, جورج أتسيل, إيمرا بوجغاي, فرنس هافاشي... وقد شارك أفراد من المعارضة وبشكل دائم تقريباً في ندوات واجتماعات لمسؤولين في الدولة وعمل العديد منهم مثلاً في معهد للاقتصاد كان مديره عضو لجنة مركزية, وبكلمة مختصرة لم يكن حاجة لوجود مخبرين وكتبة تقارير.

ولم يكن في أي بلد إشتراكي أي وزير مثل إيمرا بوجغاي والذي كان دائماً ومنذ نهاية السبعينات يوجد بين أصدقائه بشكل مباشر أو غير مباشر رموز المعارضة المجرية, وكانوا يتحدثون بالتلفون يومياً, وكان يعرف كل شيء عنهم ليس من تقارير الأمن بل من نقاشاتهم وجلساتهم, وكان يعرف رأيهم وتفكيرهم بالنظام ومن هؤلاء المعارضين مثلاً المعارض الشاعر والكاتب شاندور تشوري أو الصحفي زولتان بيرو.

ومن الأمثلة على علاقة المعارضة مع بعض رموز النظام أيضاً أنه دعى  الممثل المعروف مدراس يوجف مرة إلى "مزرعته" الصغيرة مجموعة من رموز المعارضة مع وزير الداخلية آنذاك اسطفان هورفات, وقدمت خلالها المعارضة وجهات نظرها وحججها الداعمة إلى تغيير النظام, وبدل أن يقوم وزير الداخلية باعتقال هؤلاء المعارضة أبدى حزنه وتأثره بما سمعه من الحضور, وكان وقتها على طاولة واحدة إضافة للوزير مجموعة من الأدباء والمثقفين والفنانين, وكانوا على قناعة ويعلنوها صراحة أن النظام غير قادر على إصلاح نفسه ولا بدّ من تغييره.

بينما في رومانيا أو تشيكوسلوفاكيا فالصورة كانت معكوسة وقاتمة جداً,

كانت تعتقد المعارضة المجرية أنه يوجد ضمن النظام أفراد وطنيون إصلاحيون يرغبون بالتغيير وكان هؤلاء الأفراد يؤمنون بأنه يمكن إصلاح النظام, ومن بين هؤلاء كان إيمرا بوجغاي والذي لم يكن يُعرف على أية جهة يحسبونه(عضو في قيادة الحزب ووزير, ويلتقي بكثير مع ما تطرحه المعارضة وتعمل من أجله), وقد عبّر عن ذلك أحد المعارضة في لقاء لها في "لاكي تلاك" حيث قال "هو موجود هنا كعضو لجنة مركزية للحزب الحاكم أو كصديق, شبه معارض والذي دائماً بيننا نأكل ونشرب سوية ويعرف كل صغيرة وكبيرة عنّا!".

وكان هناك تأثير آخر للمعارضة المجرية وهو أن مجموعاتها كانت تقودها أفراد مثقفة نظيفة ونزيهة ومحترمة. ورغم أن قيادة الحزب الحاكم حاولت تهميشهم وتقليل أي دور إيجابي لهم, فمثلاً عن كتّاب المعارضة كانوا يقولون عنهم أنهم أنصاف كتّاب أو متلبسين بثياب الكتّاب أو ما هم بكتّاب...

ومع بداية الثمانينات استطاعت المعارضة كسب شخصيات ثقافية أدبية معروفة والتي كان لوجودها داخل المعارضة تأثير كبير على أسلوب عمل وثقافة المعارضة, وأن كثير من الناس"العامة" كان قد تعرّف على تلك الأسماء من خلال كتبها وآرائها وعملها!

ولو أن النظام لم يكن مهتماً بما تطرحه رموز المعارضة من أفكار لما اهتمّ بالحوار والصلة والعلاقة معها.

مع ازدياد تأثير رموز المعارضة المجرية في الثمانينات لم يعد مهم لهم من يقرأ كتاباتهم بل كان يهمهم كيف يفكر ويتحرك الجيل الجديد, فقد كان الكتّاب الشباب يعتبرون رأي ميكلوش ميسولي أو جورج كونراد مهم جداً لهم والمهتمين بالشؤون الاقتصادية صاروا مهتمين برأي يانوش كيش لتقييم أبحاثهم ورأيهم بما يكتبون...! وهكذا صار المدخل إلى عالم الثقافة يتحدد  إلى أي مدى كان قريباً من رموز المعارضة الثقافية وليس تقييمات الحزب الحاكم ومسؤوليه, وكلما خسر النظام أي فرد من المثقفين لم يستطع تعويضه بالمعنى الفعلي.

المعارضة المجرية توجهت للشعب وليس للسلطة وليس لمجموعة معينة ما وليس لدولة أجنبية, وحتى أواخر الثمانينات لم تستطع المعارضة المجرية التأثير الشعبي الواسع كما فعلت المعارضة البولونية, والسبب يعود إلى أن النظام المجري كان قد سمح بهوامش "تنفيسية", ولم يكن نظام يانوش كادار ـ خصوصاً منذ السبعينات ـ لم يكن شبيه بقمعية أي نظام إشتراكي آخر.

وكان مما لاشك فيه دور للصحافة السرية و"للجامعات الطائرة" والتي كانت نشاطات ثقافية ومحاضرات متنقلة في كل مرة كانت تتم في مكان سري ما(شقة لإحد النشطاء مثلاً).

ويمكن تقسيم أفكار ومصادر المعارضة المجرية إلى عدة مجموعات:

ـ الليبراليين وكان يمثلهم حزب الديمقراطيين الأحرار, ويعود الفضل له في وضع مسودة دستور للفترة الانتقالية وتصورات لفترة ما بعد تغيير النظام وكذلك سياسة اقتصاد السوق الحر كبديل عن الاقتصاد الاشتراكي.

ـ والمجموعة الثانية كانت تستمد أفكارها من جذور ثورة 1956 ضد الوجود السوفييتي والتبعية, وهي منظمات ذات توجه فلاحي وطني قومي.

ـ المجموعة الثالثة كانت تحمل أفكار إشتراكية وطنية وفيها توجهات يسارية ماركسية.

وكان الاتجاه الإصلاحي في الحزب الحاكم يعتقد بإمكانية الإصلاح مع بقاء النظام, وكان لهذا الاتجاه دور رئيسي في تغيير النظام, من حيث أنهم يساريون ومن ضمن النظام بدأوا ينتقدون النظام ولهذا شعر النظام بخطر من داخله وما عاد يمكن معرفة "الرفيق الموثوق فيه" من "الكلب المعارض".

وكان لتصريح إيمرا بوجغاي في بداية 1989 عن أحداث 1956 كإنتفاضة شعبية(والتي كانت تعتبر ثورة مضادة حسب تقييم الحزب, وهي الثورة التي قادها اليساري رئيس الوزراء إيمرا ناج والذي تمّ إعدامه بضغط السوفييت) كان هذا التصريح كالصاعقة على رأس الكثير في قيادة الحزب, وقالوا "هذا التصريح يعني أننا نحن قمنا بسجن وقتل المشاركين في الانتفاضة, أي أن قيادة الحزب هي المدانة وهي التي يجب أن تحاسب".

ونعود للدور الذي لعبته المعارضة المجرية في تغيير النظام قبل 16 عاماً, مما لا شك فيه أن الظروف الخارجية الدولية لعبت الدور الرئيسي في التغيير(سياسة غورباتشوف), وسياسة الغرب الذكية في تعاملها مع الأحداث ساعد في التغيير بشكل غير مباشر, وللحقيقة أن قيادة الحزب الحاكم لم تكن تربطها بالسياسة التي كانت سائدة في الدول الاشتراكية الأخرى, وقد رأت القيادة الحزبية(الشيوعية) أن الأمور خارجة من أيديهم ولم يستعملوا العنف وهذا يدل على عقلانية ومنطقية في التعامل مع الأمور.

وقد يكون لسلوك المعارضة ونزاهتها تأثير أكثر من الأفكار التي طرحتها, وفي كثير من الأحيان رفضت رموز للمعارضة دعوات قدمها مسؤولون كبار في الحزب والدولة للمشاركة في مناسبات أقامها النظام,

وليس مبالغة إن قلنا أن تأثير سلوك المعارضة ليس فقط كان موجوداً في الشارع, بل كان تأثيرها على قيادات الحزب الحاكم نفسه وساهمت بإجبارهم على التعامل الحضاري مع المعارضة, وعندما كان يحصل لقاء ما بين رموز المعارضة وممثلي النظام كان ممثل المعارضة يتحدث بمعرفة عميقة ومسؤولية في المواضيع قيد الطرح, أي أن المعارضة كانت تعرف ما تريد وتعرف كيف تتحدث وكانت عندها الأجوبة الصحيحة للمرحلة الانتقالية ولمرحلة ما بعد التغيير أيضاً.

ونظرة لنتائج أول انتخابات ديمقراطية في 25 مارس 1990 نجد أن حزب العمال الاشتراكي المجري(الشيوعي) والذي بقي متمسكاً بسياسة الحزب قبل التغيير ـ نجد أنه لم يحصل على النسبة الدنيا لدخوله البرلمان(4%) وقد حصل على 2,7%, بينما الحزب الذي انبثق عن الحزب السابق واعتمد الديمقراطية الاشتراكية أو الديمقراطية الاجتماعية وسمى نفسه حزب الاشتراكي المجري فقد حصل على 8,6%, ومن الاحزاب التاريخية حصل حزب الفلاحين الصغار على 11,4% والحزب الديمقراطي المسيحي على نسبة 5,4%, بينما حصلت الأحزاب الجديدة "التفكير" والتنظيم على نسب أعلى, فقد حصل منبر الديمقرطيين المجريين على 43% وهو حزب قومي محافظ, وحصل حزب الديمقراطيين الأحرار على 24,4% وهو حزب ليبرالي, بينما حصل حزب الديمقراطيين الشباب على 5,7% وهو حزب كان يومها ليبرالي واليوم يعتبر أقوى الأحزاب اليمينية.

ومن الملفت للنظر وخلافاً لما حصل في الدول الاشتراكية الأخرى للأحزاب التي انبثقت عن الحزب الحاكم فقد استطاع الدخول للبرلمان بشكل ديمقراطي حر, واستطاع هذا الحزب بعد أربع سنوات من الحصول على أكثر من نصف أعضاء البرلمان, ومن بين خمس دورات برلمانية انتخابية نجح في ثلاثة منها وشكّل حكومة لثلاث مرات. ويعود الفضل مما لاشك فيه لسياسته والتي يمكن أن تكون تجربته درساً مفيداً للبعثيين!!

وبالمختصر يمكن القول:

تشكلت الأنظمة الاشتراكية"الشيوعية" في أوربا خلال ثلاث سنوات بعد الحرب العالمية الثانية وسقطت هذه الأنظمة خلال ثلاث سنوات أيضاً, عشرة دول تحولت إلى عشرين دولة. هذا التحول العالمي السريع لامس حياة حوالي أربعمائة مليون إنسان.

وكان التحول المجري والذي لم يكن متوقعاً بهذه السرعة والسهولة فريداً من نوعه في التاريخ, وقد يمكن اعتبار التحول المجري هو المحرّك للسقوط العام(التحول العام في باقي الدول الاشتراكية).

وأسباب التحول المجري بشكل عام هي أنه بعد تشخيص الأمراض الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي خلقها نظام الحزب الواحد ـ أي بعد التشخيص تمت مناقشة المشاكل وصياغتها والاعتراف بوجودها, وبعدها تم البحث عن الوسائل والاجراءات وصياغتها أيضاً بشكل دقيق, ثم الانطلاق بتنفيذها. فبعد الاعتراف بعدم إمكانية الإصلاح داخل الحزب الواحد الحاكم, تم البحث عن أسس التغيير والتي لعبت المعارضة فيها الدور المطلوب إلى جانب دور الجناح الإصلاحي داخل الحزب الحاكم والدعم الشعبي والظروف الدولية المساعدة لكل ذلك!

والدرس الذي يمكن أن نستخلصه من تجربة المجر بالنسبة للمعارضة الوطنية في بلادنا, هو أنها كانت تتعامل مع بعضها بكل احترام وبدون تناحرات وبدون تخوين بعضها البعض, وكانت تتعامل بأسلوب ديمقراطي مع بعضها ومع عناصرها, وهذا فرض احترام المجتمع عليها والانتباه لكل ما تقوم به, ورغم أنها كانت تزيد على عشرة منظمات سياسية لم يبق منها حتى الآن إلاّ القليل على الساحة السياسية, والدرس الذي يمكن للنظام السوري وما شابهه أخذه, هو أن خليفة الحزب الحاكم استطاع العودة للسلطة على أساس العملية الديمقراطية, بعد أن قام بتعديل أهدافه والتزم بدولة القانون والذي وضع هو نفسه أساسها قبل تغيير النظام وذلك عندما شعر أنه لا بديل عن التغيير, ولهذا كانت تجربة المجر أو "ثورة المجر" فريدة من نوعها!

فهل نتعلم كمعارضة وطنية, وهل يتعلم الحزب الحاكم من دروس غيره!

ونختم هذا الموضوع بنكتة بعثية تقول:

عاد مؤسس حزب البعث للأرض الرفيق زكي الأرسوزي وقرر تقديم كلمة في التلفزيون السوري, ودخل الاستوديو لكن المشرف قال له نعطيك عشرة دقائق لكن عليك تقديم الكلمة قبل أسبوع للموافقة, فقال الأرسوزي لا أستطيع الانتظار اعطوني إذاً دقيقة واحدة فقط, وردّ المشرف يجب تقديم ما تريد قوله قبل يوم على الأقل, فما كان من الأرسوزي وبعصبية إلاّ أن قال عليّ إلقاء جملة واحدة بأي ثمن كان, وبعد جدال وافق المشرف أن يقول مؤسس حزب البعث جملة واحدة في التلفزيون, وتوجه الرفيق باتجاه الكاميرا وقال" أعتذر من الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة".

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ