أَوَّاهُ
يا وَطَن
قصة
بقلم : الدكتور محمد بسام يوسف
عَبَرَت الحافلة القادمة من مطار
دمشق الدَوْليّ بعضَ شوارع
العاصمة، ثم توقفت في ساحة (المرجة)
مع غياب آخر شعاعٍ من أشعة
الشمس، التي كانت تتسلّل من بين
الغيمات الصغيرة الرمادية،
الآخذة في التجمع والاندماج،
مكوّنةً بضع غيماتٍ داكنةٍ
كبيرةٍ ممتدّة .
غادر (ماجد) الحافلة، ووقف على أحد
الأرصفة بجانب صندوق ماسح
الأحذية، محاولاً ضبط هندامه،
وألقى نظرةً خاطفةً على حذائه
الأسود، ثم أخذ يلتفت يميناً
وشمالاً، باحثاً عن سيارة أجرةٍ
تقلّه إلى حارته القديمة، التي
ابتعد عنها وعن بلده -مضطراً لا
مختاراً- منذ ما يقرب من ربع
قرنٍ من السنين.
هذا هو (حي الزيتون) يا أستاذ!..
قالها سائق سيارة الأجرة
المتثائب، المحشور بين المقود
ومسند المقعد مخلخل الأوصال،
إلى درجة اندلاق بعض أجزاء كرشه
على القوس السفلية للمقود
المتآكل .. هكذا انطلقت كلمات
السائق (أبي شَجَن) الكسلى
باتجاه الراكب (ماجد) من ساحة
المرجة، متناثرةً من تحت شاربيه
الأسودين المفتولين، ومصاحبةً
لبخارٍ ضبابيٍ يتدفق من بين
شفتيه السميكتين القاتمتين، مع
بعض قطراتٍ تسيل من أنفه المصاب
بالرشح، على الرغم من محاولاته
المتكررة للسيطرة عليها، بطرف
الكوفية المنسدلة من رأسه الضخم
على عنقه القصير العريض!..
نزل (ماجد) من سيارة الأجرة، بعد أن
دفع مئة ليرةٍ سوريةٍ لأبي شجن،
حاملاً حقيبته الزرقاء متوسطة
الحجم بيده اليمنى، وخطا بضع
خطواتٍ في شارع حي الزيتون غير
مصدِّق، ثم استدار فجأةً
مرتاباً، ليتأكّد من أبي شجن
أنّ الحي الذي هو فيه الآن هو
حقاً حي الزيتون .. ولكن من أين
له ذلك وأبو شجن قد توارى
بسيارته التي تُصدر مختلف أنواع
الأصوات، من الخضخضة والصفير
والزعيق والاحتكاكات المعدنية
المختلفة، عدا الأصوات الغريبة
الناجمة عن احتكاك مسّاحات
الزجاج الأمامية الصدئة،
بالزجاج الذي يستقبل قطرات
المطر المنهمر؟!..
لا حول ولا قوّة إلا بالله .. تمتم
بها ماجد، ثم نظر إلى جهة الشرق
وهو يتحسّس مفتاح دار أبيه في
الجيب الخلفيّ لبنطاله، ذلك
المفتاح الذي احتفظ به خمسةً
وعشرين عاماً منذ يوم هجرته
الاضطرارية من بلده الحبيب ..
نظر إلى جهة الشرق وقال لنفسه :
سأسير في هذا الاتجاه لعلّي
ألتقي بمن أسأله عن حيّنا : حيّ
الزيتون!.. نقل قبضة حقيبته من
يده اليمنى إلى يده اليسرى، ثم
سار في الشارع العريض، الذي
تصطفّ على جانبيه الأبنية
الشاهقة، وتنتصب أعمدة الإنارة
الكهربائية على الرصيفين
الجانبيين له، بعضها ما يزال
فيه رمق من الضوء، وبعضها مظلم
تماماً يحتاج إلى نعمة الإضاءة!..
تمهّل قليلاً وسار بتؤدة، مُطلقاً
لذاكرته العنان :
آهِ .. يا دمشق الحبيبة، ها قد
التقينا أخيراً .. آهِ .. يا حارتي
ومنبتي وأصلي وفصلي .. ها قد عدتُ
ولا يفصلني عنكِ إلا بضع خطوات ..
أنتِ يا شآم وطني وحبي وملاذي ..
ما تزال الأزقّة الضيقة
المتعرّجة تملأ خيالي، وكذلك
البيوت المتلاصقة التي تشتبك بل
تتعانق في الأعلى، وتقترب
نوافذها الخشبية من قناديل
الأزقّة المدلاّة من فوق، وما
يزال صوت قهقهات (أبي قاسم)
السمّان تصمّ مسامعي .. ونداء
بائع الحليب (أبي الفوز) يُطربني
.. وكذلك صوت مزمار (أبي العز)
بائع المازوت، المختلط بصوت
طرقات حوافر حصانه (فَرْكَشْ)
الذي يجرّ عربة خزان المازوت ..
وصوت جارتنا (أم نعيم) في
مطبخها، المختلط مع أصوات
الصحون والكؤوس ورائحة (الكبة
بلبنية): يا أبو نعيم، يا نعيم،
يا نعمة، يا ثريا، يا هدى، يا
سليم .. الغداء جاهز .. هيا تفضلوا
إلى الطعام قبل أن يبرد، وأنت يا
حبيبي (رامي): خذ هذا الطبق
لجارتنا (أم ماجد) وسلّم عليها،
وعد بسرعة البرق!..
إيه .. يا حارتي ومهجة قلبي .. أيمكن
أن أنسى صوت المؤذّن (أبي شاهر):
الله أكبر .. الله أكبر، المدوّي
من مئذنة جامع الإيمان؟!.. وهل
يمكن أن أنسى أولاد الحيّ
وشقاواتهم، خاصةً عند ساعة
الخروج من المدرسة: حسان يتحدّث
مع مروان، وسامر يمزح مع عدنان،
وصبحي زعلان، وأحمد يصرخ بوجه
سهيل، وغسان على الأرض بعد أن
دفعه نبيل من الخلف، ومجموعة
الكابتن تهرول باتجاه الملعب
البلدي، لتصل إليه قبل أن
تنتهيَ المباراة النهائية، بين
نادي الأهلي ونادي العربي، و..!..
آهِ .. يا حارتي ويا مهجة قلبي ..
خذيني بين أحضانك بعد هذه
السنين الطويلة من الغربة
والمحنة والعذاب .. وها أنا ذا
قدمتُ إليك يا وطني، أحمل روحي
على كفّي، وأحملك في قلبي .. فأنت
وطن كل مَن وُلِد تحت سمائك، وكل
مَن شرب من بردى والعاصي ودجلة
والفرات وبقية أنهارك وينابيعك
ومياهك، وكل مَن أكل من خيراتك
واستظلّ بأشجارك وشجيراتك،
وأنتَ لكل مَن تعلّم العز في
أحضانك، أو نهل العلم في جوامعك
وجامعاتك ومساجدك ومدارسك، أو
عاش في بواديك وصحرائك، أو
تنفّس هواءك واستقبل جسدُه
أشعةَ شمسك وضياءَ نهارك، أو
روّى ترابَك بدمه وعَرَقه ودموع
حزنه وفرحه!..
أنت وطني ووطن أجدادي وآبائي
وأبنائي وأحفادي .. أنت وطني
ومهجتي وروحي .. وأنا ابنك وسندك
وسيفك وترسك ومتراسك وفدائيّك ..
تأخذني بين جفنيك وأضمّك بين
أضلعي، أحميك وتحميني، أفديك
وتُلهمني، أتقوّى بحبّك
وتتقوّى بوفائي .. فمَنذا الذي
يمكنه أن يحول بيننا؟!..
كان صوت زمور إحدى السيارات
المسرعة منبّهاً جيداً لماجد،
الذي صحا من استرساله في حديث
الروح وخلوته مع نفسه، فتوقف
شريط ذكرياته الحلوة، التي تذيب
القلب وتشغل الروح وتفتّت الكبد!..
دخل إلى مقهىً كان على يمين الرصيف
الذي يسير عليه، وجلس خلف
طاولةٍ قريبةٍ من الباب
الخارجيّ، متفحّصاً ملابسه
المبتلّة بماء المطر، وماسحاً
شعر رأسه ووجهه، بمنديلٍ أخرجه
من الجيب الأيمن لبنطاله ..
قَدِمَ إليه أحد العاملين، عمره
لا يتجاوز العشرين عاماً، ويربط
مريولاً أبيض على وسطه :
- أمرك أستاذ، ماذا تحب أن تشرب:
شاي .. قهوة .. متّة .. نحن في خدمتك
.
- قهوة (وسط) لو سمحت .
- حاضر .. عندك واحد وسط للأستاذ (قالها
بتلحينٍ خاص) .
أحضر الشاب بعد دقائق فنجاناً من
القهوة مع كوبٍ من الماء، على
صينيةٍ صغيرةٍ من (الميلامين)
الأبيض :
- تفضل يا أستاذ .. وإن شاء الله
تعجبك، فكما يبدو أنك أول مرةٍ
تدخل إلى مقهانا .. أليس كذلك؟!..
- نعم .. نعم، لكن قل لي : هل تعرف من
أين أذهب إلى حيّ الزيتون؟!..
نظر الشاب إلى وجه الأستاذ وعلامة
استغرابٍ ترتسم على محيّاه :
- يبدو أنك غريب عن هذا الحي .. غريب
أليس كذلك؟!..
- قد أكون غريباً عن الحي الذي نحن
فيه، لكنني لست غريباً عن
الشام، فأنا من دمشق .. من حيّ
الزيتون!..
- باندهاش : أنت من حي الزيتون ولا
تعرف أنك الآن في قلبه بل بين
أحشائه؟!.. غريب أمرك يا أستاذ!..
ثم خطف نظرةً سريعةً إلى حقيبة
ماجد التي بجانب قدميه!..
- لا غريب إلا الشيطان يا ولدي،
لكنني كنت مسافراً مغترباً،
وأعيش في (فرنسة) منذ أكثر من
عشرين عاماً!..
انفرجت أسارير الشاب وابتسم
قائلاً :
- أهلاً .. أهلاً وسهلاً بك يا أستاذ
في بلدك وحارتك : حارة حي
الزيتون، فأنت الآن بين أهلك
وأحبّائك وأبناء حارتك!..
- أهلاً بك .. اسمي (ماجد عبد الهادي)
.
- وأنا اسمي (حمدو)، وبعض أهل
الحارة يفضلّون مناداتي : (حمّودة)
.. تَشَرّفنا يا أستاذ، ألم
تشتَق للمتّة الشامية .. أكيد
اشتقتَ لها!..
التفتَ إلى الخلف منادياً : واحد
متّة خصوصي .. للأستاذ!.. وعاد
متابعاً :
- ما رأيك بالتعرّف على معلّمي (أبي
عبده)؟!.. سيسعد برؤيتك، فهو يحب
أبناء الحارة، ولا شك أنك
ستحبّه .. ثم هو من جيلك .. يعني
عمره تقريباً من عمرك .. دقيقة
واحدة فقط .. انتظرني!..
- لا تُتعب نفسك يا (حمّودة)، أنا
أذهب إليه .
بعد لحظاتٍ .. قَدِمَ (حمّودة)
بصحبة رجلٍ طويلٍ ممتلئ، عريض
المنكبين، كرويّ الكرش، طويل
الأنف، بشاربين يختلط فيهما
اللون الأبيض باللون الأسود،
على رأسه طاقيّة من الصوف البني
والبيج، ويرتدي شروالاً
فضفاضاً أسود اللون، وقميصاً
أبيض .. ترتسم على وجهه ابتسامة
لطيفة :
- أهلاً وسهلاً بالأستاذ .. هل أنتَ
من حي الزيتون حقاً؟!..
نظر كل من الرجلين إلى وجه الآخر
محدّقاً .. و(حمّودة) واقف بينهما
مبتسماً، يخطف نظرةً إلى هذا
الذي على يمينه، ونظرةً ثانيةً
إلى هذا الذي على شماله!.. وبعد
ثوانٍ من التأمل والتحديق، رفع
كل من الرجلين ساعده الأيمن
مؤشراً بسبابته إلى الرجل
الآخر، وانطلقت في نفس اللحظة
كلمتان متبادلتان استفهاميتان :
ماجد؟!.. عبد القادر؟!.. ثم مدّ كل
من ماجد وعبد القادر ذراعيه
باتجاه الآخر معانقاً بشدة :
وقال الاثنان معاً : هذا أنت يا
رجل؟!.. أين أنت يا (برتقال)؟!..
وانفجر الاثنان بالضحك، ماسحاً
كل منهما بكفّيه عن جبين الآخر
عَرَقَه، وعن وجنتيه دموعَه!..
بينما لم يتمالك (حمّودة) الذي
تراجع إلى الوراء قليلاً .. لم
يتمالك نفسه من السؤال باندهاش :
- برتقال؟!.. من أولها برتقال يا
معلّم؟!..
لكنّ معلّمه أبو عبده طمأنه، إلى
أنه سيحكي له حكاية المدعو (برتقال)
في سهرة هذه الليلة، حين انعقاد
جلسة شراب المتّة الخاصة، التي
عزم عليها صاحبَه ورفيقَ عمره
الحبيب : (ماجد)!.. ثم توجه إلى
صاحبه العزيز مخاطباً :
لقد تغيّرتَ كثيراً يا ماجد،
فأصبحتَ تبدو أقصر من أيام
الشباب، لأن جسمكَ امتلأ
فأصبحتَ بَديناً، بعد أن كنتَ
مضرب المثل بنحافتك، فصار جسمك
مربوعاً!.. وشعرك أصبح أبيض
اللون، وبشرتك أصبحت أكثر
بياضاً من ذي قبل، وها أنتَ ذا
تُزيّن وجهك المشرق بلحيةٍ يغلب
بياضُها سوادَها، لكنك لا تزال
بحاجبيكَ المقفلين، وشاربيك
الخفيفين، وعينيك الواسعتين،
وأنفك الكبير، ومشيتك الرشيقة،
وهمّتك العالية .. ما شاء الله
وكان .. ما شاء الله وكان!..
*
*
*
انقضى ثلث الليل الأول، و(حمّودة)
الذي قام بحملة تنظيفٍ لأرضية
المقهى، بعد مغادرة الزبائن
القلائل .. أغلق باب المقهى
الخارجيّ، ثم انضمّ إلى
الصديقين الولهانَين الساهرَين
في غرفة المعلّم (أبي عبده)
الخاصة، حاملاً على ذراعيه
صينيةً وُضِعَ عليها : ثلاثة
أكوابٍ فخّاريةٍ كبيرة الحجم،
رُسِمَت على جُدُرِها الخارجية
زخارف ملونة جميلة، وفي كل كوبٍ
ينتصب قضيب نحاسي أملس مجوّف،
في نهايته السفلية مصفاة صغيرة،
يسمى (مصّاصة المتّة).. ومطربان (قطرميز)
زجاجي متوسط الحجم يحتوي على
مسحوق (المتّة)، وآخر صغير الحجم
ممتلئ بالسكر الأبيض .. وإبريق
من الألومنيوم يتصاعد من فوهته
البخار، ويمتلئ بالماء المغلي
الساخن جداً!..
جلس (حمّودة) بجانب معلّمه (أبو
عبده) على فرشةٍ إسفنجية،
ممدودةٍ على أرض الغرفة
المفروشة على الطراز العربيّ
الشاميّ، واتكأ على وسادةٍ من
القش مسنودةٍ إلى الجدار خلف
ظهره، وتظاهر بانشغاله التام
بإعداد أكواب المتّة الثلاثة،
بينما هو يصيخ السمع إلى الحديث
الشيّق الدائر بين معلّمه وضيفه
العزيز (ماجد) :
- الأستاذ ماجد : هل تصدّق بأنني
آخر ما توقّعته، أن يصبح (حيّ
الزيتون) بهذا الشكل، وهذا
المنظر، وهذه الصورة التي هو
عليها الآن!..
- المعلّم عبد القادر (أبو عبده) :
آهِ .. يا ماجد، بعد أن افتقدناكم
ضاع كل شيء، الناس وأهل الحارة،
والبيوت العربية الشامية،
والشناشل الخشبية، والبحرات
والنوافير، وأشجار النارنج
والتين والعنب و(الإكّي دنيا) ..
آهِ .. يا ماجد : حتى صوت أبي
الفوز الحلاّب ومزمار أبي العز
ونغمة مصطفى بائع الكعك وأذان
أبي شاهر المميّز وفطور رمضان
الجماعي في جامع الإيمان .. حتى
فتّة يوم الجمعة و(تِسقيّة) أبي
صخر و(فول) أبي شهاب .. كل ذلك
افتقدناه، ولم يعد لحياتنا أي
معنى!.. آهِ .. يا ماجد .. لقد فتقتَ
جروحي ونكأتَ جراحي!..
- لكنك لم تجبني يا عبد القادر، كيف
ذهب كل ذلك وأولئك؟!.. كيف حلّت
هذه البنايات الشاهقة محل
بيوتنا التي لا تقل عَبَقاً عن
المتاحف؟!.. وكيف حلّت هذه
الشوارع العريضة المستقيمة
الطويلة، محل أزقّتنا
وزواريبنا الدافئة المتعرّجة؟!..
وكيف حلّت أعمدة الكهرباء
المرتفعة المنتصبة هذه، محل
قناديل حارة الزيتون
الكهربائية المعلّقة؟!.. وأين هم
ناسنا وأهلنا وأحبابنا الذين
نعرفهم كلهم؟!..
- أما الناس، فقد تفرّقوا هنا
وهناك، أو سكنوا في هذه
البنايات المنتصبة كصناديق
الشاي، وابتعد كل منهم عن
الآخرين، وضاع الدفء من بين
قلوبنا، وانشغل كل منا بتدبير
شؤونه ومعيشته وتأمين لقمة
الخبز لعياله وأطفاله .. ينجح في
ذلك مرةً، ويفشل مراتٍ كثيرة!..
أما الموظّف منا، فلا يستطيع
العيش إلا إذا عمل في ثلاث
وظائف، أو إلا إذا كان حرامياً
مرتشياً دنيئاً!..
وأما هذه الشوارع العريضة
والأبنية الشاهقة فقضية أخرى يا
صاحبي .. إذ انتعشت السمسرة،
وصلب عود مَن يتاجرون بحضارتنا
وعراقتنا باسم الدولة، وباسم
الوطن، وباسم التحديث، فكان أن
شُرِّدت عائلات (حي الزيتون)،
بعد مُنِحَ أهلها تعويضاتٍ لا
تسدّ الرمق، فازدادوا فقراً،
وفقدوا المأوى الذي توارثوه عن
أجدادهم، بينما ازداد أصحاب
المشروعات التحديثية -بحماية
أصحاب النفوذ والشأن- ثراءً ..
فأصحاب الألوف أصبحوا من أصحاب
الملايين، والمليونير أصبح
ملياردير، والشكوى إلى الله عز
وجل!..
أمسك الأستاذ ماجد بكوب المتّة
الفخّاريّ الذي أمامه، ورشف
رشفةً بواسطة المصّاصة
النحاسية، ثم نظر إلى حمدو
متأوّهاً :
- آه ما ألذ هذه، وما أطيبها ..
والله أنت معلّم يا (حمّودة)!..
أجاب المعلّم عبد القادر :
- هذا الذي بقي لنا من عَبَق قديمنا
يا صاحبي، فاشرب واستمتع!..
- لكنك لم تحدّثني عن الأهل
والجيران وأبناء الحارة
والأقارب والخلاّن!..
- ماذا أقول لك يا صاحبي العتيق؟!..
الأفضل أن نؤجّل هذا الحديث،
فالأيام القادمة كثيرة .. ولا
أرغب بفتح جروحٍ أخرى الآن .. عن
هذا الذي مات .. وهذا الذي استشهد
.. وذاك الذي اعتُقِل ولا نعرف
شيئاً عنه .. وذلك الذي غاب
وانقطعت أخباره ولا نعرف إلى
أين صار .. وتلك الأسرة التي
هاجرت بلا خَبَرٍ ولا عِلم ..
وذلك الجار الذي ابتعد عن
الحارة وانتقل إلى حيٍ آخر ..
وهذا الذي سافر .. و .. و!..
تنحنح حمدو متدخّلاً، ثم جلس بعد
أن كان متّكئاً، وقال :
- إذن .. حدّثنا يا معلّمي عن حكاية
البرتقال .. ما حكاية البرتقال؟!..
ضحك الصديقان العزيزان (ماجد وعبد
القادر)، وتوجه المعلّم أبو
عبده إلى حمّودة مجيباً :
- أما نسيتَ هذا الموضوع يا عفريت؟!..
حسناً اسمع جيداً إذن :
كنا مجموعةً في مدرسة (ابن خلدون)،
لا نفترق أبداً إلا وقت النوم،
في المدرسة نتعلّم، وفي خارجها
نمارس الرياضة ضمن فريق الحارة،
وبعد صلاة المغرب نحضر درس
الشيخ عبد الرحمن (رحمه الله) ..
وفي أيام الجمعة والعطلة، نحن
إما في رحلةٍ إلى ضفاف بردى أو
الغوطة أو الربوة أو دمّر أو
الهامة أو .. أو في مباراةٍ حامية
الوطيس في ساحة المدرسة!.. وكنا
نبرع في تنفيذ الحِيَل والمقالب
ببعضنا!.. وفي أحد الأيام
اشتهينا البرتقال اليافاوي
اللذيذ، كنا تسعة أولاد، ليس
لنا حديث إلا حديث البرتقال
طوال ثلاثة أيام .. وفي اليوم
الثالث كنا مجتمعين في زقاق
الحارة قريباً من دار (ماجد) :
هذا الأستاذ الذي أمامك، وإذا
أبوه (رحمه الله) قادمٌ من بعيدٍ
يحمل أكياساً ورقيةً فيها بعض
الفواكه والخضار، وكالعادة
هرولتُ أنا وماجد باتجاه والده،
لمساعدته بحمل ما تيسّر عنه من
الأكياس، حمل هو كيساً، وحملتُ
أنا كيساً ثانياً، وبعد أن
حملنا الأكياس إلى بيت ماجد،
دخل هو مع أبيه إلى البيت،
وانصرفتُ أنا عائداً إلى
الأولاد، لكن بعد دقائق، نادى
ماجد علي من النافذة الخشبية
لغرفته، وقال لي هامساً : أخبر
الشباب بأننا سنلتقي بعد نصف
ساعة في بيتكم، سأحضِر معي
برتقالاً!.. فوجئتُ بالعرض،
وأخبرتُ الأولاد، ففرحوا
وهتفوا بصوتٍ منخفض : برتقال ..
برتقال .. ما أطيب البرتقال!.. ثم
اجتمعنا في دارنا نحن الثمانية
بانتظار ماجد الذي سيُحضِر لنا
البرتقال .. وبعد نصف ساعةٍ
تزاحمنا على نافذة غرفتي لنرى
ماجد ومعه كيس البرتقال
الورقيّ، يحمله بين ذراعيه
ويضمّه إلى صدره، توجّهت إليه
مسرعاً لأحمل عنه كيس البرتقال،
ولأنال شرف تقديمه لأصحابي
الأولاد أعضاء الشلّة، حملتُ
عنه الكيس، ولما دخلتُ إلى
غرفتي التي يجتمع فيها الأولاد
.. هجموا علي كلٌ منهم يريد تحسّس
حبات البرتقال من خارج الكيس،
وصاحوا كلهم .. بصوتٍ عالٍ هذه
المرة : برتقال .. برتقال ..
حقيقةً برتقال!.. ونحن في زحمة
التدافع والمزاحمة على تحسّس
الكيس الورقيّ، انثقب الكيس ثم
تمزّق فجأةً وسقطت حبات
البرتقال في كل اتجاه، وتساقطنا
عليها نحن التسعة لينال كلٌ منا
نصيبه من البرتقال!.. وبعد
لحظاتٍ وقف كلٌ منا وبيده ما
تيسر من الحبّات الكروية ذات
اللون الترابيّ، وعلامات
الصدمة والخيبة واضحة على وجهه،
وهو يقول مستغرباً مستفهماً :
بطاطا؟!.. بطاطا؟!.. وقبل أن يوضّح
ماجد لنا الالتباس الذي وقع به،
عندما أخطأ كيسَ البرتقال في
المطبخ وجلب بدلاً عنه كيسَ
البطاطا الذي بجانبه .. قبل أن
يوضّح لنا هذا الالتباس .. كان قد
أُثخِن وجهه وجسمه باللكمات
والكدمات!.. ولما كنتُ أنا صاحب
العزيمة والمخطِّط لها
والمبشّر بها .. فقد كان نصيبي من
الانتقام والحنق، أكبر من نصيب
ماجد بأضعاف مضاعفة!.. ومن يومها
أصبح لنا -أنا وماجد- عند أعضاء
المجموعة (الشلّة) اسم واحد
موحَّد : السيد برتقال!..
انفجر الثلاثة بالضحك، وأمسك
المعلّم أبو عبده بيد الأستاذ
ماجد وجذبه بقوّة، وصاح الاثنان
معاً بصوتٍ واحد : أهلاً سيد
برتقال!..
خرج حمدو من الغرفة مودّعاً
الرجلين، لينام في سقيفة المقهى
.. بينما استسلم الصديقان
العزيزان لنومٍ عميقٍ مشوبٍ
بالمشاعر المتناقضة : سرور
وحسرة، فرح وحزن، سعادة ومرارة!..
ولم يستيقظا إلا على صوت أذان
الصبح القادم من بعيد : الله
أكبر .. الله أكبر .. أشهد أن لا
إله إلا الله .. أشهد أنَّ محمداً
رسول الله .. حي على الصلاة .. حي
على الفلاح .. الله أكبر .. الله
أكبر .. لا إله إلا الله ..
بعد إتمام الوضوء والصلاة، اتفق
الصديقان على عقد لقاءٍ للتعارف
ولمّ الشمل، مع بعض الأقارب
والجيران القدامى والأصحاب، في
بستان المعلّم أبي عبده الكائن
في غوطة دمشق الغنّاء، وذلك
صباح يوم الجمعة القادم، أي بعد
يومين!..
*
*
*
إنه يوم مشمس دافئ من أيام تشرين
الأول، والطقس مثالي للقيام
برحلةٍ خاصة، وما أحلى غوطة
دمشق في مثل هذا اليوم!..
صعد الأستاذ ماجد إلى سيارة
المعلّم عبد القادر، الذي كان
ينتظره عند باب المقهى بعد صلاة
الصبح من يوم الجمعة، بينما
انطلق حمدو بسيارة البيك آب
المحمّلة بلوازم الرحلة ..
باتجاه الغوطة .
رحّب المعلّم عبد القادر بضيفه،
وتحركت سيارتهما إلى الغوطة .
- المعلّم عبد القادر : سوف يكون
لقاؤنا مع الرَّبْعِ قنبلة
الموسم، ومفاجأةً عظيمةً لهم!..
- الأستاذ ماجد : ألم تخبرهم بأنني
سألتقيهم؟!..
- لا .. مطلقاً!.. قلتُ لهم : الدعوة
هذه على شرف ضيفٍ عزيز، وصاحبٍ
عتيق!.. وستكون مفاجأةً لهم كما
قلتُ لك!..
- مبتسماً .. على ألا تكون كمفاجأة
البرتقال يا صاحبي!..
السيارة تسير بسرعةٍ متوسطة ..
والأستاذ ماجد يَلْمَحُ من
بعيدٍ بناءً ضخماً مميّزاً
يرفرف على أعلى نقطةٍ منه
عَلَمُ الجمهورية العربية
السورية، والسيارة تقترب من
المبنى، فيما يسأل الأستاذ ماجد
صاحبَه المعلّم :
- ما هذا البناء؟!..
- هذا مبنى مجلس الشعب .
- يشبه مبنى البرلمان الفرنسي في
باريس .
- بالشكل -ربما- بالشكل فحسب!..
- كيف؟!..
- يعني بالشكل الخارجي، وليس
بالمضمون!..
- ماذا تعني؟!..
- قل إنك لم تعد تفهم العربية؟!..
أتكلم لغةً عربيةً بلهجةٍ
دمشقيةٍ عتيقةٍ واضحة!.. واعذرني
فأنا لا أتقن اللغة الفرنسية
حتى تفهم عليّ!..
- سامحك الله ربي وربك .. وهل قدمتُ
إلى بلدي إلا لأنني أحبها وأحب
لغتها وأهلها؟!..
- لا يكفي ذلك .. عليك أيضاً أن تفهم
بلدك، وتعرف أوجاعها وأمراضها
وطرق علاجها ومصدر دوائها وسبيل
شفائها!..
- لم أفهم .. هل تتحدّث بالألغاز يا
رجل؟!..
- كلامي أوضح من قرص الشمس هذا،
الذي تراه أمامك!..
- يا أخي .. يا حبيبي .. يا سيد برتقال
: اعتبرني لا أفهم، وخذني على
قدّ عقلي، واشرح لي حضرة جنابك
ماذا تعني؟!..
نظر المعلّم عبد القادر إلى
الأستاذ ماجد مع ابتسامةٍ
خفيفةٍ مشوبةٍ بالمرارة، ثم
اتجه بالسيارة إلى يمين الطريق
وأوقف محرّكها، والتفت إلى
صديقه قائلاً :
- يكفي أنك -في مواسم الانتخابات-
تنتخب أحمداً في النهار، فيفوز
عليّ في الليل!.. وينتخب الناس
صلاحاً وسليماً ومأموناً وعبد
المعين في الصباح .. فيفوز صبحي
ورباح وطلعت وجهينة في المساء!..
واللهم عافنا واعف عنا!..
تسود بضع دقائق من الصمت، ويتابع
المعلّم السير بسيارته، لكن
ماجد يستوقفه عند مبنىً آخر
سائلاً مستفسراً :
- أليس هذا هو مبنى كلية الحقوق؟!..
- نعم يا صاحبي، هو مبنى كلية
الحقوق، التي كنتَ تدرس فيها،
وتتخذ مواقفكَ السياسية
داخلها، وهي الكلية التي
غادرتَها جنابك وأنتَ في السنة
الرابعة من الدراسة .. هل
معلوماتي صحيحة أم ماذا؟!..
- بل صحيحة مئة في المئة، آهِ .. يا
صديقي .. كم أحنّ إلى هذا الموقع،
وإلى رفاق الدرب وأصدقاء العمر،
الذين لا أعرف أين أصبح كل منهم
الآن!..
- يتابع (ماجد) : هنا يا معلّم درسنا
حقوق الإنسان، ومواصفات دولة
القانون والحريات العامة،
وحقوق المواطَنة؟!.. ثم يلتفت
إلى صاحبه قائلاً :
- امضِ يا صاحبي، أسرع قليلاً، ألا
ترى أنّ سرعة سيارتك المحروسة
هذه بطيئة جداً، كيف سنصل اليوم
إلى الغوطة؟!..
- ألم أخبرك أنّ المحروسة (جميلة)،
أي سيارتي هذه، لا تستطيع السير
بأعلى من هذه السرعة، خاصةً
بوجود الضيوف، فهي خجلى إلى
درجة أنّ محرّكها مثل قضيّتكم ..
يحتاج إلى إصلاحاتٍ جذريّة
عامةٍ شاملة!..
*
*
*
شمس تشرين الأول تسطع على غوطة
دمشق، الغنية بأشجار الجوز
الضخمة، وأشجار الفواكه
المتعددة الأصناف والألوان ..
فتستقبلها بلابل الغوطة
وعصافيرها بألحان زقزقاتها
الطروب، وها هي ذي أراضي الغوطة
المعطاء تختفي وتظهر، بين ذرات
البخار المتصاعد بفضل حرارة
الشمس الصباحية المعتدلة، وها
هي ذي أغصان أشجار الجوز تتمايل
بتناسقٍ مع حركة نسيم الصباح
الخفيفة .. وأصوات مختلفة تنبعث
من هنا وهناك، إذ يختلط فيها
ثغاء الخراف مع صياح الدِيَكة،
وخوار الثيران مع بطبطة البط،
وهديل الحمام مع نعيق الغربان،
وهدير محركات المياه المنتصبة
عند الآبار الارتوازية .. مع
هدير محركات الجرّارات
الزراعية، ونقيق الضفادع يصاحب
تغريد البلابل!..
هذه هي غوطة دمشق، أرض العز
والكرامة .. وموطن الأحرار
والثورات السورية على الظلم
والمحتلّين والمستعمرين ..
وموئل الأبطال الذين سطّروا
بدمائهم أول سطرٍ من سطور حرية
هذا الوطن الغالي!.. يا غوطة دمشق
.. يا حبّنا ومنبع فخارنا .. يا
أرض عزّنا المزروعة في كل مترٍ
مربّعٍ بقطرة دمٍ حرّةٍ، أو
بجسد شهيدٍ طاهرٍ بطل، أو
بعَبَرات ثكلى ودمعة يتيم!.. كل
شبرٍ فيكِ له حكاية، وكل ذرةٍ من
ترابكِ لها موقف وقصة، وكل شجرة
جوزٍ شامخةٍ لها سِفر خالد من
أسفار البطولة والرجولة!..
أيتها الغوطة العظيمة : أنتِ كل
الشام .. والشام كلها أنتِ .. فمن
أنتِ الآن؟!.. آهِ مَن أنتِ؟!..
ضغطَ المعلّم عبد القادر على
فرامل السيارة، ثم أوقفَ
محركها، والتفتَ إلى صاحبه ماجد
الحالم المستغرق بالتفكير
والتأمّل قائلاً :
- وصلنا يا أستاذ .. وصلنا يا ماجد ..
يا صاحبي وصلنا .. أين أصبحتَ يا
رجل؟!..
- أصبحت؟!.. نعم أصبحتُ هنا يا معلّم
.. في الغوطة وبساتينها، وبين
أشجارها، وتحت سمائها، وفوق
أرضها .. أنا معك يا معلّم، لكنني
شردتُ قليلاً، ألا يحق لي ذلك
بعد كل هذه السنين الطويلة من
الغربة والحنين؟!..
- نعم يحق لك، لكن عليك هنا أن تحلم
بالتقسيط، لأنك إن حلمت دفعةً
واحدة .. فستبقى وحدك، ولن ترى
أحداً من أصحابك القدامى، ولن
تلتقيَ بأحدٍ من الأهل والأحباب
الذين ينتظرون قدومنا!.. هيا
لننـزل هنا ونمشي مسافة مئة
مترٍ وحسب، باتجاه حقل أشجار
الجوز ذاك (مشيراً بيده اليمنى).
نزل الرجلان من السيارة، وتوجّها
إلى حقل الجوز، سالكَين طريقاً
ترابياً، على جانبيه اصطفت
أشجار الرمان والتين .. وقبل
وصولهما لاحَ لهما جمع غفير من
الشباب والرجال والنساء
والأطفال!.. كلهم انتصبوا واقفين
يترقّبون، وما إن اقترب الرجلان
وأصبحا وجهاً لوجهٍ مع أعضاء
الجمع الغفير .. حتى بدأ العناق
والتقبيل والبكاء والضحك، وضجّ
المكان بالأصوات والترحيب ..
وياله من مشهد!.. لقد اختير مكان
اللقاء في ظل شجرة جوزٍ معمّرة،
يتسع لكل الشباب والرجال .. كما
اختير مكان آخر لا يبعد عن الأول
أكثر من بضعة أمتار، في ظل دالية
عنبٍ ممتدة، يتسع لكل النساء
والأطفال .. واختير صدر مكان
شجرة الجوز للأستاذ ماجد، الذي
جلس وهو غير مصدّقٍ هذا الذي
يراه بعينيه، وعلامات البهجة
والاندهاش بادية على وجهه!..
لكنّ دهشته وصلت إلى ذروتها،
حين صاح المعلّم عبد القادر
قائلاً : ليتقدّم كل المختبئين
إلى هنا، نرحب بكم في مضارب
السيد (برتقال)!.. وكأنّ المعلّم
قال كلمة سرٍّ مرتقَبة، ليندفع
بعدها من وراء سور البستان
ثلاثة رجالٍ مسرعين متوجّهين
إلى مكان الأستاذ ماجد، الذي
خاطب صاحبه المعلّم عبد القادر :
- مَن هؤلاء الرجال يا معلّم؟!..
- ستعرف بعد لحظات .
اقترب الرجال الثلاثة من الأستاذ
ماجد الذي انتصب واقفاً، صاروا
وجهاً لوجهٍ معه، حدّق بوجوههم،
ابتسموا جميعاً، والأستاذ لا
يستطيع الكلام، ثقل لسانه وأحسّ
أنّ قدميه لا تتجاوبان مع رغبته
بالتقدم إلى الأمام، وأنّ
ذراعيه أصبحتا أثقل من ساق شجرة
الجوز الذي وراء ظهره .. تقدّم
المعلّم عبد القادر لإنقاذ
الموقف .. أمسك بيد الرجل الأول
وخاطب الأستاذ : هذا صاحبك
وغريمك الدائم في لعبة التنس :
المهندس نبيل .. ثم أمسك بيد
الرجل الثاني قائلاً : وهذا صديق
عمرك وحليفك الدائم في بطولات
جامع الإيمان ونشاطاته :
الدكتور الجرّاح عمر .. وأمسك
بيد الرجل الثالث وهو يقول : أما
هذا، فهو الذي لم يكفّ يوماً عن
حَبْكِ الحِيَل والأفلام
والمقالب ضد خصوم الشلّة :
الكاتب الأديب حسان!.. وما كاد
المعلّم ينهي كلماته الأخيرة
حتى اشتبكت السواعد والأعناق،
وياله من مشهدٍ آخر :
أربعة رجالٍ عُمر كلٍ منهم خمسون
سنةً تقريباً، يتعانقون
ويذرفون العَبَرات ويضحكون
ويتحسّسون وَجَنات بعضهم البعض
.. رأسٌ على صدر .. ويدٌ على رأس ..
وذراعان على خصر!..
- تفضلوا .. اجلسوا .. سأقوم بجلب بعض
الماء (قالها المعلّم) .
جلس الرجال الأربعة وسط ابتسامات
الحضور وغبطتهم، وسأل الأستاذ
ماجد أصحابَه :
- أين أنتم يا شباب، بل أين كنتم؟!..
خمس وعشرون سنةً مضت .. ثم نلتقي،
أيعقل هذا؟!..
- عمر : نحن هنا، ألا ترانا؟!..
- حسان : وأنا كذلك، ما أزال هنا
أيضاً يا صاحبي .. في دمشق!..
- نبيل : أما أنا يا صاحبي .. فقدمتُ
من حمص لأجل رؤية هذا الوجه
المشرق!..
عاد المعلّم عبد القادر يحمل جرةً
فخّاريةً ممتلئةً بالماء ..
وضعها على قاعدةٍ خشبيةٍ
مجوّفةٍ بحجم الجرّة، وجلس
بجانب الأستاذ ماجد، الذي توجه
إليه محدّثاً بصوتٍ مسموعٍ
للحاضرين :
- هل انتهت مفاجآتك يا معلّم، أم
لديكَ المزيد؟!..
- والله يا صاحبي لا أعدك
بانتهائها، لكنني أعترف بأن
كبرى المفاجآت وقعت وانتهت!..
ضحك كل الحاضرين، فاختلط صوتهم مع
أصوات ثلاث سيارات جيب، قادمةٍ
من بعيدٍ نحوهم .. نظر الأستاذ
ماجد إلى وجه المعلّم أبي عبده
معلّقاً : يبدو أنّ المفاجأة
الحقيقية بدأت الآن يا صاحبي!..
توقفت السيارات الثلاث، كانت
تُسمَع من جهاز التسجيل لإحداها
أغنية وطنية : (طالِعْلَكْ يا
عدوّي طالِع .. من كل بيت وحارة
وشارع .. طالِعْلَكْ يا عدوّي
طالِع ..) .. ترجّل من السيارات
سبعة رجال، بعضهم يرتدي بزّاتٍ
عسكرية (خاكي)، وبعضهم الآخر
بثيابٍ مدنيّة .. وكلهم مسلّحون
بالرشاشات (الكلاشينكوف)
والمسدّسات .. اتخذ كل مسلّحٍ
لنفسه مكاناً، فشكّلوا طوقاً
حول مجموعة الناس عند شجرة
الجوز .. بينما تقدّم اثنان منهم
يبدو أنهما ضابطان : أحدهما
برتبة عقيد، والثاني برتبة نقيب
.. تقدّم العقيد الذي يحمل
مجموعة أوراق، حتى صار بين
الحاضرين، فتح ملف الأوراق وقال
:
- مَن منكم ماجد عبد الهادي؟!..
- ماجد : نعم .. أنا هنا .
- الضابط : أنت تحمل الجنسية
الفرنسية .. أليس كذلك؟!..
- ماجد : بالضبط .
- الضابط : ما شاء الله، وهل أعجبتك
الجنسية الفرنسية؟!..
- يا سيادة الضابط : أنا عربي سوري،
اضطررت لحمل جنسيةٍ أخرى .. هكذا
أراد الله، واضطرتني الظروف!..
التفتَ العقيد إلى الضابط النقيب
الذي بجانبه هامساً : هل اتصلتَ
بسفارة بلده كما اتفقنا قبل
مغادرة الفرع؟!.. فقاطعه ماجد :
- لا بلد لي غير سورية .. سورية وحسب!..
- الضابط العقيد : لكنك تخلّيتَ عن
بلدك سورية، وغادرتَها منذ ربع
قرن!..
- اضطررتُ لذلك .
- كيف؟!..
- لو لم أغادرْها، لكنتُ الآن في
أحد السجون الصحراوية، أو في
مقبرةٍ جماعية!..
- ولماذا قَدِمتَ الآن .. الآن
بالذات؟!..
- لخدمة بلدي، وللدفاع عن وطني
سورية إن تطلّب الأمر، بعد
اشتداد التهديدات له!..
- أعد على مسامعي اسمك وعملك
وحالتك العائلية!..
- اسمي ماجد عبد الهادي، دكتوراه
في الحقوق، اختصاص حقوق
الإنسان، محاضِر في جامعة
السوربون الفرنسية .. متزوّج من
مواطنة سورية، ولي ثلاثة أبناء
وبنتان!..
- وأين أولادك وزوجتك؟!..
- تركتهم في فرنسة ريثما أرتّب
أوضاع عودتهم إلى وطنهم سورية،
فهم بلا جوازات سفر، لأنّ
السفارة السورية في باريس
مَنَعَت عنهم الوثائق الرسمية،
على الرغم من حقوقهم التي
كفلتها لهم كل الأعراف الدولية!..
- الضابط : الآن ستذهب معنا لتسليمك
إلى سفارة بلدك، ثم لمغادرة
سورية!..
- الدكتور ماجد : ليس لي وطن إلا
سورية، وأنا أرفض مرافقتكم!..
- الضابط : لكنك بهذا تتحدّى
الدولة، وتُعرّض نفسك للخطر،
وربما للاعتقال والتحقيق!..
- الدكتور ماجد : أنا في بلدي
ووطني، ولا أتحدى أحداً، وهذه
أبسط حقوقي، فأنا من سورية،
وهذا وطني ووطن أجدادي وآبائي
وأولادي .. وأحفادي كذلك، ولا
يمكنكم أن تزوّروا التاريخ ولا
الجغرافية، ولا يمكن لبشرٍ أن
يمنعني عن وطني .. ويمنع وطني عني!..
انطلق صوت رصاصاتٍ من سلاح أحد
العناصر خلف الضابط العقيد الذي
قال :
- أتسمع يا هذا؟!.. إننا على
استعدادٍ لإبادَتِكَ هنا، إنْ
لم تنفّذ الأوامر وتغادر سورية
فوراً!..
صوت سيارةٍ تقترب من بعيد .. توقفت
السيارة قريباً من الحاضرين،
وترجّل منها رجل كهل، بينما بقي
آخر خلف مقودها .. قال الرجل
الكهل :
- أنا السفير الفرنسيّ، أطلب من
سيادة الضابط السماح لمواطننا،
الذي يحمل الجنسية الفرنسية،
بمغادرة هذا المكان، ونحن
سنتولى أمر عودته إلى بلده،
وإننا نحتج على هذا الأسلوب في
معاملة مواطنينا!..
- الضابط : على أن يغادر سورية
فوراً، وإلا سنعتقله!..
- الدكتور ماجد : لن أغادر وطني
سورية بعد اليوم، فهذا وطني ولا
وطن لي سواه، وهذه أرضي ولا أرض
لي سواها، وهذا حقي لا يمكن
لإنسانٍ أن يصادره مني، وسأطالب
بالتعويض أيضاً عن كل ما أصابني
من ظلمٍ وقهرٍ وأذىً خلال ربع
قرن!..
- السفير الفرنسيّ : لكنك حالياً
مواطن فرنسيّ، ونحن نحترمك
ونحترم حقوقك، فأرجو ألا تتصرّف
تصرّفاً يجعلهم يسيئون إليك،
فتقع بيننا وبينهم أزمة سياسية
نحن بغنىً عنها!..
استلّ الدكتور ماجد من جيب قميصه،
جوازَ سفره الفرنسيّ، وبدأ
بتمزيقه قائلاً :
- لن أكون بعد اليوم إلا ابن سورية،
أنا ابن الشام، من أحفاد معاوية
بن أبي سفيان وخالد بن الوليد
وصلاح الدين الأيوبيّ .. ومن
أبناء عز الدين القسّام ويوسف
العظمة .. ومن أبناء المجاهدين
الذين روّوا بدمائهم أرض الغوطة
هذه .. انظروا أيها السادة إلى
شجرة الجوز هذه، عمرها عشرات
السنين، هل كان يمكن لها أن تبقى
حتى الآن لو لم ترتوِ من دماء
الثوار الأبطال، الذين دافعوا
عن هذه الأرض الطيبة، وعن هذا
الوطن الغالي، أنا عربي سوري
مسلم، حقوقي لا أتنازل عنها،
ولن أتزحزح عن هذه الأرض الطيبة
بعد اليوم مهما كلّفني الأمر!..
- الضابط مشيراً إلى جنوده
بالاستعداد لإطلاق النار : خلال
دقيقةٍ واحدة .. إن لم تتحرّك
لمرافقة سعادة السفير .. فسآمر
بإطلاق النار عليك!..
- الدكتور ماجد يمزّق قميصه، ويكشف
عن صدره صارخاً : لن أرحل يا هذا،
فهذا وطني كما قلت لك، وحقي فيه
ليس منحةً منكم أو منّةً عليّ،
وهذا صدري أقوى من رصاصكم،
بِحُبِي لوطني وأرضي وأهلي
وشآمي .. هاكم صدري .. فإني قرّرتُ
استقبال رصاصكم ولن أغادر أرضي
وأرض أجدادي وآبائي، فاشهدوا يا
قوم .. اشهدوا يا ناس!..
صوت مغاليق الرشاشات وتلقيم
الرصاص ينبعث في المكان .. بينما
تقدّم بعض الرجال الحاضرين، من
أصحاب المعلّم عبد القادر
وأقاربه .. ليحجزوا الضابط
العقيد عن الدكتور ماجد، فيما
النساء يُبعِدنَ أطفالهنّ عن
المكان .. صاح المعلّم (أبو عبده)
وهو يتقدّم باتجاه الضابط :
- يا سيادة العقيد : إذا أردتم أن
تطلقوا النار على ضيفنا الشريف
هذا، فجسدي دونه، وعليكم أن
تقتلوني قبل أن تصيبوه بأي أذى!..
تشجّع بعض الرجال، فتقدّموا
للاصطفاف إلى جانب المعلم (أبو
عبده)، فيما قال أحدهم :
- نحن والدكتور ماجد -في سبيل الله-
فداء لسورية .. للشام .. للوطن
الغالي .. بل للوطن الأغلى!..
هتف مَن بقي من الحاضرين : الله
أكبر .. الله أكبر .
*
*
*
*
*
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|