شروط "النمسا" التي أعلنها "نصر
الله" ...
في يوم الثلاثاء الكبير
الطاهر إبراهيم*
المواطن السوري مسكون بالخوف من
أي خلاف قد يشجر بين أشقائه
اللبنانيين، لألف سبب وسبب، ليس
أقلها وشائج القربى التي تربط
عائلات كثيرة في لبنان بعائلات
سورية بأواصر النسب والمصاهرة.
فهو يُسرّ بقدوم أقربائه
اللبنانيين للزيارة، ولكنه
يحسب ألف حساب إذا ما جاؤوه
لاجئين. فإذا ما ظهرت قزعة غيم
في سماء لبنان، لبس ثيابه
السميكة تحسبا لامتداد تلك
القزعة لتصبح غيما ركاميا داكنا
ينسكب مطرا. وربما تنحدر سيولا
من جبال لبنان الشرقية على سهول
دمشق وحمص.
المواطن السوري تكدر وركبه همٌ
كبير يوم بدأ العدوان
الإسرائيلي على لبنان في
"يوليو" تموز الماضي،
وتنفس الصعداء يوم بدأ وقف
إطلاق النار في 14 أغسطس، لينهض
لبنان متثاقلا من جديد فيبدأ
ورشة إعادة الإعمار وتضميد
الجراح. وفي كل مرة يقول المواطن
السوري كما اللبناني "يا ليت
الذي جرى ما كان". ولكن الذي
جرى، في كل مرة كان بفعل فاعل
ولم يأت عفو الخاطر. صحيح إن
إسرائيل سبب البلايا في
المنطقة، لكنها كانت كثيرا ما
تتكئ على الأخطاء التي يقترفها
البعض منا فتفعل ما خططت له بعد
أن هيأ لها ذريعتَها ذاك البعض
الذي ينهض ليلقي على الآخرين
باللوم لأنهم تخاذلوا أو تآمروا
أو....
لبنان بلد عربي، وعروبته صافية
لا تكاد تشوبها أثنية أخرى. لكن
فيه من التعقيد أكثر مما في كل
الأقطار العربية بسبب التنوع
الكبير في الطوائف الدينية
والمذهبية، وبسبب موالاة البعض
لدولة عربية، أو اتهام البعض
الآخر بأنه عميل ينفذ أجندة غير
لبنانية. ويكبر الخطأ وتقع
الطامة الكبرى عندما يشعر هذا
الرمز أو ذاك من هذه الطائفة أو
تلك، أنه يستطيع أن يقف في
الساحة اللبنانية ليقول: "يا
أرض اشتدي ما أحد قدي"، وأنه
يستطيع فرض شروطه اعتمادا على
عمقه المذهبي أو السياسي داخليا
أو خارجيا.
فما الذي دفع حسن نصر الله عندما
أطل يوم "الثلاثاء الكبير"
ليفرض على محبيه وشانئيه أن
يسهروا معه ثلاث ساعات طوالا،
مع أن خير الكلام ما قل ودل؟
عزوف "نصر الله" عن الظهور
كثيرا قبل حرب الصيف الماضي جعل
الغموض يكتنف أسلوبه في
التفكير. ما تنبه إليه البعض بعد
اغتيال الشهيد "رفيق
الحريري" أنه استنكر،
بدبلوماسيته المعهودة، قول من
قال بإقالة قادة الأجهزة
الأمنية المسئولين عن أمن
لبنان، على الأقل، لتقصيرهم
في حماية الشهيد المغدور. وبرر
استنكاره بأن هذه الإقالة
سيترتب عليها إحراج أسر هؤلاء
الضباط. ولم تمض مدة حتى تبين أن
هؤلاء الذين أشفق على شعورهم،
على الأقل، هم في دائر الاشتباه.
البعض رسم علامة استفهام حول
الاستنكار، وإن لم يفصح.
بعد حرب تموز "يوليو" الماضي
ظهر الشيخ "نصر الله" في
صورة غير صورته النمطية التي
رسمها لنفسه قبل تلك الحرب. ولعل
أخطر ما استجد عنده أنه نصب من
نفسه وكيلا "حصريا" يدافع
عن حقوق لبنان، ليس في مواجهة
تهديد أمريكا وإسرائيل فحسب، بل
في أن يفرض، على الداخل
اللبناني، أجندته التي بدأ في
الترويج لها في اليوم التالي
لسريان وقف إطلاق النار الأخير.
فهو لم يحتكر لنفسه الوطنية
فحسب، بل بدأنا نسمع تعبيرات
كان يتحاشاها فيما سبق -برع في
إطلاقها حلفاء نصر الله في
النظام السوري- مثل الذين
تآمروا على البلاد وعلى حزب
الله قبل الحرب وأثناءها
وبعدها.
هذه الأجندة لم يتركها السيد نصر
الله "معماة" في خطابه يوم
"الثلاثاء الكبير" في
لقائه مع قناة المنار. فهي وإن
كانت مفتوحة على كل المفاجآت،
إلا أنها تبدأ بإعادة توزيع
الحصص في الحكومة المشارك فيها
والتي منحها نوابه الثقة. وقد لا
يكون النزول للشارع آخر تلك
الأجندة وصولا إلى أن تضطر
الحكومة على النزول على حكمه في
طلبه "الثلث الضامن"،
مرورا بانتخابات نيابية قبل
وقتها، مغمضا عينيه عن انتخابات
رئاسية تطالب بها الأكثرية
النيابية لتصحيح الخرق في
الدستور اللبناني الذي جرى
عندما تم تمديد خدمة الرئيس
"إميل لحود" لثلاث سنوات
إضافية بضغط من "الوصي
السوري" على لبنان.
لا يخفي كثير من الدبلوماسيين
قناعتهم بأن هذه المطالب الضخمة
يطرحها "نصر الله" لكي
يقايض بها موضوع إلغاء المحكمة
الدولية أو تحجيمها خدمة للحليف
السوري. ومن يدري فربما كان هناك
تورط لحزب الله أو لأحد حلفائه
في موضوع الاغتيالات، فلم يعد
هناك شيء مستبعدا في ظل "شروط
النمسا" (شروط اشتهر بها
"مترنيخ "وزير خارجية
النمسا التي كان يفرضها على دول
أوروبا في النصف الثاني للقرن
التاسع عشر) التي يفرضها حسن نصر
الله. ولكن لمَ كل هذا الغلو
والفوران في مواقف نصر الله غير
المعهودة قبل حرب تموز
"يوليو" الماضي؟
الذين يعرفون الطريقة التي يفكر
فيها الشيخ حسن نصر الله يدركون
أنه لا يطمح أن يكون حاكما
للبنان. فما تواطأ عليه
اللبنانيون منذ الاستقلال أرسى
تفاهما، بعضه مكتوب وبعضه الآخر
تعارفوا عليه. وجاء اتفاق
الطائف ليكون دستورا موازيا
للدستور اللبناني، وهو من الفهم
بحيث يدرك أنه لا يستطيع القفز
فوق المسلمات والمكتوبات حتى لو
أراد ذلك. فما هي القضية التي
حكمت "نصر الله" ودفعته
ليخرج على مألوف عادته؟
لقد أصبح من شبه المؤكد أنه قد
تجمعت لدى القاضي البلجيكي
"براميرتز" كل المعطيات
التي تدعوه ليعلن إدانته للنظام
السوري باغتيال الشهيد
"الحريري". كما أن تشكيل
المحكمة الدولية ،برغم تحفظات
"موسكو" على بعض بنودها، قد
أصبحت قاب قوسين أو أدنى، ما جعل
نصر الله –بحركة إرادية أو غير
إرادية- يتمسك بالثلث المعطل
لإفشال الموافقة على المحكمة
الدولية التي قد تكون مقدمة
لتفكيك نظام الحكم السوري، وهو
عمق سياسي بدونه يصبح ظهر حزب
الله مكشوفا. بصورة أخرى أدق،
فإن تفكيك النظام السوري سيكتمل
به الطوق حول حزب الله، ما يسهل
تفكيك الحزب نفسه وتحويله إلى
حزب ثانوي قد ينافسه أحزاب
شيعية أخرى، ربما يلجأ إلى
تشكيلها بعض زعماء الشيعة الذين
همشوا زمنا طويلا من قبل حركة
أمل وحزب الله في لبنان.
على أن هناك قضية أخرى قد تقلق
بال "نصر الله". فبعد
انحسار مواقع حزب الله بعيدا عن
الجنوب اللبناني، وبعيدا عن
التماس مع الخط الأزرق ومن ثم
الجيش الإسرائيلي من ورائه
،ستصبح كوادر الحزب من دون عمل
عسكري يشغلها. ومن يدري فقد تكون
قيادة الحزب السياسية مُتهمةً
من كوادر الحزب العسكرية بأنها
جرتها إلى معركة غير محسوبة،
ماجعلها تخسر مواقعها بمحاذاة
الخط الأزرق. وعليه فإن افتعال
المعارك السياسية في داخل لبنان
قد يشغل هذه الكوادر ولو إلى
حين.
بعض السوريين الذين يريدون الخير
لبنان، ينصحون اللبنانيين
ومنهم "نصر الله"، أن لديهم
من المشتركات ما يبعدهم عن ترف
الخلاف، لو أنهم أرادوا ذلك
وتذكروا أنهم في سفينة واحدة،
وأن الرياح قد تجري بما لا
يشتهيه ركاب السفينة، وإنهم إما
أن ينجوا جميعا أو يغرقوا
جميعا، وقد لا تكون هناك منزلة
بين المنزلتين.
*كاتب سوري
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|