ـ

ـ

ـ

الأربعاء 15/11/2006

الخلط المأساوي المضحك ..

بين الاهتمام بشؤون الأمة.. وبين الوصاية على عقول أبنائها !

عبدالله القحطاني 

ما أكثر ما نرى ونسمع ، هنا وهناك ، أناساً يَسلقون الآخرين بألسنة حِداد ، وأقلام حِداد ، دون أن يُعفوا أحداً ، من أبناء شعبهم ، أو أبناء أمتهم ، من شتيمة من نوع ما ، أو تهمة من طراز ما..!

وإذا سألتَ أحدهم : لمَ تفعل هذا.. ويلك !؟

قال لك بعنجهية بليدة ، أو غرور أبله : إن هؤلاء الناس جهلة ، همج، متخلفون، عجزة ، فاشلون .. إنهم سبب هوان الأمة وضعفها، وذلّها وانحطاطها .. وهم سبب نكباتها ومصائبها .. وهم.. وهم ..!

وإذا سألته : وما شأنك أنت في هذا كله!؟

أجابك بدهشة واستغراب : عجيب أمرك ! ألست أنا من هذه الأمة !؟ أفلا يهمّني أمرها !؟ أفلا أقوى بقوّتها، وأضعف بضعفها، وأعزّ بعزّها، وأذلّ بذلّها ..!؟ ( وإذا كان يحسب نفسه على تيار إسلامي ، أو مدرسة فكرية إسلامية ، ويحفظ بعض الأحاديث النبوية ، قال للك بثقة العالم ، الحريص على الأمة ، في حاضرها ومستقبلها، وفي دنياها وآخرتها :  /ويحك ياهذا.. ألم تسمع بالحديث النبوي : مَن لم يهتمّ بأمر المسلمين فليس منهم !؟/. أمّا إدا كان ذا توجّه علماني ، وقرأ شيئا من كلام بعض المفكرين أو الفلاسفة ، في الشرق أو الغرب ، فقد يسرد على مسامعك بعضاً ممّا قاله كونفوشيوس ، أو سبينوزا ، أو هوشي منه ، أو أركون، أو سارتر، أو زردشت .. عن سرّ بقاء الأمم وازدهارها ، وأسباب شقائها وانهيارها ..!).

فإذا سألته : وماذا فعلت أنت ، لتخرج أمتك من الواقع السيء الذي تراه، أو المصير المظلم الذي تتوقّعه !؟

أجابك بثقة : إنني أقول ، وأكتب ، وأوجّه ، وأحذّر، وأنذر، منذ عشرين سنة ـ وربما قال : منذ ثلاثين ، أو أربعين ، أو خمسين سنة ..! ـ لكن لاحياة لمن تنادي ..! أمّة غلَب عليها الجهل ، وكتِب عليها الشقاء ! فماذا بوسع القلّة القليلة ، من العقلاء أمثالي ، أن تفعل ، لإنقاذها ممّا هي فيه، أو تجنيبها المستقبل الأسود الذي ينتظرها!؟ لكن مع ذلك ، سنظلّ نقول ونكتب ، أداءً للواجب ، وإبراءً للذمّة ، عسى أن يَسمع الناس كلامنا ويقتنعوا به ..!

وإذا سألته : أليس لديك لغة للنصح والتوجيه والتحذير، خير من لغة السبّ والاتّهام والتجريح هذه ، وأكثرمنها قبولاً لدى الناس ـ هذا إذا لم يكن لديك شيء مفيد تفعله سوى الكلام ـ !؟

أجابك بنزق : وما الذي يمكن أن يفعله مثلي سوى الكلام ، وليس لي منصب أفرض من خلاله آرائي وأفكاري وتصوراتي على الناس !؟ ثم أيّة لغة تجدي مع هؤلاء الجهلة الأغبياء ، أفضل من هذه اللغة الحادّة القاسية !؟ فإذا كانت هذه اللغة لا توقظهم من غفلتهم ، أو تحرك مشاعرهم ، فهل تتوقّع من لغة هادئة عاقلة مهذبة ، أن تؤثّر في نفوسهم الخرِبة ، وعقولهم البليدة !؟ (ولن تستطيع ، بالطبع ، أن تسأله السؤال المألوف ، الذي يتطارحه العقلاء فيما بينهم ، في مثل هذه الحوارات، وهو: ولمَ تفترض أنك وحدك على صواب ، وأن الآخرين جميعاً على خطأ !؟ لأنك ستدخِل نفسَك ، ببساطة ودون مقدمات ، في دائرة الجهلة الحمقى الأغبياء ، الذين يستحقّون الشتم والاتّهام والتجريح ! فهذا الطراز من البشر لا يستطيع ، أصلاً ، أن يَميز الخطأ من الصواب ! فالصواب عنده هو ما يقوله هو ، حصراً ! والخطأ عنده هو ما يقوله الآخرون، بصرف النظرعن إمكاناتهم ومؤهلاتهم ومواقعهم ، وخبراتهم في القضايا التي يدّعي أنه أعلم أهل عصره فيها ، حتى لو كانت تدخل في صميم اهتمامهم ، وتتعلق بمصير مجتمعاتهم وأوطانهم ..! وقد صارت الاتصالات السريعة ، ذريعةً لكل /عبقري هُمام!/ ، ليفرض آراءه وتوهّماته ، على كل أهل بلدة وقرية ، ولو كانت في أقاصي الصين، مدّعياً أنه أدرى منهم بشؤون بلدتهم أو قريتهم .. وإلاّ فما معنى أن يكون العالم قرية صغيرة !؟).

وحين يحاول المرء أن يستعرض شريحة من هذه النماذج ، ليعرف طبائعها ودوافعها ، يكاد يحصرها في أنماط محدّدة قلّما تخرج عنها :

1-  الأحمق الثرثار الفضولي ، الذي تطوّع بأن ينصّب نفسه وصيّاً على الأمّة كلها ، من شرقها إلى غربها ، ومن شمالها إلى جنوبها، ويرصد كل حركة و سكَنة ، في هذه الدولة أو تلك، وفي هذا الحزب السياسي أو ذاك ، وفي هذه القبيلة أو الطائفة أو الملّة أوتلك .. ليتّخذ من هذه الحركات والسكنات ، مادّة لحديث يتسلّى به يوماً ، أو أسبوعاً ، فيرضي شهوة الفضول لديه ، ويريح ضميره القلق ، الذي تعذّبه مآسي الأمة ومصائبها ! ويروي نزعة الغرور لديه ، أمام الآخرين ، الذين يعجبون بجرأته على السبّ والتجريح ، وبحرصه الشديد على مصالح الأمة ، التي لو زلقت فيها شاة أو بغلة ، على شاطئ دجلة أو الفرات ، لعَدّ نفسه مسؤولاً عنها ( على منهج الخليفة الراشد عمر بن الخطاب)!

وهذا الطراز من البشر لا هويّة محددة له .. فقد يكون متديّنا يشتم العلمانيين لضلالهم ، ويشتم المتديّنين لعجزهم أو جهلهم ، ويشتم الفسّاق لفسقهم ، ويشتم العقلاء لأنهم لا يكترثون بكلامه ..!

كما قد يكون علمانياً أو فاسقاً ، يشتم المتديّنين لأنهم سبب جهل الأمّة وتخلّفها ومصائبها كلها ، ويشتم العلمانيين لتقصيرهم في تنوير الناس، وتفتيح أبصارهم وبصائرهم للقضاء على جهل المتديّنين وتخلّفهم ..!

2- المستفيد الذي يحركه الجشع ، وتدفعه نزعة (القَبض) من هذه الدولة أو تلك ، ومن هذه الصحيفة أو تلك ، ومن هذه القناة الإعلامية أو تلك ..! فهو يلهث ليقبض ، ولو كانت مادّة حديثِه سمعةَ أمّه وأبيه ، وصاحبتِه وبنيه ، وفَصلتِه التي تؤويه ! دون أن يخطر في باله أن يقف لحظة واحدة ، ليفكّر في التأثير المتوقّع لكلامه ، على الناس الذين يتحدث عنهم ، أو على مصلحة الأمّة، التي يدعي الدفاع عنها وعن مصيرها ، أو على سمعته ، هو شخصياً ، بين الناس ..! فلا وقتَ لديه للتفكير، لأن أيّة لحظةِ توقّف للتفكير، ستُضيع عليه وقتاً يكتب فيه سطراً أو سطرين، في مقالة يقبض عليها مكافأة صحفية ، أو مكافأة أخرى من جهة أخرى ..!

ولا يُشترط ، بالطبع ، أن الذي يقبض من صحيفة ، يقبض من دولة، كما أن القبض من هذه لا يحرمه ، بالضرورة ، نعمةَ القبض من تلك !

3- المرتبط فكرياً أو (أيديولوجياً ) بجهة ما ، تحرّكه لإثارة هذا النوع من القلق ، والتشكيك ، والطعن بالأمة كلها ، بشتّى توجّهاتها وأفكارها ، وبسائر رموزها ومؤسّساتها ، لتيئيس الناس من الأمّة ، ومن إمكانية إصلاحها.. لأن الخلل كامن في جبلّتها، وفي صميم تكوينها ..!

فهل هذا الطراز من البشر ، بسائر أصنافه ، مؤهّل لأن يدفع عن الأمّة خطراً ـ أيّ خطرـ أم هو خطَر قائم بذاته ، ينبغي على عقلاء الأمة جميعاً التنبّه إليه ، ومحاصرته أينما وجِد ، وإلى أيّ تيّار سياسي ، أو مدرسة فكرية ، انتمى !

وواضح هنا ، بالطبع ، التمييز بين حريّة النقد العاقل البنّاء، وحريّة الشتم والقدح ، والتشهير والتجريح ، والاتّهام المجّاني.. سواء أجاء هذا كله في إطار( القبض والدفع !) أم في (الإطار التطوّعي المجّاني!) أم في إطار ( الارتباط الفكري/العقدي!).                

كما لا يدخل هنا ، صنف الشتّامين الخاصّين ، المتفرغين لجهات معينة ، يشتمونها ويشهّرون بها ، من مثل :

- الحزبي الذي انشقّ عن حزبه ، وبدأ يشنّع على قادته ومؤسساته..

- المرتزق المستأجر من قِبل جهة معينة ، لشتم جهة معينة بشكل خاصّ !

- المغامر الذي انضمّ إلى تجمّع ما ، طمعاً بموقع ما ، أو مغنم ما .. وحين لم يحصل على ما أراد ، انشقّ على هذا التجمّع ، وطفق يرشق عناصره بالشتائم والتهم ، من كل صنف ولون.

-  مناكفات الكتل والأحزاب فيما بينها..

- الشتائم والتهم المتبادلة ، بين الحكومات ومَن يحطب في حبالها، وبين المعارضات بأنواعها ..

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ