تعويم
الليرة السورية
هيكل
غريب
اعلن في دمشق ان
الحكومة السورية قررت فك ارتباط
العملة الوطنية بالدولار
الامريكي واعتماد سلة من
العملات الاجنبية كأساس يعتمد
في تقويم اسعار الليرة ، وان
السطات السورية ستباشر في تنفيذ
هذا القرار اعتبارا من السنة
القادمة في اطار آلية السوق
وحرية النشاط الاقتصادي
والمالي كنظام جديد للمرحلة
القادمة .
القرار لم يفاجأ
احد من المراقبين السياسيين
والاقتصاديين ، فقد سبق للسطات
السورية ان تحدثت بالفم الملأن
عن التخلي عن النهج المركزي
الذي كانت تطلق عليه لأكثر من
اربعين عاماً بالنهج الاشتراكي
، ثم ان واحدة من التوصيات التي
تم رفعها في مؤتمر حزب السلطة
الاخير هي التي تطالب النظام
بأعتماد نظام السوق عوضاً عن
النظام الاشتراكي لفشل الاخير
في تقدم البلاد وحل الازمات
الاقتصادية المتفاقمة في كل
نواحي الحياة .
النظام السوري لا
يريد صراحة ان يقول انه سيلجأ
الى تعويم العملة السورية ولكنه
تحدث عن فك ارتباط مع الدولار
واعتماد سلة من العملات كأساس
لتحديد اسعار الليرة ، بمعنى ان
سياسة التعويم سياسة مكروهة لا
تلجأ اليها البلدان الا بحالات
صعبة ولمواجهة ازمة اقتصادية
عاتية ومحاولة لسحب العملة الى
حالة تبتعد عن الضغوط القوية
التي تواجهها من بينها التضخم
النقدي الجامح وارتفاع الاسعار
وبالتالي تدني اسعار العملة
وانخفاض القوة الشرائية
للمستهلكين على مختلف شرائحهم
ومكانتهم الاجتماعية والطبقية .
فالتعويم تعويم
سيلجأ النظام الى هذه السياسة
صاغراً ام طائعاً لا خيار في ذلك
، والنظام مسؤول عن هذا التدهور
الحاصل ، وعن المأساة التي
يشهدها اقتصادنا الوطني ، وبحال
اعتماد هذه السياسة كنهج فلن
تحل أية مشكلة وسترتفع وتائر
التضخم وتتراجع القوة الشرائية
للعملة وتصيب دخول المواطنين
بمقتل ، عند ذلك لن تنفع معها
سياسات الترقيع ، ولا طمس
الحقائق واللعب بمقدرات البلاد
، ولا ارتفاع صيحات المكابرة
بينما غول التضخم منفلت العقال
يأكل الاخضر مع اليابس .
وللعلم فأن تعويم
العملات سياسة تلجأ اليها
البلدان المتقدمة في اقتصادها
بحالات صعبة على ان تكون سياسة
مؤقتة ولمرحلة محددة ، وتوضع
الخطط والدراسات مسبقاً
لمعالجة الاسباب التي ادت الى
سياسة التعويم وسبل الخلاص من
آثارها الجانبية واضرارها على
اقتصاد البلاد ، وتعمل مثل هذه
الدول على ان لا تطول مرحلة
التعويم الى ان يأخذ الاقتصاد
مساره السليم والتعافي من ازمات
الاسعار والتضخم واخراج البلاد
من المعضلة الاقتصادية قبل ان
تتمكن من الحاق الاذى بالبلاد .
اما في سوريا
فالوضع مختلف ، واقتصادنا لم
يبلغ بعد القوة التي نحلم بها
فلماذا تلجأ السطات القائمة الى
سياسة التعويم للعملة وبهذه
البساطة التي يسوقها من يحكم
البلاد ويرسم السياسة
الاقتصادية ، فاقتصادنا الوطني
من الاقتصاديات النامية
ولايمتلك مقومات تؤهله للخروج
من معضلاته بسبب السياسات
الفاشلة للنظام طيلة السنوات
الاربعين الماضية ، ثم ان
الامراض التي ابتلي بها
الاقتصاد السوري كانت بفعل فاعل
تصعب معها المعالجة ، بل هي
امراض معروفة للجميع
واعترفت السلطة قبل غيرها بها
ولكن هذه السلطة بدلاً من
اللجوء الى المعالجة الجذرية
تلجأ الى سياسات تعمق من
المأساة وتترك هذه الامراض
لتفعل فعلها بالمجتمع السوري
واقتصاده الوطني وفي مقدمتها
الرشوة والفساد وتآكل القيمة
الحقيقية للعملة الوطنية
واصدار العملات بدون غطاء
والعجز في الميزانين التجاري
والمدفوعات وهجرة الكفاءات
السورية الى الخارج ، وغير ذلك
من الامراض التي تفتك بالاقتصاد
والمجتمع معاً .
ومن الطبيعي بحال
تبني السلطات في دمشق سياسة
التعويم ان تبدأ على الفور
الاثار السلبية على الوضع برمته
في البلاد ، ومن الطبيعي ايضاً
ان تنهار محكمات الاسعار لتأخذ
بالارتفاع في ظل آلية السوق
المفتوحة ، وان ترتفع وتائر
التضخم لتصل الى مستويات مخيفة
لا يتحملها ابناء سورية وخاصة
ذوي الدخل المحدود ، ومن
الطبيعي ايضاً ونتيجة لذلك كله
ان تنخفض اسعار الليرة السورية
امام سلة العملات المقترحة
لمستويات لا يمكن تحديدها او
ضبطها او وقفها ، وستنشط
بالتالي السوق السوداء وتجارة
المحرمات ورواج المضاربات ليس
في عمليات التداول والانشطة
المصرفية فحسب ، بل ستنشط معها
عمليات السلب والنهب والفساد
وشراء الذمم .
والسؤال الان ، اذا
كان لسياسة التعويم كل هذه
الاثار السلبية والنتائج
الاقتصادية والاجتماعية
المخيفة ، لماذا تلجأ السلطات
السورية الى هذه السياسة التي
تتجنبها العديد من البلدان ولا
تقترب منها ..؟ وهل
الخيارات الاخرى مفتوحة امام
هذه السلطات لمعالجة التدهور في
الاقتصاد وتدني اسعار العملة
السورية ..؟ ان قراءة بسيطة
للمشكلات المتراكمة للوضع
الاقتصادي تشير بوضوح الى صعوبة
المعالجات في ظل الواقع
الاجتماعي والاقتصادي الحالي
وتحكم السطلة في رقاب العباد من
ابناء سورية وسياسة البلطجة
التي تتمسك بها طيلة السنوات
الماضية من عمر النظام وحكم
العائلة الاسدية .
فالخيارات صعبة ،
واصعبها مرارة خيار التعويم ،
وقد اعتاد نظام دمشق المضي في
سياسة الهروب الى الامام ،
وعندما يختار اصعب الخيارات
فأنه يضع امامه حالة واحدة لا
غيرها وهي الحفاظ على السلطة
والتمسك بها ، ولا يهم بعد ذلك
ان تحترق روما او ينهار السد
الكبير في مأرب ، او تنفتح ابواب
جهنم ، المهم السلطة وبقاء
النظام وسلامة العائلة الحاكمة
، وعندما احتلت الجولان ووصلت
القطعات العسكرية للعدو
الصهيوني الى مناطق قريبة من
دمشق في الحربين حزيران وتشرين
اعتبر النظام انه المنتصر
والصهاينة انهزموا ، اما لماذا
انتصر وانهزم العدو فلأن العدو
لم يستطع قلب النظام واسقاطه ،
هكذا يتحدث النظام ، وهذه هي
سياساته التي اوصلت سورية الى
ان تنغلق امامها جميع الخيارات
ولم يبق الا خيار الحفاظ على
السلطة ، ليس الا .
ان تعويم العملة
الوطنية هو بكل الاحوال تعويم
لكل الانشطة الاقتصادية من
الفها الى يائها ، وسينفلت
الحبل على الغارب ، ويزداد
تدهور القوة الشرائية للنقد
السوري ، ويواصل ارتفاع الاسعار
بوتائر عالية يصعب معها التكهن
بآثارها السلبية ، وسوف تتراجع
عمليات الادخار وتتراجع معها
سبل الاستثمار في قطاعات
الانتاج المختلفة ، ونعتقد بحزم
ان اصحاب رؤوس الاموال الوطنية
لابد وان يبحثوا عن اماكن اخرى
غير بلادهم يوظفون اموالهم في
مجالات يؤمنون سلامتها
ويتجنبون تآكل اقيامها في ظل
سياسة التعويم ، بمعنى آخر
سيتراجع النشاط الاقتصادي في
البلاد وتنخفض معه معدلات النمو
ولن يحدث بعد ذلك لا تراكم لرأس
المال الضروري لاعادة الانتاج
ولا استجلاب لرأسمال خارجي ،
والذي يحدث فقط سيادة كاملة
للطفيلية الحاكمة ، وتعميم
الفساد ، واتساع شامل للسوق
السوداء ، فالصورة قاتمة ،
والحالة سيئة وقاسية وتحتاج الى
معجزة يتمناها الجميع ، في زمن
يخلو من المعجزات ...!.
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|