حين
يكون الكلام فعلاً، فعلى صاحبه
مسؤوليات ضخمة !
(لاسيّما
إذا كان فعلاً سياسياً)
عبدالله
القحطاني
1- عملُ الإنسان فعل وقول . وهو يُسأل عن
كل منهما على حِدة ، ويُسأل
عنهما معاً!
2- الفعل هو حركة
الأعضاء والجوارح ماعدا
اللسان.( وقد تتضمّن حركةُ
الأعضاء قولاً في سياق ما ،
كالإشارة ، والإيماء باليد أو
الرأس أو العين..).
3- القول هو حركة
اللسان ، وما يتعاون معه من
حنجرة وحلق وشفتين..
4- اختلاف القول والعمل ، في سياق معيّن
، مذموم ، كمَن يأمر الناس بفعل
الخير، ويخالف فعلُه قولَه(
كبُرَ مَقتاً عندَ الله أنْ
تَقولوا مالا تفعلون) ..(
أتأمُرونَ الناسَ بالبِرِّ
وتَنسَون أنفسَكم ..).
5- من يعمل في حِرفة يدويّة ( نِجارة ،
حِدادة ، حِراثة.. ) مسؤول عن
إتقان حِرفته. فإذا قال كلاماً ،
كان مسؤولاً عن كلامه ، من حيث
الصواب والخطأ ، والصدق والكذب
..! وليس ثمّة ارتباط ، بالضرورة
، بين قوله وفعله.
6- من كان فعله هو الكلام حصراً ،
مقروءاً ، أو مكتوباً ، أو
مصوراً (كالإعلامي، والأديب ،
والمحامي ، والعالم ، والخطيب ،
والمدرّس..) كان مسؤولاً عن (فعل
الكلام) من حيث الإتقان ،
والأمانة ، وعدم الغشّ .. كما هو
مسؤول عن (قول الكلام) من حيث
الصواب والخطأ ، والصدق
والكذب..!
7- وإذا كان مصطلحا الصدق والكذب ،
واضحَين في الأذهان ، فإن
مصطلَحي الصواب والخطأ ،
نسبيّان جداً ، تتحكّم فيهما
أمور عدّة ، منها:
· هل الكلام مناسب لزمانه ومكانه!؟
· هل الكلام موجّه إلى عقول الناس ، أو
قلوبهم ، أم إلى العقول والقلوب
معاً!؟ وهل هو مناسب لمخاطبة
العقول ، من حيث انسجامه
ومنطقيته ، وقدرته على الإقناع
، ومناسب لمخاطبة القلوب ، من
حيث تأثيره الإيجابي في المشاعر
والعواطف !؟ أم هو متناقض في
مخاطبة العقول ، مؤذٍ في مخاطبة
القلوب ، جارح للمشاعر، منفّر
للسامعين !؟
· وهل الكلام
مناسب لمستوى المخاطَبين به ،
من حيث الإدراك ومن حيث
المراتب..أم هو فوق مستواهم ، أو
دونه !؟ وفي الحديث : (خاطِبوا
الناس على قدر عقولهم..).
· وإذا كان المقصود بالكلام هو النقد
الذاتي ، داخل أسرة ، أو قبيلة ،
أو حزب ، أو تجمّع سياسي يضمّ
فصائل متحالفة ـ في معارضة
سياسية مثلاً ـ توظَّف كلماتُ
أفرادها توظيفاتٍ متنوعة ، مِن
قِبل خصومها وأعدائها ، وكل
كلمة سيئة تؤثّر سلباً في
قوّتها... فهل من المناسب ، أو
النافع ، أن يوجَّه النقد
الذاتي علناً في وسائل الإعلام
ـ بحجّة الصراحة ، أو التوجيه ،
أو التسديد ، أو النصح ، أو
النقد الذاتي البنّاء ، أو
حريّة الرأي ـ فيعطي الآخرين
حجّة على الفئة المنتقَدة كلها
.. الناقد منها والمنقود!؟
· وإذا أدّى هذا النوع من النقد الذاتي ـ
على افتراض حسن النية لدى صاحبه
ـ إلى آثار سلبية كبيرة على
الفئة المنقودة ( آثار سياسية أو
أمنية).. فمن يتحمل تبعات هذه
الآثار وتداعياتها، التي قد
تكون مدمّرة أحياناً أو مؤذية
أذى كبيراً !؟ ( ولن نتحدث هنا عن
سوء النية ، أو إرادة التخريب
المتعمّدة المغطّاة بحجّة من
الحجج المذكورة أنفاً .. لأن
الكلام في هذه الحال ، يكون قد
حقق الهدف الذي أراده منه صاحبه
، سواء أكان بمبادرة ذاتية منه ،
أم بإيعاز من آخرين !).
8- خطورة هؤلاء الناس ، الذين تخصصوا
بفعل الكلام ، ووهبوا حياتهم له
، هو أنهم يصنعون الأمة ! أصحاب
الأعمال الأخرى يصنعون للأمة
أشياءها ، أمّا هؤلاء فيصنعون
أبناءها ! يُسلمهم الناس
عقولَهم وقلوبَهم ، ليشكّلوها
كما يريدون! الطبيب لا يستطيع
تشكيل أجساد مرضاه كما يريد ..
أمّا المدرس ، والأديب ،
والإعلامي، والخطيب .. فيشكّلون
العقول والقلوب والنفوس ، لتصبح
، بجهودهم ، خيّرة أو شرّيرة ،
صالحة أو فاسدة ، نابهة أو خاملة
..! يحذّرونها من الفساد فتنفر
منه ، أو يزيّنون لها الاستبداد
فتميل إليه ، وتخنع لمن يمارسه
عليها..! صاحب الحرفة اليدوية أو
التاجر، قد يقول كلمة جيّدة أو
رديئة ، فيكون تأثيرها عرضياً
عابراً ، في الغالب،
إلاّ في حالات قليلة ..! أمّا
هؤلاء ، فلا عمل لهم ولا همّ ،
إلاّ التأثير في عقول الناس
وقلوبهم ! وهم يمارسون فعلهم
بشكل دائم ، مدى الحياة ،
وتأثيرهم مستمرّ دائم، متراكم
مركّز ..! إنهم بُناة الإنسان ،
صالحاً أو فاسداً ، قوياً أو
ضعيفاً..! فإذا بنَوه صالحاً ، أو
أصلحوه ، أصلَحَ ما حوله ، وما
بين يديه ، وحاضره ، ومستقبله.
وإذا بنَوه فاسداً ، أو أفسدوه ،
أفسَدَ ما حولَه ، وما بين يديه
، وحاضره ، ومستقبله ..!
9- ومن هنا:
· دعوة الله إلى
خلقِه ، حملَها الأنبياء ، عبر
الكلمة ! وتَظهر أهمية الكلمة ،
في التأكيد على خطرها ، من حيث
النفع والضرر ، في سائر
الرسالات السماوية:
في القرآن الكريم :(
مَثـلُ كلمةٍ طيّبةٍ كشجرةٍ
طيّبةٍ أصلُها ثابتٌ وفَرعُها
في السماءِ تؤتي أكُلَها كلَّ
حينٍ بإذنِ ربّها ..).. ( ومَثـلُ
كلمةٍ خَبيثةٍ كشجرةٍ خَبيثةٍ
اجتُـثّت مِن فوقِ الأرضِ
مالَها مِن قَرار).( كَـبُرت
كلمةً تَخرجُ مِن أفواهِهم إنْ
يقولون إلاّ كذِباً).
وفي الحديث
النبوي : ( ربَّ كلمةٍ يقولها
الرجل ،لا يلقي لها بالاً،
يَهوي بها في جهنّم سبعين
خريفاً ) و( هلْ يَكبّ الناسَ في
النار إلاّ حَصائد ألسنتِهم!؟ ).
و( مَن كان يؤمن بالله واليوم
الآخر، فليقلْ خيراً أو ليصمت ).
·أصحاب النظريات
والفلسفات الكبرى ، الصالحة
والفاسدة ، أعطوا الكلمة
المَرتبةَ العليا في سلّم
اهتماماتهم :
الدول
الشيوعية تمجّد الأديب ، أو
المفكر، الذي يواليها ويعمل
لحسابها ! وتدمّر مثيله الذي
يخالف منهجَها وتفكيرَ
حكّامها.. لأنها تراه أخطرَ
عليها من جيش جرّار!
وكذلك يتعامل
الحكّام ، أصحاب الفكر الشمولي
عامّة ، مع صاحب الكلمة..!
10- بناء على ما
تقدّم كلّه ، نذكّر صنّاع
الكلام ، محترفين وهواة ، بما
يلي:
· مَن كان مؤمناً
بالله واليوم الآخر، ويعلم أنه
محاسَب في الآخرة على عمله ، مِن
قول وفعل ، فعليه أن يمعن النظر
كثيراً ، في كل كلمة يقولها ،
قبل أن يتلفّظ بها ، ليَرى ما
إذا كانت ستنزل في سجلّ حسناته ،
أم في سجلّ سيئاته ، مهما كانت
الكلمة صغيرة لا يَرى لها أهمية
أو تأثيراً ..! فلربّما وقعتْ مِن
غيره موقعاً مؤذياً ، سواء أكان
هذا الغير فرداً أم جماعة ،
انطلاقاً من الحديث :( ربّ كلمة
يقولها المرء لا يلقي لها بالاً
، يَهوي بها في جهنّم سبعين
خريفاً !). أمّا إذا قالها ليؤثّر
بها في الآخرين ، عن وعي وتصميم
، فهذا أدعى إلى أن يَزنَها
بدقّة ، في ميزان عقله، وفي
ميزان الشرع الذي يؤمن به
ويحتكم إليه ، وميزان الخلُق
الحسَن ، الذي أمِر بتَحرّيه
والتزامه..! سواء أكانت الكلمة
سياسية ـ وهذه ينبغي أن يَزنها
بميزان السياسة الشرعية ،
والهدفِ الذي يسعى إلى تحقيقه ـ
أم كانت تربوية ، أم ثقافية ..! (
وهو شريك ، بالطبع ، مع الآخرين
، في مسؤوليته عن كلمته في
الدنيا ، وعن الآثار التي
تخلّفها ، سواء أكانت هذه
الآثار كبيرة أم صغيرة !).
· مَن حَصر همّه في
حياته التي يحياها ، دون أن يفكر
بمصيره بعد الموت ، فنذكّره
بمسؤوليته عن كل كلمة يقولها ،
في الميدان الذي نَدب نفسه له ،
سياسياً كان ، أم تربوياً ، أم
ثقافيا ..! وأنه ربّما أسهم في
تدمير المشروع الذي يتصدّى
لبنائه ، أو الهدف الذي يسعى إلى
تحقيقه ، دون أن ينتبه إلى ذلك
أو يقصده .. ! بل ربما أراد النفع
، بكلام يحمل ضرراً كبيراً !
فيكون من الذين ضَـلَّ سعيُهم
في الحياة الدنيا وهم يَحسبون
أنهم يُحسنون صنعاً..! وإذا كانت
العقول متفاوتة في تقديرها
للأمور، وفي قياس المنافع
والمضارّ، فإن مَن يندب نفسه
لخدمة مشروع كبير، يُفترض أن
تكون له مَرجعيّة ضابطة ( أطُر..
وملامح عامّة ) متضمَّنة في
مشروعه نفسِه ، سياسياً كان
مشروعه ، أم ثقافياً ، أم
اجتماعياً ، أم تربوياً ..! وإلاّ
كان كلامه خبطَ عشواءَ ، وكان هو
كتلك الحمقاء ، التي تَغزل
الغزل اليومَ لتَنقضه غداً ، أو
بعد ساعة من الزمن ! ولو نَقض
غزلَه وحدَه ، لكانت المصيبة
فيه أخفّ ، والخطبُ أيسرَ ! إلاّ
أنه ينقض غزلَ جماعة ، أو حزب ،
أو حِلف يراد به نصرةُ شعبٍ ،
وبناءُ دولة ، أوأمّة بأسرها !
ولو تروّى قليلاً ، وتذكّر أن
كلمته ستفعل فعلهاَ ، السلبي أو
الإيجابي ، في الجيل الذي هو منه
، وفي الأجيال اللاحقة التي
منها أولاده وأحفاده ـ سواء
أكان هذا الفعل قوياً أم ضعيفاً
ـ ، فربّما انتقى كلماته بدقّة ،
قبل أن يلقي بها في آذان الناس ،
أوعيونهم ، وفي عقولهم وقلوبهم
..! وسبحان القائل : ( وليَخشَ
الذين لوْ تَركوا مِن خَـلفِهم
ذريّةً ضِعافاً خافوا عليهم
فلْيتّـقوا الله ولْيقولوا
قولاً سديداً ).
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|