يأبى
المتورطون في اغتيال الحريري
إلا أن يمدوا أعناقهم
الطاهر
إبراهيم*
مما حفظه لنا التاريخ أن "عمر
بن الخطاب" رضي الله عنه رأى
أحد ولاته عائدا إلى المدينة
المنورة وقد حمل على دوابّه
أمتعة له لا تتناسب مع راتبه
الضئيل، فقال رضي الله عنه: "تأبى
الأموال إلا أن تمد أعناقها".
تذكرت هذه المقولة وأنا أتابع
على صفحات الإنترنت وفي القنوات
الفضائية ردود أفعال مسئولين
سوريين على نظام "المحكمة
الدولية" التي ستحاكم قتلة
الشهيد "الحريري" ومن
اغتيلوا في لبنان بعده. وفي هذا
السياق فقد وجه المندوب السوري
لدى الأمم المتحدة "بشار
جعفري" رسالة للسكرتير العام
للأمم المتحدة ذكر فيها أنه: "في
حال تبني النظام الأساسي
للمحكمة فمن المرجح أن يظهر
انتهاك غير مقبول لسيادة بلدان
أعضاء محددة وحقوق رعاياها".
وأوضح: "أن سورية حذرت من أن
المحكمة الخاصة يجب ألا تؤسس
إلا بعد انتهاء عمل اللجنة
الدولية المستقلة للتحقيقات"،
وذلك وفقا لوكالة الأنباء
الكويتية.
ما جاء في رسالة المندوب السوري
هو غيض من فيض ما تكتبه وسائل
الإعلام السورية، وما جاء في
المقابلات الصحفية وعلى
القنوات الفضائية التي أجريت مع
الرئيس السوري، وكلها تدور حول
محور واحد هو يجب أن لا تؤسس
المحكمة الخاصة حتى تنتهي
اللجنة "المستقلة"
للتحقيقات من عملها.
يشاركني كثيرون في السؤال: لماذا
يصر النظام السوري على الأمم
المتحدة أن تنتظر حتى ينتهي
التحقيق قبل أن يتم تأسيس
المحكمة، وكأنه ستقع معجزة في
مكان ما أو في دولة ما، من شأنها
بروز معطيات جديدة، لا يدري
كنهها إلا النظام السوري، تحوّل
مجرى الأحداث فيرتفع عنه سيف
التهديد ، بل قد يتم اتهام خصومه
في تلك الاغتيالات؟
هناك من يستهويهم استعراض
الاحتمالات احتمالا بعد آخر،
فيزعم بعضهم أن أهمها على
الإطلاق هو تعويل النظام السوري
على وصل حبال الوداد التي
انقطعت مع واشنطن فيدفع النظام
باتجاه تأخير اعتماد النظام
الأساسي للمحكمة الخاصة، "لعل
وعسى" أن يجد قبولا عندها،
"ويابخت من ترضى عنه واشنطن".
البعض الآخر يصر على أن النظام
يراهن على حدوث تغييرات في
لبنان وأن كل الظروف أصبحت
مهيأة لكي يفرض حزب الله شروطه
في شوارع بيروت، لا سيما وأن أحد
رموزه وجه تهديدا شديد اللهجة
يوم الجمعة 24 نوفمبر الجاري ضد
أي دولة تتعامل مع الحكومة
اللبنانية، تحت طائلة معاقبة
تلك الدولة إذا لم تذعن لهذا
التهديد.
هناك من يقول أن قائمة
الاغتيالات أطول من أن تتوقف
عند آخر الراحلين "بيار
الجميل". ومن لا يخاف من "شارع"
حزب الله، سوف يتكفل به شارعٌ
ستنفجر فيه سيارته، أو يطلق
عليه الرصاص من السلاح كاتم
الصوت، "ولا من شاف ولا من دري!".
الذين ينظرون إلى الموضوع من
وجهة النظر التي تقول إن المحقق
البلجيكي "براميرتز" يمشي
في التحقيق مشي السلحفاة، وأنه
يحتاج إلى أكثر من نصف سنة أخرى
لكي يكمل التحقيق، ما يدفع
بالتقرير النهائي إلى ما بعد
انتهاء ولاية الرئيس الفرنسي
"جاك شيراك"، وفي هذا ما
فيه من غياب مناصر قوي للمحكمة،
وأن الرئيس الذي سيأتي من بعد
شيراك سيكون مشغولا بأمور فرنسا
ليس إلا.
على أن "ترف" استعراض
الاحتمالات التي أشرنا إليها
آنفا، ليس بيت القصيد الذي نبحث
عنه في ثنايا رغبة المسئولين
السوريين من
مسئولي الأمم المتحدة لتأخير
"اعتماد النظام الأساسي
للمحكمة الخاصة" فحسب. ولا بد
أن نتساءل عن سبب قلق النظام
السوري وخوفه الشديد حتى ظهر
ذلك على تصرفاته جهارا نهارا،
مع أن هذه الرغبة تعني إقراره
،ضمنا، بأنه متورط "حتى العضم"
في مسلسل الاغتيالات. وبصورة
أخرى معاكسة، فالنظام يبدو
وكأنه يقول: أنا المريب، ولكنكم
لا تستطيعون أخذي؟
نحن السوريين الذين اكتووا
بنيران أجهزة الأمن السورية
نؤكد أن النظام كان من الجرأة
بمكان، بحيث كان يقترف المجازر
الرهيبة مثل مجزرة "سجن تدمر"
وغيرها، وما كانت تفعله عناصر
المخابرات العسكرية في عامي 80-
1981 عندما كانت تمر فجرا على بيوت
آباء الملاحقين فتقتاد من تجده
منهم إلى شارع قريب، حيث يعدمون
رميا بالرصاص ،ثم تلقى أجسادهم
الميتة على قارعة الطريق.
ما أشرنا إليه آنفا، كان يقوم به
النظام السوري فيصفي خصومه
السوريين غيلة وغدرا من دون أن
يعلم به أحد، وكأن وسائل
الإعلام العالمية غير موجودة.
فقد كان الرئيس الراحل محميا من
واشنطن التي كانت تملك أهم
وسائل الإعلام.
فهل ما يزال التفويض الأمريكي
ساري المفعول، واللبنانيون
والسوريون لا يعلمون؟ أم أن
النظام أضاع بوصلة التوجيه
فاستشاط في دماء الأبرياء في
لبنان ومن قبله في سورية، ولسان
حاله يقول:أنا الغريق فما خوفي
من البلل؟
*كاتب سوري
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|