لقاء
لا أنساه .. في أقبية السجون
(1-2-3-4)
د.
هشام الشامي
صحوت من غيبوبتي ، و
كنت ما أزال و يدايّ خلف ظهري
مكتوفتان ، و العصابة السوداء
الكئيبة فوق عينيّ ، و قد أمسك
عنصران من ذئاب التحقيق
المفجوعة بقدميّ و هما يسحباني
على الأرض خارج غرفة التحقيق ، و
رأسي الثقيل المتدلي يحتك بأرض
الغرفة المبللة بالماء و الدماء
، لاشك أنها دمائي تلك التي ملأت
أرض الغرفة بعد حفلة التعذيب
الشديدة ، لا أدري كم مضى من
الوقت منذ استدعاني العنصر
المتوحش أبو كنان من زنزانتي ، و
قام بوضع يديّ خلف ظهري ، و شد
وثاقها بالأغلال الضيقة التي
جعلتني لم أعد أحس بكفيّ اللتين
انحبست الدماء فيهما و تورمتا ،
و وضع عصابة سوداء عريضة فوق
عينيّ و عقدها خلف رأسي بلؤم ، و
أخذ يجرني في الممر الضيق بين
الزنازين ، ثم أقفل باب السجن
الحديدي ، و بدأنا نصعد السلم ،
صعدنا حوالي عشرين درجة ، ربما ،
فأنا لا أدري بالتحديد كم صعدنا
، و لا ألقي بالاً لكلمات أبي
كنان البذيئة التي كان يتلفظ
بها طوال طريقي إلى غرفة
التحقيق ، لقد كان جلّ تفكيري
يتركّز بما سيحل بي داخل الغرفة
، تلك الوجبة شبه اليومية ، و
ربما كانوا كراماً بعض الأحايين
و أخضعوني لوجبتين أو ثلاث من
وجبات التحقيق في اليوم الواحد
، كنت أراجع خلال مسيري تلك
الجلسات السابقة ، و أتسأل في
نفسي : متى سينتهي هذا التحقيق
اللعين ؟ ؛ هل سيستعملون صعقات
الكهرباء معي هذه المرة أيضاً ؟
؛ هل سيكتفون بالدولاب أم
سيضعونني على بساط الريح ؟ ؛ يا
رب أرجوك و أتوسل إليك ألا
يستعملوا الكرسي الألماني فإني
لم أعد أقوى على الوقوف و أحس أن
فقرات ظهري السفلية قد تهشمت ؛
هل سيخلعون عني ملابسي الممزقة
؟ ؛ هل سيسكبون الماء الحار و
البارد بالتناوب على جسدي
العاري ؟ ؛ هل سيضربونني
بالكرباج المطاطي الغليظ أم
بالسلك الحديدي المفتول أم
بأعواد الخيزران المنفوخة
الرأس و المزودة بالدبابيس و
المسامير الحديدية ؟ ؛ ماذا
سيطلبون مني بعد ؟ ؛ أكثر من
شهرين و أنا على هذه الحال ؛ ألم
ييأسوا مني ؟ ؛ لقد قلت لهم كل
شيء عني ، لقد ذكرت لهم حتى عدد
رضعات الحليب التي رضعتها من
أمي ؛ يريدونني أن أعترف بأنني
منظم ، و أنني من الأخوان
المسلمين ؛ و لكنني لا أعرف
شيئاً عن الأخوان و لا عن
التنظيم ؛ إلا ما أسمعه من وسائل
الإعلام الرسمية التي تشتمهم و
تسفهم ليل نهار ، أو من بعض
الأهل و الجيران ، عن فلان
الأستاذ الجامعي الذي أعتقل
لأنه من الأخوان ، و فلان
المحامي الذي حوصر بيته و قتل
أمام زوجته و أولاده لأنه من
الأخوان ، و فلان الطبيب الذي
أغلق عيادته و هرب متخفّياً
لأنه من الأخوان ، و فلان
المهندس الذي سافر لكندا لأنه
خشي من الاعتقال ، و فلان و فلان
و فلان ، أكثر من ذلك لا أعرف
عنهم ، هل أعترف على نفسي بشيء
لم أفعله ؟، و ماذا سيحل بي إذا
ما اعترفت ؟، هل سيصدقونني ؟
طبعاً سيسألونني عن زملائي في
التنظيم ، و ماذا سأقول لهم حين
يسألونني هذا السؤال ؟ ، و لكن
إلى متى سأبقى أتحمّل هذا
التعذيب الوحشي ؟ و متى سينتهي
هذا المسلسل الإجرامي الطويل ؟
، أكثر من شهرين و أنا في هذه
الزنزانة الضيقة ، أنام و أنا
جالس لأن طولها لا يتجاوز المتر
إلا قليلاً ، أضع قدمايّ فوق
فوهة المرحاض في طرف الزنزانة ،
و أسند ظهري إلى الجدار
الإسمنتي البارد و الذي يتصبب
رطوبة و عفناً ، لا ضوء إلا ما
يصلني عبر الفتحة الصغيرة
المسدودة بقضبان الحديد في سقف
زنزانتي من ذلك المصباح البعيد
ذي الضوء الأصفر الكئيب و
المعلق في سقف الممر الطويل ، لا
أعرف الليل من النهار إلا من
حملات التعذيب التي تشتد و
تتكثف ليلاً بعد أن ينام البشر ؛
و من وجبات الطعام الهزيلة التي
يوزعونها علينا في النهار ، و لا
خبر إلا ما أسمعه من كلام بذيء
يوجهه سجاني السوء لأولئك
المساكين المعزولين في
زنازينهم ، و لا خروج إلا إلى
غرف التحقيق المشؤومة ، ماذا حل
بأمي و أبي بعد اعتقالي يا ترى ؟
، هل سمعوا باعتقالي أصلاً ؟ ،
هل يعرفون في أي فرع من فروع
المخابرات الكثيرة أقبع الآن ؟
، أعانك الله يا أمي فأنت لمّا
يلتئم جرحك بأخي الشهيد بعد ،
أعانك الله يا أبي فقد كنت تأمل
أن أدرس الطب أو الهندسة ؛ و لا
ترضى عنهما بديلاً ، هل الله
يعاقبني هذا العقاب القاسي
لأنني لم أخبركما ما عزمت على
دراسته دون رضاكما ؟ ، و لكنكما
لن تقبلا بهذا الاختصاص أبداً ،
و لن توافقا أن أنفذ هذه الرغبة
التي كانت تشدّني إليها دائماً
، كنتما لا تسمحان لي بمجرد
مناقشة الأمر معكما ، سامحاني
يا والديّ الحبيبين ، سامحاني و
لا تحرماني من دعائكما ، فأنا
بأمس الحاجة له في هذا القبر
المظلم المحكم ، و أنا لم أعص
لكما أمراً من قبل طوال حياتي ،
و كم كنت أتمنى أن أحقق رغبتكما
، لكن هناك قوة عظيمة تمنعني من
ذلك ، هناك أمر يعشعش في داخلي و
يملأ فكري منذ نعومة أظافري ،
هناك وصية أخي الشهيد أحمد التي
لم تغب عن خاطري لحظة واحدة ،
أشعر أنها أمانة و لا بد لي من
أدائها .....
و بينما أنا مسترسل
في أفكاري و أحلام يقظتي ، دفعني
أبو كنان داخل غرفة التحقيق
بعنف و هو يقول بصوته المخيف : -
جبتو سيدي .
و ما إن وطئت قدماي
أرض الغرفة حتى انهالت علي
اللكمات و الضربات من كل اتجاه ،
و صوبت نحو كل منطقة من جسدي
دفعات سريعة و متتالية و عنيفة
من الرفسات و الصفعات و القبضات
، و صاح كبير مجرميهم : - ما بدك
تعترف بقى يا عرص ، عامل حالك
فهمان ، و الله لكسر عضامك تكسير
، حطوه بالدولاب .
و بلمح البصر ،
سحبني عنصران و طرحاني أرضاً و
قوسا ظهري و أدخلاه مع رأسي في
دولاب سيارة مطاطي ( عجل ) ،
بينما سحب عنصر ثالث قدمايّ و
وضعهما داخل الدولاب ، و بدأت
سمفونية الكرابيج تعزف بانتظام
على أخمصي قدميّ المتورمتين
أصلاً من حفلات التعذيب السابقة
، و اللتين ما تزالان تنزفان
دماً ، و تنزان صديداً و قيحاً
منذ الحفلة الأولى قبل أكثر من
شهرين و حتى الآن ، فبعد الحفلة
الأولى انتفخت بطنا قدمي و
تورمتا ، و ظهرت فقاعات ضخمة
ممتلئة بالماء و الدماء تحت
جلديهما ، و ازرقت قدماي و ساقيّ
حتى أسفل الركبة ، ثم انفتحت تلك
الفقاعات و بدأت تنز دماً و
قيحاً و صديداً ، و شيئاً فشيئاً
انحفرت فيهما حفرتان بحجم
البيضة ، و أصبحت أسير عندما
أسير ( إلى التحقيق حتماً ) على
طرفي قدميّ الخارجيتين ، و كأني
كسيح مقوس الساقين .
لا أدري كم استمرت
تلك المعزوفة الصاخبة ، ربما
ربع ساعة ، كنت أسمع سبابهم
القبيح و شتائمهم المتكررة ، و
كانوا يمررون أحياناً بعض الجمل
المقصودة ، من مثل : - بدك تعترف
غصب عنك يا منيـ.. ، لسا بتكبر
راس ، ولاك ما بتشبع قتل ولا ، و
الله لنيـ.. أمك ، شو مفكر حالك
ولاه ، نعمى بعيونك نعمى ،
الأكبر منك اعترفوا ، مين نظمك
ولا؟ ....
كنت أصرخ بقوة من
شدة الألم ، و استنجد و أقول :
- مشان الله ، مشان
محمد ، ارحموني ، و الله ما بعرف
شيء ، و الله كلشي بعرفوا قلتوا
، ما عدت اتحمل ، رح موت دخيلكون
...
كانوا يشتمون الله
بجرأة غريبة ، و يسبون محمداً
بحقد عجيب ، و يشتمون عرضي و
ديني و شرفي بلا رحمة و لا شفقة ..
ثم صرخ كبيرهم : -
حطوه عالكرسي ، خليه ينشل بقى
،بدي نيـ.. أمّوا ...
و بلمح البصر
رفعوني من الدولاب الذي كان
صدري يعانق ركبتاي داخله ، و
بطحوني على بطني فوق سطح خشبي
طويل ، ثم بدؤوا يعطفون ظهري إلى
الخلف ويقوسون بطني، حتى كاد
ظهري ينطبق على إليتيّ ، و شعرت
أن فقراتي القطنية قد انحشرت
ببعضها ، و بدؤوا يضربونني
بالكبلات المعدنية و الكرابيج
المطاطية على كل ناحية من جسدي ،
و كلما فقدت وعيي من شدة الألم و
التعذيب كانوا يصبون المياه فوق
رأسي و جسدي و يتابعون وجبتهم
الدسمة بشره و نهم ، ثم وضعوا
سلكين في أذناي ، و بدؤوا
يصعقونني بالكهرباء ، فكلما سرت
صعقة ، اصطكت أسناني ببعضهما ، و
تقلصت عضلات وجهي في كل اتجاه ،
و عضضت على لساني ، و شعرت أنني
قطعته بأسناني ، و بدأت الدماء
تسيل مع لعاني .
كانوا لا يكفون عن
تعذيبي ، حتى أقول لهم : - خلص ؛
خلص ؛ و الله لأحكي ؛ اتركوني ..
فيقول كبيرهم : -
اتركوه لشوف ؛ حكي و لا .
فأقول : - و الله ما
بعرف شي ، كلشي بعرفوا قلتوا ..
فيتابعون عملهم من
جديد و بشكل أشد مما سبق .
و بعد زمن لا أستطيع
تحديده ، لكنه طويل جداً جداً ،
استيقظت من غيبوبتي و هم
يسحبونني من قدميّ خارج الغرفة
، و سمعت كبيرهم يقول : - خدوا
هالمنيـ.. لعند الكلب المتوحش .
ثم رموني خارج
الغرفة مكبوباً على الأرض
لدقائق ، و أنا أتساءل خائفاً : -
هل بدأ نوع جديد من التعذيب ؟ ،
هل سيعذبونني بالكلاب الجارحة ؟
، هل سيرمونني بينهم ؟ ، يالله
لم أعد أتحمل ، يا رب ارحمني من
هؤلاء المجرمين ، خلصني منهم ،
يا رب لم يعد بي طاقة على العذاب
..
ثم جاءني أبو كنان
ثانية ، و سحبني من يدي بقرف و هو
يقول : - اتحرك ولا ، أحسن ما جرك
عالدرج جر ، ما بدك تعترف يا منـ...
و تحاملت على نفسي ،
و بدأت أحاول السير على أطراف
قدميّ المتورمتين ، و كلما
تعثرت ، شتمني أبو كنان و سحبني
من جديد ، حتى وصل بي إلى باب
زنزانتي ، ففك وثاق يديّ ، و رفع
العصابة عن عينيّ ، و دفعني داخل
زنزانتي و هو يشتمني ، ثم أغلق
الباب بشدة ، و سحب المزلاج ، و
وضع القفل الغليظ ، ثم انصرف
ينهق كالحمار و هو يغني .
جلست أفكر بيني و
بين نفسي ، لماذا أرجعوني إلى
زنزانتي ؟ ، لماذا لم يأخذوني
إلى الكلب المتوحش كما أمرهم
كبيرهم ؟ ، لا بد أنهم سيعودون و
يأخذونني إلى هناك ؟ ، ما هو شكل
ذلك الكلب ؟ ، لا بد أنه أسود ضخم
، لا بد أنه يلهث جوعاً و عطشاً ،
كيف سيهجم علي و كيف سأتعامل معه
؟ هل سأستطيع أن أقاومه و أنا
محطم هكذا ؟، يا رب ماذا سأفعل ؟
يا رب ارحمني ، لقد أنساني هذا
التفكير آلام جسدي الشديدة و
التي كنت أعاني منها في تلك
اللحظات ، كنت أغسل قدماي من
الدماء بقليل من الماء فوق فوهة
المرحاض ، و أمسح وجهي بالماء و
أجففه بطرف قميصي ، أنه قميصي و
بنطالي الذي دخلت بهما إلى
السجن قبل شهرين ، لقد تجمدت
الدماء و اختلطت بالعرق و
الأوساخ فوق ملابسي ، و أصبحت
رائحتها نتنة عفنة ، كنت عادة ما
أغسلها بالماء بعد عودتي من
جلسات التعذيب و أنشرها على باب
الزنزانة الحديدي ، و أجلس
بملابسي الداخلية أرتجف برداً
حتى تجف ، و لكنني اليوم لا أجرأ
على غسلها ، لأنني أخاف أن
يعودوا ، لا بد أنهم سيعودون و
ينفذون أمر سيدهم اللئيم ، لا بد
أنهم سيأخذونني إلى الكلب
المتوحش الجائع ليتابع نهش ما
بقي من جسدي المتورم ...
و بينما أنا استجمع
قوتي و أراجع أفكاري المتشتتة ،
سمعت قدما أبي كنان اللئيم تطرق
الأرض و تكسر صمت ليل السجن
الرهيب ، لقد حفظت صوت مشيته و
عطاسه و تنحيحته ، و أصبحت
أميّزها عن مشية سجانيّ الآخرين
، أنه يمشي و يدب على الأرض دباً
كبغل ثقيل ، أنه قادم نحوي الآن
، نعم ، لقد اقترب من زنزانتي ،
ها هو يضع المفتاح في قفل
زنزانتي ، و يفتح الباب ،
سيأخذني إلى الكلب المتوحش
حتماً ، يا الله أعني .....
فتح السجان أبو
كنان باب زنزانتي و صاح بي : -
طلاع ولا .
يا الله ، إلى أين
سيأخذني هذا اللئيم فوجهه لا
يأتي إلا بالسوء و الشر؟ ، صحيح
أنني كنت أتوجس خيفة كلما
أخرجوني من الزنزانة ، فأنا لا
أخرج منها إلا إلى التحقيق ،
لكنني هذه المرة ترتعد مفاصلي و
أشعر بخوف لم أشعر بمثله من قبل
، و أحب أن أموت داخل زنزانتي
على أن أخرج منها ، لا أريد أن
أرى ذلك الكلب المتوحش الذي
أمرهم سيدهم المتعجرف أن
يأخذوني إليه ، لم يعد بي قوة
على تحمل أي عذاب جديد ، لقد
خارت عزيمتي ، و ضج صبري ، و
انهارت صحتي ، يا الله كن معي ،
يا الله ارحمني و خلصني من هؤلاء
المجرمين الظالمين الذين ماتت
قلوبهم ، و انتحرت إنسانيتهم ، و
ظهرت ساديتهم ...
و بينما أنا أتثاقل
لا أريد أن أتحرك من مجلسي ، صاح
أبو كنان بعصبية لا تفارق طبعه :
- بتقوم ولا جيب
الكبل ولا .
- إلى أين ستأخذني ؟.
قلت له بصوتي المرتجف .
- إلى بيت أمك .
أجابني ساخراً .
استندت إلى الحائط
و أنا أحاول الوقوف ، فقدماي
المتورمتان و المتشققتان
تؤلماني بشدة ، و أسفل ظهري يلمع
و يبرق و يرعد ، و هناك المجهول
الذي ينتظرني و يشدني إلى مكاني
و يمنعني من الوقوف ، قمت بصعوبة
بالغة كما يقوم الجمل الكسيح من
مرقده ، و أبو كنان يصرخ بي
قائلاً :
- قوم قوم حاجة دلال
يا منيـ...
وقفت على طرفي
قدميّ الخارجيين و أنا محني
الظهر ، و خرجت متثاقلاً كعجوز
مريض أكل عليه الدهر و شرب ،
فصاح أبو كنان من جديد :
- جيب غراضك ولاك .
- ما معي غير صباطي (
حذائي ) و ما عاد يدخل بإجري (
قدميّ ) .
- شيلوا عراسك يا
حمار .
ما أصعب أن أحني
ظهري لأحمله ، لكنني فعلت
مكرهاً و وضعته تحت إبطي و سرت
خلف سجاني اللئيم كما تتهادى
البطة السمينة ، و هو يصرخ بي :
- اطلّع قدامك ولا ،
لا تتلفت يمين و شمال بنيـ ... أمك
ها .
قطعنا الممر الضيق
بين الزنازين حيث كانت زنزانتي
في طرفها البعيد ، ثم دخلنا
ممراً أخر يفصل بين زنازين
جديدة في الجهة المقابلة أعرفها
من أبوابها الحديدية الصدئة
المتجاورة و المتقابلة ، و
رائحتها الكريهة ، و كأنني في
حمامات مدرستي الابتدائية
القديمة التي بناها العثمانيون
و هدها التحديث و التنظيم الذي
غير كل شيء بعاصمة الأمويين .
و في آخر الممر دفع
أبو كنان باب أحدى الزنازين
الغير مغلقة بقدمه و هو يصرخ :
- ادخول يا عرص ،
انشالله بسمع صوتك .
نظرت داخل الزنزانة
و كأنني أتفحص ما بداخلها قبل أن
ألجها ، هل فيها ذلك الكلب
المتوحش ؟ ، الحمد لله وجدتها
فارغة ، ليس فيها مخلوق ، فتجرأت
و استندت على طرف باب الزنزانة
لأرفع قدمي و أصعد تلك الدرجة
الموجودة على باب الزنزانة ،
فدفعني أبو كنان بعنف و رماني
على أرض الزنزانة ، و لأن قدميّ
بقيتا خارج الزنزانة ، قام
بركلهما بقدمه بعنف كما يرفس
كرة قدم ، فصرخت صرخة شديدة من
ألم صاعق لا يحتمل ، ثم أغلق
الباب بقوة ، و غادر و هو يشتمني
و ينهق كالحمار .
كانت الزنزانة
الجديدة أكبر قليلاً من سابقتها
التي قضيت فيها ما يزيد عن شهرين
، فطولها يقارب المترين و عرضها
يزيد عن المتر قليلاً ، و كانت
نظيفة بعض الشيء ، فيها فرش و
بطانيات ، و فيها بعض الملابس
المعلقة على مسمار دق في الحائط
، و كأنها مسكونة من نزيل و لكنه
غير موجود ، و في زاوية الزنزانة
الداخلية كانت هناك علبة لحفظ
الطعام و بجوارها كيس فيه بعض
الفاكهة ، و لأنني أتضوّر جوعاً
، و فقدت حوالي ربع وزني خلال
الشهرين الماضيين ، فتحت العلبة
لأنظر ما بداخلها ، يا الله ،
ماذا أرى ؟ ، إنها رقائق الأوزي
التي تفوح منها رائحة السمن
العربي و المحشوّة بالرز و
اللحم و البازلاء و المكسرات ،
يا الله ، بعد شهرين لم أتناول
فيهما سوى الرز و مرق البندورة
يوماً ، و في اليوم الذي يليه
البرغل و المرق الذي يكون
فارغاً عادة إلا من بعض قطع
البطاطا أو الكوسا أو الباذنجان
أحياناً ، أما الرز المنقوع
بالماء و الخالي من السمن و
الشحوم الثلاثية و الكولسترول (
حفاظاً على الصحة طبعاً !! ) و
الغير مطهو جيداً فكان يتكسر
تحت أسناننا وكأننا نأكل زجاجاً
، مما جعلني أفضل ( و على غير
عادتي خارج السجن حيث العز للرز
) البرغل عليه ، فهو مقبول الطعم
سواء طهي جيداً أم لا ( مخبوص أم
مدردر ) رغم أنني أظن أن الكلاب (
أعزكم الله ) لا تأكله خارج
السجن لو رأته بهذه الحالة
المزرية التي يقدمونه لنا و
فلفله الحصى و الأوساخ و
الحشرات المنزلية فقط ( لكن
الجوع كافر ) ، بعد شهرين من
الجوع و الحرمان أجد أول ما أجد
أمامي تلك الوجبة التي أفضلها و
أعشقها ، و التي كانت أمي – آه
أين أنت يا أمي الآن ؟ - تسألني
بابتسامتها المحببة المعهودة
عندما أعود من مدرستي جائعاً -
كلما حضّرتها - هل تدري ماذا
طبخت لك اليوم ؟ . فأعرف من
ابتسامتها و طريقة سؤالها ؛ إنه
الأوزي الوجبة التي أحب ؛ فأقول
لها : لقد عرفت يا أمي ، لقد عرفت
، الله لا يحرمني منك و من
أكلاتك اللذيذة ، هاتي أربع خمس
رقائق يسدوا جوعنا . و نضحك
سوياً و نحن نتجه إلى المطبخ
لنجلس إلى طاولة الطعام .
و لكن ؛ كيف عرفوا
أنني أعشق الأوزي ؟ ، و من أحضر
هذه الوجبة الدسمة لي ؟ ، و رغم
جوعي المزمن الشديد ، أصحو من
حلمي الجميل ، و أتذكر أن
الزنزانة فيها حاجات أخرى غير
الطعام ، و فيها أغراض شخصية
ربما لنزيل آخر خرج للتحقيق أو
أمر آخر و سوف يعود ، فأغلق
حافظة الطعام مكرهاً ، و أبلع
ريقي الذي كان يتدفق كنبع بردى
قبل أن يجففه طغيان الظلم و
الفساد ، و أضع يدي على معدتي
التي كانت تفرك من شدة الجوع ، و
كأني أقول لها : صبراً يا معدتي
العزيزة ، صبراً و رفقاً بي ، لا
تقرقعي و لا تتصارعي ، فغداً سوف
يكون موعدنا مع البرغل و المرق
اللذيذين .
و يقبل أبو كنان
ثانية ، و يفتح باب زنزانتي ، و
يدخل علي رجل وسيم مربوع القامة
لا توجد عليه أثار تعذيب واضحة و
يلبس ثوباً رمادياً ( كلابية )
نظيفاً ، و ما إن يغلق أبو كنان
باب الزنزانة خلفه ، حتى يقول لي
:
- السلام عليكم ،
كيفك ، الله أكبر شو هادا ؟ .
قالها و هو يشير لقدمي
المتورمتين .
- الحمد لله ، ما في
شي ، طبيعي. أجبته متوجساً .
- هادا كلو أتل (
تعذيب ) ، مو معقول ، كيف عما
تتحمل ؟. قال و هو يجلس بجانبي و
يسند ظهره إلى حائط الزنزانة .
- و الله ما عدت
اتحمل ، بس شو بدي ساوي .
- ليش عما يأتلوك
هالأتل ، شو بدن منك ؟، لا تخاف
أنا سجين متلك .
- بس ما مبين عليك
أنك سجين متلي ، يعني عدم
المؤاخزة ، زنزانة نضيفة ، و
تياب نضيفة ، و أكل بيتوتي ، و ما
في أسار تعزيب .
- أنا صرلي أكثر من
ست شهور محبوس ، أكلت أتل أكثر
منك بكتير . قال لي ، و هو يكشف لي
و يريني ندب التعذيب الواضحة
على مرفقيه و ركبتيه و تابع : لما
ما عدت اتحمل ، و لقيت ما في مجال
لازم اعترف متل ما بدون ، اعترفت
و خلصت من التعزيب ، و حطوني
بهالزنزانة ، و صاروا يجيبولي
زيارات ، و اليوم كانت مرتي و
ابني و بنتي بالزيارة ، حتى
جابولي أوزي و شوية فواكه . و فتح
محفظة الطعام ليريني الأوزي
الحبيب و تابع : أكيد أنت جوعان ،
تفضل كول ، هدول إلك ، ترى أنا
تغديت و تعشيت أوزي ، تفضل و
الله لتاكل .
- لاء ، شكراً ، ما
ني جوعان . أجبته و أنا أتحسر على
قطعة واحدة من رقائق الأوزي
تسكت قرقرات بطني الفارغة .
- كيف مانك جوعان ؟ ؛
شو ما بعرف شو جابوا غدا و عشا
اليوم ، أنا ما أخدت شي ؛ قلتلن
ما بدي ؛ عطون لغيري ؛ أنا عندي
أكل ؛ كول يا ابني كول ؛ هدول إلك
. قالها و هو يناولني قطعة من
الأوزي .
أخذتها من يده ، و
قضمت جزءاً من طرفها ، و ظهر
الرز الأبيض و الصنوبر و اللحم و
البازلاء في داخلها ، و رحت
أتذوقها بتلذذ ، لكنني وجدت
صعوبة في بلع أول لقمة ، ربما
لأنني خائف و متوتر ، و ربما
لأنني نسيت كيف يؤكل مثل هذا
الطعام اللذيذ ، و شعر مضيفي
بغصتي ، فأخذ كأساً و ملأه ماء
ثم ناولني إياه و هو يقول :
- اشرب و كول على
مهلك ، ترى بدك تاكل هدول كلن ،
هدول نصيبك ، كول و أنا رح نضفلك
إجريك و أعملك مساج و ضمدلك
جراحك ، خاف يصير فيهن غرغرينا ،
أنا شفت واحد سجين صار باجريه
غرغرينا و اتأخروا ما أسعفوه ، و
كان يصيح و ما ينام الليل من
الألم ، و بعدين أخدوه
عالمستشفى و قطعولوا اجروا و
رجعوه بعد أسبوع و بعدين مات لأن
الغرغرينا مشيت بدمه .
و جلست أتناول
طعامي اللذيذ و صاحبي يقص علي من
مآسي السجن الرهيبة ، و أغصّ
فأدفع لقمتي بالماء ، كمن يأكل
طعاماً لذيذاً في مقبرة موحشة
....
كنت و كلما انتهيت
من تناول إحدى رقائق الأوزي
اللذيذة ، ناولني صاحبي أخرى ؛ و
هو يتابع سرد المزيد من قصص
السجن المأساوية ، مما عاناه و
عاينه و سمعه خلال الأشهر
الماضية في هذا القبو المظلم
الرهيب ، و كانت كل قصصه
المأساوية تنتهي باعتراف
السجين المسكين - كما يريد
المحققون - بأنه منظم ، و كأنه
كان يريد أن يقول لي : لا فائدة
من الإنكار ، و لا بد من
الاعتراف في نهاية الأمر بما
يطلبه المحققون ، فوفّر عنك
معاناتك في جلسات التعذيب و
اعترف بما يطلبون منك . و لم
ينتهِ سرد القصص حتى أتيت على
كامل رقائق الأوزي اللذيذة و
الموجودة في حافظة الطعام ،
فقال لي صاحبي :
- صحة ، ألف صحة إن
شاء الله .
- دايمه إن شاء الله
. أجبته ؛ ثم تداركت نفسي و قلت و
أنا أبتسم : بس خارج السجن طبعاً
.
- آآآه ، إن شاء الله
. قالها و هو يزفر زفرة حارة
طويلة .
- بس أنا شو بدي
اعترف ؛ ما ني عرفان .
- ليش شو قصتك .
- قصتي آه على قصتي !
؛ أنا طالب حصلت عالثانوية
هالسنة ، و رحت – و بِدون ما
خبّر أهلي يلي كانوا رافضين
فكرة التطوع بالجيش بالمرّة و
بَدون مني سجل بكلية الطب أو
الهندسة حصراً ، و خصوصاً أنني
وحيدهم بعد استشهاد أخي ؛ و
صغيرهم المدلل الذي جاءهم على
كبر- أنا و ستة من زملائي
بالمدرسة لإجراء الفحص المطلوب
للتطوع في الكلية الجوية بنادي
الضباط بدنا نصير طيارين و
ندافع عن الوطن مثل ما كنا عما
نخطط و اتفقنا على هالشي خلال
السنة الدراسية ، و خضعنا لكل
الفحوص الطبية المطلوبة و بقي
منا ثلاثة اجتازوا كل الفحوص
بنجاح ؛ أنا واحد منن ، اجتزنا
على مدى يومين كل الفحوص
الباطنية و العينية و الأذنية و
الشعاعية و المخبرية و القلبية
و الجلدية ، و ما بقي علينا إلا
الفحص الثقافي ، و بالفعل دخلت
على مساعد أول ؛ ضخم الجثة ؛
قبيح المنظر ؛ له شارب طويل ، و
كرش مقذع ، و يلبس ثيابه
العسكرية ؛ و يضع على صدره شعار
فنيين الدفاع الجوي ؛ لإجراء
فحص الثقافة القومية ، فسألني
عن اسمي الكامل ، ثم سألني : منين
هنت ( أنت ) . قلتلو : من المهاجرين
( و هو يعلم أن الفحص في هذا
اليوم لأبناء مدينة دمشق حصراً )
، قلي : بعرف ، هنت كاتب عنوانك
في طلب الالتحاق قدامي ، بدي
منين أصل العيلة . قلتلوا : من
الميدان . قلي : شو بقربك الطيار
الشهيد أحمد يلي استشهد بحرب
تشرين . قلتلوا : أخي . قلي : ما
بكفّي قدمتوا شهيد للوطن ، روح
علاماتك كويسة ، ادخول أي فرع
تاني أحسنلك . قلتلوا بحماس و
اندفاع صادق : بدي أخود بتار أخي
؛ أنا وعدتوا و أنا طفل أنوا أخد
بتاروا من اليهود ؛ كان يقلي
الله يرحموا بوكره اليهود بدون
يقتلوني مين بدوا ياخود بتاري
فأجيبه أنا. فقلي باستخفاف و
استهزاء : و الله وطني و الله ؛
روح انقلع ، إنت بتدوخ إذا طلعت
بالطيارة ، معك فقر دم . قلتلوا :
كيف ؟ ، أنا رياضي و صحتي جيدة و
بحياتي ما دخت ، و تحاليلي
ممتازة ، و نجحت بالفحص الطبي
كلوا . قلي : شو بعرفك هنت ؛ أنا
عم قلك ما بتنفع ؛ لا تعاند ؛ روح
قباض فلوسك عن هاليومين إلي
قضيتن معنا من المحاسب و انقلع .
قلتلوا : حرام عليك تحرمني من
حلمي و حلم أخي الشهيد من قبلي ؛
حرام عليك بدي دافع عن وطني ؛
بدي آخد بتار أخي . قلي : شو هنت
ما نتفهم ؛ لا تضيع وقتي ؛ عندي
غيرك ؛ انقلع برّا أحسن ما جبلك
الشرطة العسكرية . قلتلوا : ما في
قوة بالدنيه بتمنعني أنوا حقق
حلمي و إني أوفي بوعدي لأخي ؛
إنت ما بتخاف الله . فرفع سماعة
الهاتف و تكلم بغضب قائلاً :
بعتلي دورية الشرطة فوراً . ثم
جاء عنصران من الشرطة العسكرية
مدججان بالسلاح . فقال لهم
المساعد : خدوا هالعرص عما يسب
الرئيس قدامي ؛ قال نحن ما بدنا
ناخدوا لأنوا مو علوي ؛ بدون
يدخلوا الجيش مشان يعلموا
انقلاب و يستلموا البلد . فقلت
خائفاً مستغرباً من هذا الكلام :
و الله ما سبيت حدا ؛ و الله كذاب
بدوا يبليني بلوه . فأمسك
العنصران بي و أخذاني إلى غرفة
صغيرة داخل النادي ، و حبساني
فيها وحيداً ، و أغلقا الباب علي
. و بقيت في الغرفة أكثر من أربع
ساعات دون أن يكلمني أحد ، ثم
جاءت دورية المخابرات و أخذتني
إلى هذا الفرع في نفس الليلة .
كان صاحبي يصغي إلي
باهتمام و إنعام و إمعان ، و لا
يحب أن يقاطعني ، و ما إن توقفت
قليلاً عن الكلام لأستجمع قوتي
المنهارة ؛ و لأملأ صدري من هواء
الزنزانة المخنوقة المنقوصة
الأكسجين ؛ حتى قال لي :
- ليش شو اسمك ؟ .
- هشام .. هشام
الشامي .
- أخوك الشهيد
الملازم أول الطيار أحمد الشامي
موهيك ؟.
- نعم ، أخي الأكبر و
أخي الوحيد و بيننا ثلاث بنات و
أنا الصغير بينهم ، هو حبيبي ، و
أستاذي و أمثولتي و قدوتي ، لا
أنساه و لا يغيب عن بالي لحظة
واحدة ؛ كان يلاعبني و يرفعني
على أكتافه و أنا صغير و يقول لي
: أنا بوكره بستشهد ؛ و بقتلوني
اليهود ؛ بس ما ني زعلان ؛ لأنو
في إلي أخ بطل ؛ بوكره بياخد
بتاري ، مو هيك يا أبو الوليد ؛
كان يلقبني أبو الوليد من صغري
تيمناً بخالد بن الوليد ؛ و كان
لا يفكر إلا في وطنه و الدفاع
عنه ؛ و كان يرفض الزواج رفضاً
تاماً ؛ و عندما كانت أمي تلح
عليه و تقول له : حاجتك بقه ؛ بدي
أفرح فيك ؛ شو ناقصك ؛ بدي
أخطبلك غصب عنك ؛ روح كمّل نص
دينك . كان رحمه الله يهدئها و
يقول لها : يا أمي ؛ يا حبيبتي ؛
أنا طيار ؛ و روحي على كفي ؛ ما
بعرف إيمتى بموت ؛ ليش لأظلم
بنات الناس ؛ و أتركها مع
أطفالها الأيتام تعاني من بعدي
، ثم يستدرك و يلطف الجو بمزحة
لطيفة كعادته : بعدين وين بدي
لاقي متلك ؛ أنا ما بتجوز إلا
وحده متلك ؛ إذا في وحده متلك
بالضبط قليلي عنا و بتجوزه على
طول . فتقول له : حاجة دهلزه حاجه
؛ إنت واحد مزعبر . كنت أقص و
أشرح لصديقي بإسهاب و تفصيل ؛ عن
أهلي الذين أحبهم أكثر من روحي ؛
و كأنني بعد هذا السجن
الانفرادي الطويل أكبت داخلي
كلاماً كثيراً أريد أن أبوح به
لشخص يحب أن يسمعني ؛ و أريد أن
أهرب من هذا الجو الكئيب الرهيب
إلى ذكرياتي التي لم و لن تغيب
لحظة عن خاطري ؛ هذا الاندماج
العاطفي بيني و بين ما أقص جعلني
أنسى دموع صاحبي التي كانت قد
بدأت تعبر من عينيه مع بداية
حديثي له ، و لم أقطع حديثي حتى
أنفجر صاحبي يجهش بالبكاء و
كأنه طفل صغير . لقد شعرت عندما
ذكر لي اسم أخي و رتبته و عمله و
كأنه قد سمع به أو حتى يعرفه من
قبل لأن عمره يبدو قريباً من عمر
أخي المرحوم ؛ لكنني لم أستغرب
من ذلك ؛ فقد كانت جنازته مهيبة
، سمعت بها دمشق كلها ، و كأن
عاصمة الأمويين قد خرجت عن بكرة
أبيها تودعه بشيبها و شبابها
إلى مثواه الأخير ؛ كانوا
يسيرون بجنازته مرفوعاً على
أكتافهم في موكب عظيم كطوفان
هادر ، و كان هتافهم و هم و
يرددون ( لا إله إلا الله * و
الشهيد حبيب الله ) تهتز من صداه
أبنية المدينة الشاهقة ؛ و يمخر
عباب السماء الحزينة و المتلبدة
بالغيوم الكثيفة . لكنني حقاً
اندهشت و تفاجأت من بكاء صاحب
زنزانتي الكريم ؛ الذي انفجر
البكاء كالبركان من صدره ....
لقد كان صاحبي يجهش
بالبكاء بصوت عالٍ ؛ حتى خشيت أن
يسمعنا أحد السجانين الحاقدين ؛
و خصوصاً أن زنزانتنا قريبة
جداً من باب السجن ؛ عكس زنزانتي
السابقة المعزولة ؛ و لقد كان
بكاؤه غريباً بعض الشيء ؛ و أثار
في داخلي تساؤلات عديدة ، فقد
أحسست به عندما دخل علي بأنه رجل
ذو شخصية جادة قوية خبرت و عجنت
الحياة و علكتها ، و بدا لي بأنه
رجل حكيم خبير يحمل شخصية قوية
واثقة بالنفس ؛ و أحسست براحة من
لقاءه و كأني أعرفه من سنين ؛ و
قد كان كأخ كبير يخفف عني و
يواسيني و يساعدني و يضمد جراحي
، و ما إن سمع قصتي حتى انفجر
بالبكاء كطفل صغير ، و انقلب
السحر على الساحر ؛ و بدأت
أواسيه و أخفف عنه ؛ و أرجوه رغم
صغر سني بالنسبة له أن يخفض صوته
و يتماسك نفسه قبل أن يسمعنا أحد
السجانين ؛ فيفتح علينا باب
الزنزانة و يعكر صفو جلسة
التعارف و التصارح بيننا ، و
أخذت أغسل يدي بالماء و أمسح بها
وجهه ؛ و أعطيته منشفته ليمسح
بها وجهه . و ما إن هدأ قليلاً و
استمسك قوته ؛ حتى سألته :
- ما الذي أبكاك هذا
البكاء الشديد ؛ و كأن قصتي قد
قلّبت عليك المواجع ؛ و نكأت
جروحاً قديمة لديك ؟ .
- نعم يا أبا الوليد
؛ أحمد الله أنني اجتمعت معك قبل
تورطي و فوات الأوان .
- الحمد لله ؛ بماذا
كنت ستتورط ؟ .
- اسمع يا أبو وليد ؛
إن الله أرسلك لي لكي لا أنزلق
في متاهات لا يعلم حدودها إلا هو
؛ فبعد أشهر من حملات التعذيب
التي تعرضت لها في هذا الفرع
الرهيب ؛ و رغم يقينهم أن الشكوى
ضدي كيدية ؛ و أنني بريء من
التهم التي وجهت لي ، لكنهم
أرادوا أن يضغطوا علي و يجعلوني
أعمل لصالحهم ، و قالوا لي :
سنفتح لك الزيارات ؛ و سنسمح
لعائلتك أن تزورك كل أسبوع ؛ و
سنضعك بزنزانة نظيفة ؛ و إذا ما
ساعدتنا و أقنعت المساجين
بالاعتراف بما هو مطلوب منهم ؛
فسنفرج عنك و لن نرسلك إلى سجن
تدمر ؛ و ما أدراكما سجن تدمر ؟!
؛ و أعطاني المقدم رئيس فرع
التحقيق اسماً حركياً هو الكلب
المتوحش ؛ و بالفعل نقلوني إلى
هذه الزنزانة ؛ و زارتني والدتي
و زوجتي في الأسبوع الماضي ؛
وطلبتُ منهما أن أرى ولديّ سمر و
سمير ؛ و فعلاً رأيتهما لأول مرة
منذ أكثر من ستة أشهر ليلة أمس ؛
فقد جاءا مع والدتهما ؛ و جلسنا
نبكي جميعاً أكثر من نصف ساعة ؛
و بعد أن صرخ المساعد انتهت
الزيارة ؛ تمسكا بي و رفضا أن
يتركاني و هما يقولان : لا
تتركنا يا بابا ؛ نحن ما منحسن
نعيش من غيرك ؛ خليك معنا ؛ إمتى
بدك ترجعلنا ؟ . و بقيا متمسكيَن
بي حتى سحبني عنصرا المخابرات
من بينهما بالقوة.
- إذاً أنت الكلب
المتوحش الذي سمعت ضابط التحقيق
يقول لعناصره خذوه إليه بعد
حملة التعذيب الأخيرة ؛ لقد
ظننت فعلاً أنهم سيأخذونني إلى
كلب متوحش ؛ كم كنت أخشى هذا
اللقاء ؛ و لكن الله جمعني بك .
- نعم يا أبو وليد ؛
أرجوك و أتوسل إليك ؛ لا تعترف
بأنك منظم كما يطلبون ؛ لأن
اعترافك يعني الموت ؛ سيرسلونك
إلى سجن تدمر الصحراوي ؛ هناك
حيث الجحيم المقيم ؛ لقد قابلت
بعض العائدين من سجن تدمر
لاستكمال التحقيق ؛ لقد نقلوا
لي صورة لا تطاق عن ذلك السجن
الرهيب ؛ و يكفي أنهم كانوا
يدعون الله أن يبقوا هنا في هذا
القبو الرهيب أطول مدة ممكنة
قبل أن يعودوا إلى تدمر ؛ فقد
كانوا يقولون إنهم في إجازة
الآن ؛ رغم كل ما يعانونه من
تعذيب في التحقيق ؛ فتصور أنهم
يفضلون سجن المخابرات الجوية
سيء الصيت عن سجن تدمر المهلك .
- سبحان الله ؛ كنت
تطلب مني الاعتراف ؛ و الآن تطلب
مني عدم الاعتراف .
- نعم ؛ لقد طلبت منك
الاعتراف ؛ لأنني ضعفت أمام
ضغوط أبنائي و أسرتي ؛ و ظننت
أنهم سيساعدونني فعلاً ؛ و
سيفرجون عني في نهاية الأمر
لأعود لأبنائي و أهلي ؛ و كانوا
قد أقنعوني أنني بمساعدتهم إنما
أساعد السجناء ؛ لأنهم لا بد لهم
من الاعتراف أخيراً ؛ فأنت توفر
عنهم عناء جلسات التعذيب ؛ و
لكنك بقصتك أحييت عندي أموراً
كثيرة ؛ و أعدتني أكثر من خمسة
عشر سنة إلى الوراء ؛ إي إلى عام
1967م ؛ و بالتحديد بعد هزيمة
حزيران الكارثية .
- و ما دخل قصتي
بهزيمة حزيران ؛ فقد كنت رضيعاً
عند حدوثها .
- عندما كنت رضيعاً
يا أبو وليد ، كنا نحن نشتعل
شباباً و حماساً ؛ و قد أثّرت
بنا الهزيمة أشد الأثر ، و غيرت
مجرى حياتنا ؛ فبعد أن كنت أنوي
دراسة الهندسة الزراعية ؛ غيرت
وجهتي و ذهبت و تطوعت في الكلية
الجوية ؛ و لم أكن الوحيد الذي
تحمس للدفاع عن الوطن ؛ فقد
التقيت هناك بشباب متحمس أكثر
مني ؛ كحبيبي و صديقي أخيك
الشهيد أحمد ؛ هل عرفت لماذا
بكيت هذا البكاء الآن ؟ ؛ نعم
لقد ذكّرتني بتلك الأيام
الخوالي ؛ لقد أججت الهزيمة
فينا حب الوطن ؛ و أشعلت فينا
غريزة الثأر من أعداء الوطن ؛
لقد كنا نتسابق في طلعات
التدريب الجوية ؛ و كأننا نريد
أن نحرق المراحل و نستلم قيادة
الطائرة ؛ و نذهب لندمر الدولة
الصنيعة التي مرّغت وجوهنا
بالتراب ؛ كنا نحلم باليوم الذي
سنستلم فيه قيادة الطائرة و
يسمحون لنا أن نحلق فوق الجولان
الحبيب و فلسطين الغالية و نقصف
اليهود في عقر دارهم و نرد شيئاً
من كرامتنا الجريحة ؛ هكذا كنا
نفكر و نحلم ؛ حتى عندما كان
أخوك يمارس هوايته المحببة ؛ و
هي الرسم ؛ كان يرسم معارك جوية
؛ و طائرات سورية تحلق عالياً في
السماء ؛ و أخرى إسرائيلية
تتحطم و تهوي على الأرض ؛ و
انهينا دراستنا في سورية ؛ و
أرسلوا دفعة من أوائل دورتنا
إلى الإتحاد السوفيتي ؛ للتدرب
على طائرة السيخوي 21 ؛ و كنا
عشرين طياراً ؛ منهم أنا و أخوك
أحمد يرحمه الله ؛ و أمضينا فترة
تدريبنا هناك بنجاح ؛ و أعجب
المدربون الروس بشجاعتنا و
رجولتنا و كفاءتنا و حماسنا و
وطنيتا ؛ و أذكر أن أحد الضباط
المدربين الروس قال لأخيك أحمد :
لو كان عندي رجال مثلكم لحاربت
العالم بهم ، فقال له أخوك : نحن
نريد أن نحارب إسرائيل ، و نسترد
الحق العربي ؛ و الكرامة
العربية . فقال الضابط : أظن أن
ذلك سيكون قريباً ؛ فأنا أعلم
جبن اليهود ؛ و قد خبرت شجاعتكم
و اندفاعكم . و عدنا من الإتحاد
السوفيتي ، و كنا أول دفعة تحلق
بالسيخو 21 فوق أرض الوطن ؛ و
التي كان يفترض أن تواجه
الأسطورة الأمريكية آنذاك (
طائرة الفانتوم ) التي كان
الصهاينة يرهبوننا بها ؛ و
فعلاً كانت طائرة السيخو21 و
صاروخ سام 6 هما نقطة التحول
الهامة في سلاح الجو السوري في
حرب تشرين 1973م . و عملت بعد عودتي
في قاعدة الضمير الجوية مع أخيك
؛ و قبل الحرب و بالتحديد في عام
1972م ؛ دخلنا معاً في عدة طلعات
استعراضية داخل الأراضي
الفلسطينية المحتلة ، و فتحنا
جدار الصوت فوق عدد من المدن
الإسرائيلية ؛ و كنا نتسابق
فعلاً على العودة إلى الجو و
ملاقاة الصهاينة ؛ و أذكر في
إحدى الأيام أننا اشتبكنا مع
الصهاينة فوق الجولان و جنوب
دمشق في معركة جوية حامية
استمرت لساعات ؛ و خسرنا فيها
عدة شهداء و عدداً من الطائرات ؛
و يومها حلق أخوك أربع طلعات
بطائرته ؛ و كان قائد السرب كلما
سأل من سيحلق الآن يا شباب ؟ ؛
يكون أخوك أول المندفعين ؛ حتى
منعه القائد عن التحليق مرة
خامسة ؛ و قال له : كفاك اليوم ؛
لقد تعبت ؛ خلي مجال لغيرك . كنا
كلنا نحب أخاك أحمد ؛ و نعتبره
مثال الوطنية و الإنسانية و
الشجاعة و الشهامة و الرجولة و
التضحية و الإيثار ؛ كان طياراً
شجاعاً ؛ و سباحاً ماهراً ؛ و
رساماً رائعاً ؛ و شاعراً مرهف
الأحاسيس ؛ لم أنس شهامته عندما
عينت في مطار الضمير ؛ و أردت أن
أستأجر سكناً لي في دمشق ؛ و قد
كان أهلي يقطنون مدينة حلب ؛ و
ليس لي خبرة في دمشق و أحيائها ؛
لكنه لم يتركني لحظة حتى استأجر
لي ملحقاً من غرفة و منتفعات في
حي المزة ؛ كما ساعدني في شراء
مستلزمات المنزل ؛ و عندما
نقصتني بعض الفلوس ؛ أقرضني من
نقوده الخاصة ، و قد دعاني مع
رفاقنا الطيارين القادمين من
خارج دمشق إلى منزلكم الشامي
القديم في الميدان قبل أن يخضع
للهدم و التنظيم عدة مرات ؛ و
رأينا من كرم أهلك و طيبة أبيك و
حنان أمك ما لم نره من أهلنا ،
هذا بعض ما أبكاني يا أبا وليد ؛
و لعل أكثر ما ألمني هو شعوري
بعد كل هذا التاريخ البطولي و
الحماس الوطني أنني أصبحت
جاسوساً نذلاً و مخبراً حقيراً
؛ على أبناء وطني الذين يفترض
أنني أحميهم و أدافع عنهم ؛ و
على من ؟ ؛ على أخ الشهيد أحمد
الذي ضحى بروحه من أجل الوطن ؛ و
كان مثال الإيثار و الكرم ؛ فهل
أردّ جميله بتسليم رقبة أخيه
الوحيد إلى رقاب المجرمين
القتلة ؟ ؛ لا و الله لن أفعل .
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|