لا
للمحكمة الدولية
محمود
عكل*
في تصريحات متلاحقة، أكد
المسؤولون السوريون أن المحكمة
الدولية التي صادق مجلس الأمن
على إنشائها لمحاكمة قتلة
الحريري لا تعنيهم ولن يتعاونوا
معها لأنها أنشئت دون التشاور
معهم وبالتالي فهم يفترضون أن
لا علاقة لهم بهذه المحاكمة.
قد تبدو هذه التصريحات غريبة
للمراقبين البعيدين عن العقلية
التي تحكم سورية منذ وصول بشار
الأسد إلى كرسي الرئاسة بتعديل
دستوري صادق عليه نائب الرئيس (المتهم
الآن بالخيانة العظمى) عبد
الحليم خدام.
لكن من يتابع طريقة التعامل
الدبلوماسي السوري (مع التحفظ
الشديد على استخدام كلمة
الدبلوماسية لوصف ما يقوم به
النظام) يرى أن هذه التصريحات
تأتي داعمة لأسلوب التجاهل
والتغابي الذي يرى رأس النظام
أنه الأفضل بالنسبة له في ظل عدم
وجود حلول بديلة يلجأ إليها.
فمنذ بداية المشكلة، أي عند
اغتيال الحريري، كان التعامل
السوري مع الموضوع غبياً، إذ أن
فاروق الشرع –وزير الخارجية
آنذاك- لم يجد ما يقوله تعليقاً
على الحادث سوى: " وقع انفجار
كبير في لبنان وأودى بحياة عدد
من الأشقاء اللبنانيين" ولم
يذكر الحريري بكلمة واحدة.
ثم جاء التعامل مع لجنة التحقيق
الدولية بالأسلوب الغبي ذاته
عبر دس شهود مزورين (مثل هسام
هسام) أو اختلاق الأكاذيب حول
شهود آخرين (زهير الصديق) وتلفيق
القصص المضحكة عن رئيس لجنة
التحقيق للطعن في مصداقيته، وكل
هذا لم يؤد إلى نتيجة تذكر كما
يتضح من الوضع الذي وصل إليه
النظام.
سورية غير معنية
الآن يصرح مندوب سورية لدى الأمم
المتحدة، بشار جعفري، أن
سورية لن تتعاون مع المحكمة
الدولية لأنه "في حال تبني
النظام الأساسي للمحكمة فمن
المرجح أن يظهر انتهاك غير
مقبول لسيادة بلدان أعضاء
محددة وحقوق رعاياها" وأضاف
أن تبني النظام الأساسي للمحكمة
الخاصة بهذا الأسلوب "سيؤدي إلى
قناعة سوريا بعدم صلتها بتلك
المحكمة".
الطريف في هذا التصريح أنه يأتي
متساوقاًَ مع الأسلوب الذي طبع
تعامل النظام السوري مع
المتغيرات الدولية طوال
السنوات الست الماضية، فهو
يستخدم خطاباً صبيانياً لا
منطقي ويؤسس عليه حججه الواهية
ثم يطالب العالم بالموافقة على
مطالبه.
ولا يمكن أن يصدق عاقل أن الجعفري
كان مقتنعاً بما يقوله عندما
ذكره ضمن الرسالة التي وجهها
للأمم المتحدة، إذ أنه
كديبلوماسي يفترض أن يدرك أن
المحكمة الدولية شأن لبناني
خالص، وجميع الأنظمة المتعلقة
بها تتم مناقشتها بين لبنان
والأمم المتحدة مباشرة، ولا دور
لسورية في النقاش إلا أن تكون
مرحلة الوصاية على "الشقيقة
الصغرى" لا زالت قائمة.
أما إن كان الاعتراض على المحكمة
لكونها ستحاكم متهمين سوريين،
فهذا أمر يدعو للسخرية أكثر، إذ
لم يحصل في التاريخ كله أن ترك
للمتهم اختيار المحكمة التي
تحاكمه، بل إن النظام السوري
نفسه هو الذي يحاكم النشطاء
المدنيين الديمقراطيين أمام
المحاكم العسكرية الاستثنائية
ضارباً عرض الحائط بالدستور
ومواثيق حقوق الإنسان.
ويبقى أن نتذكر معاً كيف صرح
عبقري الديبلوماسية السورية
فاروق الشرع العام قبل الماضي
أن القرار 1559 قرار تافه ولا يعني
سورية بشيء، ثم اضطر للانسحاب
المخزي من لبنان لاعقاً كلامه
وبقايا كرامة رئيسه قبل أن يمضي
عام على القرار.
المقداد والثقة بالقضاء السوري
لا تقف عبقرية النظام على عدم
الاعتراف بالمحكمة، بل إن مخططي
الديبلوماسية السورية
بعقلياتهم الفذة يستبقون
الأحداث، ويؤكدون أنه حتى لو
قامت المحكمة الدولية وطلبت أحد
المواطنين السوريين للمحاكمة
فلن يتم تسليمه، كما صرح بذلك
نائب وزير الخارجية، فيصل
المقداد، الذي قال: " أولاً،
إن سورية بريئة مئة في المئة من
الجريمة ولا حاجة لتأكيد ذلك.
ثانياً، إذا كان هناك مواطن
سوري قد يكون له ضلع في هذه
الجريمة، فهو مجرم سيعاقب كما
يعاقب المجرمون، أمام القضاء
السوري العادل». وزاد: "إن
الأمم المتحدة لجأت إلى تشكيل
محاكم دولية في أماكن أخرى من
العالم مثل سيراليون
ويوغوسلافيا السابقة لأن «القضاء
فيها كان منهاراً. لكن قضاءنا
مستقل ونزيه، ولذلك لن نقبل أن
يوضع أي مواطن سوري أمام قضاء
دولي لأننا واثقون من قضائنا»
طبعاً الكلمات السابقة تثير
الاعتزاز والفخر في نفوس
المواطنين السوريين في الأحوال
الطبيعية، أما حينما تكون (حارتنا
ضيقة ونعرف بعضنا) كما يقول
المثل السوري، فافتراءات
المذكور أعلاه تصبح مادة
للسخرية والتندر في العالم كله.
القضاء السوري الذي يفتخر
المذكور بنزاهته هو نفسه القضاء
الذي يتلقى تعليماته من الأمن
السياسي لتمديد اعتقال
الناشطين المطالبين بالحدود
الدنيا من الحرية دون تهم
واضحة، وهو نفس القضاء الذي يتم
اعتقال أعلى رأس فيه (مجلس
الدولة) بتهم تتعلق بالفساد
ويجري تعذيبه للاعتراف بها،
بزعم تلقيه رشاوي في قضايا وقع
عليها ستة قضاة قبله واعتمدها
هو بصفته رئيس المحكمة الإدارية
العليا، كما نشرت "نشرة أخبار
الشرق الإلكترونية" الصادر
في لندن في عددها بتاريخ 26/11/2006م.
وللتأكد أكثر من مصداقية ونزاهة
القضاء السوري، نذكر حادثة هي
الوحيدة من نوعها في العالم كله
عندما صدر مرسوم جمهوري يخول
رئيس الوزراء تسريح من يشاء من
القضاة من الخدمة دون إبداء
الأسباب ودون أن يكون من حق
القضاة المسرحين الاعتراض أمام
أي جهة كانت، ولمدة 24 ساعة !!!
حتى الآن أعجز عن فهم مثل هذه
المراسيم التي تحقق العدالة
بالخفية والسرقة، فإما أن يكون
هؤلاء القضاة فاسدون، وفي هذه
الحالة من الواجب محاكمتهم
وجعلهم عبرة لغيرهم لا الاكتفاء
بتسريحهم، أو أنهم من البقية
النظيفة التي تقاوم الفساد، وفي
هذه الحالة يكون المرسوم خطوة
أخرى من خطوات ترسيخ الفساد
وتأصيله ضمن الإستراتيجية التي
اعتمدها حزب البعث منذ وصوله
للسلطة عام 1963.
علماً بأنني أرجح الرأي الثاني
لعدة أسباب أهونها أن المناط به
تسريحهم هو أحد الغارقين في
مستنقع الفساد، وأهمها أن
القضاة المسرحين لم يقبلوا بما
حدث لهم بل حاولوا عدة مرات
مقابلة الرئيس وتقديم شكوى
وطالبوا بالتحقيق ولا يمكن
لقضاة فاسدين أن يفعلوا هذا
الأمر علناً.
وأخيراً، كهدية الختام لنائب
وزير الخارجية الواثق من عدالة
ونزاهة قضاء نظامه المهترئ،
أهديه هذا الخبر عن محاكمة
الناشطين كمال غرز الدين وأيهم
بدور الذين
قاما بالمشاركة في اعتصام
احتجاجاً على استمرار العمل
بقانون الطوارئ، وخلال
المحاكمة بتهمة شتم وكيل الدولة
وحزب البعث قدم الدفاع خمسة
شهود أكدوا أن الناشطين اكتفيا
برفع الشعارات ضد قانون الطوارئ
وأنهما لم يسبا أو يشتما أحداً،
وهنا تفتقت عبقرية القاضي
النزيه عن حل يضمن له إرضاء
أسياده في الأمن السياسي فقد
قرر " إحالة أوراق الدعوى
للنيابة العامة لتحريكها بحق
شهود الدفاع الخمسة بناء على نص
المادة 335 من قانون العقوبات
السوري الذي ينص على أن تجمع
سبعة أشخاص يعتبر إثارة شغب.
وبما أن الشهود خمسة ويرتفع
عددهم إلى سبعة مع بدور وغرز
الدين فتطبق عليهم عندها نص
المادة المذكورة آنفاً" !!
وتحياتنا للقضاء النزيه.
*كاتب سوري
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|