(
أدبيات سياسية )
الظلم
: الشِيمة.. والعِفّة.. والعِلّة
عبدالله
عيسى السلامة
قال المتنبّي :
والظلمُ مِن شِيَم النفوسِ
، فإنْ تَجِدْ
ذا عِفّة ، فَـلِعلّةٍ لا
يَظلِمُ
احتجّ بعض الباحثين على
المتنبّي ، لجعله الظلمَ شيمةً
لازمة من شِيَم النفس البشرية ـ
أي طبيعة من طبائعها ـ .. ورأوه
قد ظَلم النوع الإنساني كلّه ،
بإلصاق هذه التهمة به..! فقد جعلَ
الظلم هو القاعدة ، وجعلَ
العِفّة عنه ، استثناء لايحصل
إلا لسبَب ( علّة ) يقتضي وجوده ..!
ولِما لهذا الموضوع من
صِبغَة فلسفية ذات أبعاد شتّى (
نفسية.. اجتماعية .. خلقية ..
تربوية ).. كان لابدّ من وقفة
قصيرة عنده ، لأهميته للنوع
الإنساني كله..!
أ- الظلم
أنواع ، منها :
• الظلم
الأعظم : وهو الشرك بالله .قال
تعالى على لسان لقمان: (
يابنَيّ لا تُشركْ بالله
إنّ الشِركَ لَظلمٌ عَظيم ).
سورة لقمان / آية 13/ . ففي هذا
الظلم اعتداء على أعظم حقيقة في
الوجود ، وهي وحدانية الله
سبحانه وتعالى ، التي بعث
الأنبياء والرسل جميعاً،
لتأكيدها في حياة الناس ،
وترسيخها في عقولهم وقلوبهم .
والقرآن الكريم حافل بالآيات
التي تدلّ على هذا المعنى ،
بأشكال متعدّدة ..!
• ظلم
الإنسان لنفسه : وهو متعدّد
الصور والوسائل والأساليب..!
• ظلم
الإنسان لأخيه الإنسان : وهو
كذلك متعدد الصور والأساليب
والوسائل..!
• ظلم
الإنسان لمخلوقات الله الأخرى
من غير النوع الإنساني : كالحيون
بأصنافه وأجناسه ، وعناصر
البيئة : من نبات وماء وهواء
وتراب..!
ب-
الظلم بأنواعه المذكورة
آنفاً ، موجود في الحياة
البشرية ،على امتداد الزمان
والمكان، وهو مَظهر من أبرز
مظاهرهذه الحياة ، ومَعلَم من
أجلى معالمها ، تؤكّد ذلك
رسالات السماء ، وحقائق الأرض
المحسوسة ، التي يراها الإنسان
ويسمعها ، أينما كان في عالم
البشر..!
ت-
أكثر الناس يمارسون الظلم
بطريقة ما ، بنوع واحد من أنواعه
، أو اثنين ، أو أكثر من ذلك. وقد
قال عزّ وجلّ ، في كتابه الكريم :
( وما أكثرُ الناسِ ولوْ
حَرَصْتَ بمؤمنين) سورة يوسف /آية
103/. ومعلوم أن عدم الإيمان – أي
الكفر – إنما هو ظلم من أسوأ
الأنواع ! وقد وُصف به أكثر
الناس.
ث-
قال تعالى : (وإنّ كثيراً مِن
الخُلَطاءِ لَيَبغيْ بَعضُهمْ
على بَعضٍ إلاّ الذينَ آمَنوا
وعَمِلوا الصالحات ). سورة ص /
آية 24/. ومعلوم أن البغيَ ظلم.
ج- ومن
يستعرض أنواع الظلم التي يراها
في حياته اليومية ( ظلم الأفراد
للأفراد ، وظلم الحكّام
لمواطنيهم ، وظلم الدول للدول)
لابدّ له أن يتساءل: هل
الظلم حالة طارئة على حياة
الناس ، أم هو أصل ثابت مستقرّ
من أصول هذه الحياة!؟ وإذا كان
أصلاً ثابتاً ، فهل هو طبيعة من
طبائع النفس البشرية ، كما زعم
المتنبي ، أم استعداد كامن في
هذه النفس ، يَظهر في أكثر صور
الحياة ، وتمارسه أكثرية أفراد
النوع الإنساني !؟ إن سورة العصر
تؤكّد خسارة الإنسان عامّة ،
وتستثني فئة منه: ( والعَصرِ. إنّ
الإنسانَ لَفيْ خُسْرٍ . إلاّ
الذين آمَنوا وعَملوا
الصالحاتِ وتَواصَوا بالحَقّ
وتواصَوا بالصَبْرِ). ومعلوم أن
الخسر لايكون ، إلاّ نتيجة لظلم
يمارسه الإنسان نفسُه، فالله
لايظلم أحداً.
ح- وعند
العودة إلى الآية الكريمة ، نرى
بوضوح ، أن الظلم ليس جبلّة جبِل
عليها الإنسان لافِكاكَ له منها
، بل هو استعداد كامن في النفس
لممارسة الظلم ، كالاستعداد
الكامن لممارسة العدل والخير .
قال تعالى : ( إنّا هَدَيناهُ
السبيلَ إمّا شاكراً وإمّا
كَفوراً).سورة الإنسان / آية 3/.
خ- وبناءً
على ماتقدّم ، ندرك أن الظلم ليس
حكْماً ربّانياً حكَم الله به
على الإنسان ، ولا قَدَراً
لازماً قدّره عليه..! بل هو حالة
إنسانية ، يمارسها الإنسان على
نفسه ، وعلى أفراد نوعه ، بطَوعه
واختياره .. ويَـقبلها الآخرون
أو يرفضونها ، بطوعهم واختيارهم
. فلا عذْرَ لمن يمارسها ،
ولاعذرَ لمن يَـقبلها.. (
والمضطرّ إلى السكوت على الظلم
، وهو كاره له ، يعذربحسَب
ضرورته).
د- وهنا
نقف عند حالتين من حالات الظلم
الشائعة اليوم :
• ظلم
الحاكم لشعبه : وهو حالة من
الظلم المزدوج: الحاكم ظالم ،
وعليه أن يدفع ضريبة ظلمه ،
والشعب المظلوم ظالم ، لأنه قبل
الظلم ، وعليه أن يدفع ضريبة
ظلمه.( في الحديث الشريف: إذا
هابت أمتي أن تقول للظالم :
ياظالم .. فقد تُودِّع منها..).
وفي الحديث الشريف أيضا ( سيّد
الشهداء حمزة ، ورجل قام إلى
إمام جائر، فامَره ونَهاه ،
فقتله ).
• ظلم
الدولة للدولة : والظلم هنا
ثلاثيّ الأبعاد : الظالم الأول
فيه الدولة التي تمارسه.
والظالم الثاني هو الحاكم الذي
يقصّر في تقوية دولته ، حتى
يستضعفها الآخرون فيعتدوا
عليها . والظالم الثالث هو الشعب
الذي يقبل من حاكمه التقصير في
تقوية الدولة وحمايتها ، حتى
يستبيحها أعداؤها ، وينكّلوا
بشعبها ، وينهبوا ثرواته..!
ذ- وهنا
نصل إلى العفّة وعلّتها ،
لنكتـشف أن العلّة التي تَمنع
من الظلم ، أو تَردع عنه، أنواع،
منها:
- الخوف
من الله عزّ وجلّ : وهذه أسماها
وأكرمها.
- الأخلاق
والمروءات التي يربّى عليها
الفرد : وهذه تأتي بالدرجة
الثانية ، من حيث الرفعة
والسموّ.
- العجز
عن ممارسة الظلم ، إذا كان
العاجز راغباً فيه . وهذه حالة
سلبية لا فضلَ للعاجز فيها ، وإن
تَظاهَر بالعفّة !
- القوّة
الرادعة : وهي التي تمنع المرء
من الظلم وتردعه عنه ، سواء
أكانت قوّة قانونية ، أم قوّة
واقعية ( عسكرية .. ونحوها). وهذه
القوّة تَحديداً ، هي التي تكشف
حقيقة الديموقراطية بوضوح
وجلاء ـ في الدول التي تدّعيها ـ
..! فالحاكم في الدول
الديموقراطية ، لايمنعه من
الاستبداد والتجاوز على الحقوق
العامّة والخاصّة في دولته، إلا
القوّة الرادعة التي
ترصده وتتربّص به ( قوّة
القانون.. قوّة الخصوم
السياسيين.. قوّة وسائل الإعلام
التي تَفضح المُخالف ، وتُشهّر
به ، وتسقطه..). ولعلّ
الديموقراطي الحقيقي الوحيد ،
هو الذي يَجد مَن يَتصدّى له ،
ويردعه عن التجاوز..! لايقول له :
لا .. ثم يصمت . بل يقنِعه بحزم ،
بأن كلفة التجاوز أكبر بكثير من
مكاسبه ..!
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|