لقاء
لا أنساه .. في أقبية السجون (5-6-7-8)
(5)
د.هشـام
الشـامي
لقد فهمت الآن معنى
هذا البكاء الشديد الذي بكاه
صاحبي بعد سماعه لقصتي ؛ و فهمت
معنى ذلك الشعور الغريب الذي
انتابني عندما دخل عليّ في
الزنزانة و كأني أعرفه من قبل ؛
فقلت له:
- الآن تذكرت أين
رأيتك من قبل ، لقد رأيتك في
الصور مع أخي أحمد ؛ ما زلت
أحتفظ بكل ممتلكات أحمد ؛ ثيابه
العسكرية و المدنية ؛ بدلته
العسكرية التي لبسها في حفل
التخرج مع تلك الطاقية العسكرية
الطويلة و التي تحمل ريشة ضخمة
في مقدمتها ؛ ألبوم صوره منذ
دخوله الكلية إلى يوم استشهاده
و خاصة رحلته إلى الإتحاد
السوفيتي ؛ حيث كنتم ترتدون
الثياب الصوفية السميكة ؛ و
تضعون الطاقية الروسية المميزة
؛ و تلعبون بالثلج و تتضاربون به
؛ و صوركم مع مدربيكم الروس ؛
إضافة إلى دفتر أشعاره حيث
يتغنى بحب الوطن و يفتخر بأنه
جندي من جنود الوطن و يتشرف
بالدفاع عنه ؛ و رسوماته
المعبرة عن حبه لعمله و التي
تكاد تقتصر على تصوير أنواع
الطائرات السورية و العدوّة ؛ و
روعة ركوب الطائرة و عظمة
ملاقاة العدو في الجو ؛ و دفتر
ذكرياته و الذي دوّن فيه كل
الطلعات و المعارك و المواجهات
التي التحم فيها مع العدو و كل
الأحداث الهامة التي وقعت معه
خاصة منذ سافرتم إلى موسكو و حتى
استشهاده في حرب الاستنزاف التي
تلت حرب تشرين ؛ كتبه و شهاداته
و رتبه العسكرية و نياشينه ، لا
زالت غرفته مقفلة و خزانته
مليئة بثيابه العسكرية ؛ و قد
زيّنتُ جدرانها بصوره التي تلخص
مراحل حياته منذ كان طالباً في
الابتدائية إلى أخر زيارة زارنا
بها قبل استشهاده رحمه الله ؛ و
يومها طلب من أختي أن تصورنا
جميعاً و نحن نتناول وجبة
الغداء الشهية ؛ و بعد أن انتهى
من غدائه ودعنا وداع مفارق و
قبّلنا جميعاً و قبّل يديّ أمه و
أبيه و خرج و هو يتلفّت إلينا و
نحن نغص بالبكاء ؛ و بعد أن خرج
من باب المنزل عاد من جديد و
انكب على يدي أمه و أبيه و هو
يقول لهما : سامحاني و أرضيا عني
و ادعيا لي ، ثم التفتَ إليّ و
حملني إلى صدره و قبلي و هو يقول
: لا تنسَ الأمانة يا أحمد ، ثم
سار و هو يقول : أشعر أنني لن
أراكم بعد الآن ، و تركنا جميعاً
نجهش بالبكاء ؛ و ندعو له
بالسلامة و النصر . و ما زالت أمي
حتى الآن و بعد عشر سنين على
استشهاده ؛ تدخل غرفته كل صباح
تكنسها و تنظفها و ترتبها و تمسح
الغبار عن أثاثها و ترتب فراشه و
تجلس تتأمل صوره و تكلمه و
دموعها تنهمر على وجنتيها و
كأنه أمامها ؛ حتى يظن الغريب
أنها قد جُنّت ؛ و ما إن تخرج و
تقفل باب الغرفة حتى تعود إلى
حياتها و بيتها كما كانت ؛ مثال
الحكمة و الرزانة و الاتزان . ما
زلنا جميعاً نذكره في سائر
أحوالنا و معاشنا و كأنه ما زال
يعيش بيننا ؛ فهذا الطعام يحبه
أحمد ؛ و هذه الفاكهة يفضلها
أحمد و هذا اللون يكرهه أحمد ؛ و
هكذا كل شيء في حياتنا له فيه
أحمد نصيب .
- و الله يا أبا
الوليد لا يغيب أخاك عن بالي حتى
الآن ؛ ما زلت أحنّ إلى تلك
الأيام الخوالي التي قضيناها
معاً و خصوصاً في غربتنا عن
الوطن ؛ ما زلت أذكره و أذكر كل
رفاق السلاح الذين كانوا مثال
الأخوة و الشهامة ؛ و لعلمك فإنه
لم يبقَ على رأس عمله من الدفعة
التي سافرت معنا إلى موسكو– و
كانوا عشرين طياراً – سوى مقدم
واحد غيري ؛ فاستشهد عشر ؛ و
سُرح ستة ضباط لأسباب مختلفة (
سياسية و صحية ) و حوّلوا اثنان
إلى أعمال مكتبية في دوائر
حكومية .
- الله أكبر من
عشرين لم يبق سوى واحد فقط على
رأس عمله ؛ و ها أنت هنا ؛ و لكن
لماذا أنت هنا ؟.
- قصتي غريبة عجيبة
تشبه قصتك ؛ و تختصر قصة وطن
تحكمت به طغمة فاسدة أنانية
مريضة ؛ فأفسدته و حوّلته إلى
مزرعة خاصة ؛ بعد أن كان وطن
لجميع أبنائه ؛ و سيطرت سطوة
المخابرات و دولة العصابات و
الأنفس الجبانة الجشعة على كل
شيء ؛ فأصبح الرجل يخاف من زوجته
؛ و الأخ من أخيه ؛ و الأب من
ابنه ؛ و الجار من جاره ؛ و
انعدمت الثقة و الألفة و المحبة
و الرحمة بين الجميع ؛ و انتشرت
ثقافة الخوف و الصمت و الكذب و
الخداع و النفاق و الرشوة و
المحسوبية ؛ و أصبح المجتمع
مريضاً ؛ و الدولة فتونة ؛ و
السلطة بلطجة ؛ و الناقد لهذا
الوضع الشاذ خائناً ؛ مما كرّس
دكتاتورية الحاكم ؛ و عبودية
المحكومين ؛ و ألغى مهمة الجيش
الأساسية ؛ الذي لم يعد يستطيع
أن يدفع عدواً ؛ أو يمنع معتدياً
؛ أو يرد غازياً ؛ و اقتصرت
مهمته على حماية السلطان و
التسبيح بحمده و إسكات
المواطنين و إرهابهم ؛ مقابل
مكاسب دنيئة لبعض الضباط
المتحكمين برقاب المجندين
الذين أصبحوا خدماً عند سادتهم
و زوجات سادتهم و أبنائهم . فأنا
؛ كما هو حال أخيك أحمد و بقية
رفاق سلاحنا ؛ دخلنا الجيش لكي
ندافع عن الوطن و نحمي حماه ؛ لا
أن ندافع عن الظلم و الطغيان و
الفساد ، لندافع عن وحدتنا
الوطنية و نصونها و نمتنها ؛ لا
لندافع عن زمرة متحكمة مزقت
البلاد و ظلمت العباد و زرعت
بذور الطائفية المقيتة ، فقد
كنا نتعامل معاً في موسكو أثناء
غربتنا ؛ و في الوطن بعد عودتنا
؛ كأخوة تجمعنا سوريا الأم ؛ و
لا يفرق بيننا عرق و لا طائفة و
لا عشيرة و لا منطقة ؛ ليأتي
أمثال المساعد الطائفي المريض
الذي اتهمك باطلاً و زوراً
ليرميك في السجن و أنت ابن
السابعة عشر من عمرك ؛ و يدفن
هنا أحلامك و وطنيتك و حماسك و
اندفاعك إلى الأبد - أو هكذا
يعتقد على الأقل - ، هذه الأمراض
الطائفية و الأحداث الأهلية
التي سمعت عنها قبل أن تدخل
السجن و سمع عنها كل السوريون لم
نكن نعرفها قبل تسلط هذه الزمرة
المريضة على رقابنا ؛ فأنا
مثلاً أعمامي أصلهم من منطقة
حارم شمال سوريا ، و أخوالي
أصلهم من ريف طرطوس ؛ و تزوج
والدي السنّي من أمي العلوية
بلا حرج و لا مشاكل ؛ و سكن في
مدينة حلب ؛ و كثيراً ما اجتمع
أخوالي و أعمامي في بيتنا و
تناقشوا و تجادلوا و اختلفوا و
تقاطعت أفكارهم و تلاقت آراؤهم
ثم افترقوا بلا حقد و لا تخوين و
لا تكفير ؛ أما الآن و بعد أن
أصبح الانتساب للجيش على الهوية
الطائفية و العمل في الأمن على
الهوية الطائفية ؛ و القتل في
حماة و حلب و إدلب و اللاذقية و
باقي المدن السورية على الهوية
الطائفية و حتى أصغر الأمور و
أحقر الوظائف تدخلت بها الهوية
الطائفية ؛ فلا أظن - و للأسف
الشديد- أن أعمامي و أخوالي
سيجتمعون في مكان واحد بعد الآن
. أما عن قصتي فهي كقصص كل
السوريين المسجونين اليوم ؛
سواء داخل السجون و المعتقلات ؛
أو خارجها على امتداد السجن
الكبير سوريا ؛ فمنذ حوالي
ثمانية أشهر كنت في إجازة
أقضيها عند أهلي في حلب ، و زرت
أحد أخوتي في مكتبه العقاري
الخاص وسط المدينة ، و كان اليوم
خميساً و الوقت عصراً ؛ و رأينا
بعض طلاب الكلية الجوية بلباسهم
المميز يمرون من أمام المحل و هم
منصرفون لأجازة نهاية الأسبوع ؛
و رأيت بأم عيني أحد الطلاب و هو
يتحرش بإحدى الفتيات في الشارع
العام أمام والدتها ، و عندما
غيرت وجهتها لتهرب من طريقه لحق
بها و قام بقرصها من فخذها ؛
فصاحت ألماً و هي تبكي و تستغيث
لشرفها و عفتها ؛ و أمها تصرخ و
تدعو عليه ؛ فتفجرت النخوة في
شراييني ؛ و انتفضت قائماً و
ركضت نحوه و صرخت فيه و أنا
ألطمه بكفي على وجهه : عيب عليك ؛
احترم البدلة اللي لابسها . فوقع
صريعاً على الأرض من شدة ضربتي ،
فقام و هو يصرخ و يقول : ليش عم
تضربني ؟ مين إنت حتى تضربني ؟ .
و كنت بلباسي المدني ؛ فقلت له :
أنا المقدم الطيار نبيل شاهين ؛
عطيني اسمك و انشاء الله بدي
علمك الأدب و كيف تحترم بدلتك
العسكرية ؟ ! . فأعطاني اسمه و
قلي : روح بلّط البحر ؛ و رح نشوف
مين بدو يربي التاني . و اتصلت
بعدها بمدير الكلية و كان
صديقاً قديماً لي ؛ و أعطيته اسم
هذا الطالب ؛ و شرحت له ما حصل
بالتفصيل ؛ فوعدني أن يعاقبه
أشد العقاب ؛ و قال لي : سأتصل بك
لاحقاً لأخبرك ماذا حصل . و
انتظرت أكثر من أسبوع ؛ لكنه لم
يتصل ؛ فبادرت بالاتصال به ،
فقال لي : أنصحك أن تنسى الموضوع
؛ لأن الطالب ليس سهلاً ؛ و عمه
ضابط كبير في المخابرات الجوية
؛ و مقرب جداً من محمد الخولي (
رئيس المخابرات الجوية ) . فقلت
له : لقد ازداد حرصي على معاقبة
هذا الطالب ؛ حتى يتعلم أن يحترم
الناس و يحترم بدلته العسكرية ؛
و إذا تجاوزنا عن عقابه هذه
المرة خوفاًُ من عمه فسيتطاول
على المواطنين أكثر من ذي قبل ؛
فإذا كان بهذه النفسية
المتعجرفة من الآن و هو ما زال
طالب ضابط ؛ فكيف سيكون عندما
يصبح ضابطاً ؟ . فأجابني : لقد
وعدتك بمعاقبته ؛ و عندما أمرت
بسجنه ؛ جاءني اتصال من فرع
المخابرات الجوية ؛ و طلب مني
إطلاق سراحه فوراً ؛ و عندما
شرحت للمتصل وجهة نظرك ؛ قال لي
بالحرف الواحد : أصلاً هالمقدم
قليل أدب ؛ و نحن منعرف كيف
نربيه . و أخيراً طلب مني صديقي
مدير الكلية الجوية أن أنسى هذا
الموضوع حرصاً و خوفاً على
مصلحتي . و بعدها بأقل من شهر تم
استدعائي إلى فرع المخابرات
الجوية ؛ و تم توجيه التهمة لي
بأنني أنتقد السياسة السورية
الحكيمة!؛ و أحرض ضد قيادتها
الوطنية و القومية الرشيدة ؛ و
خصوصاً في عدم الرد على العدوان
الإسرائيلي على لبنان في السنة
الماضية ؛ بعد أن قصفت إسرائيل
قواتنا و دفاعاتنا الجوية و
راداراتنا في لبنان و أسقطت عدة
طائرات لنا في المجال الجوي
اللبناني ؛ و مع ذلك لم تقم
قواتنا بأية محاولة للردّ ؛ و
اكتفى وزير دفاعنا بتصريحه
المعتاد في مثل هذه الحالات :
إننا نحتفظ بحق الرد على
التجاوزات الإسرائيلية في
الوقت المناسب . و أثناء التحقيق
لم يخف أحد المحققين السبب
الحقيقي لاعتقالي عندما قال لي
خلال جلسة التحقيق بكل وضوح :
- عامل حالك شريف يا
عرص ؛ و عمتضرب طلاب الكلية
الجوية أمام الناس ؛ وين
المشكلة إذا سَمّعلو بنت حلوه
كم كلمة ؟! ، كلنا كنا شباب و كنا
متلوا ، ولاّ هنت كنت شريف مكة ،
و الله لربيك و خليك تعرف كيف
تتجرأ على ساداتك
........
---------------------
لقاء
لا أنساه..في أقبية السجون-6
د.هشـام
الشامـي
كان المقدم نبيل
شاهين ( أبو سمير ) يشرح مأساته و
معاناته و الدمعة تنحصر بين
لحظيه حسرة و ألماً لما آل إليه
حال هذا الوطن العزيز ؛ و كنت لا
أحب أن أقاطعه لأنني تأثرت
كثيراً بكلامه و تفاعلت معه
بشدة ؛ و شعرت و كأن أخي الشهيد
أحمد - يرحمه الله - يعطيني
دروساً في الوطنية و الأخلاق و
الشهامة ، و كان المقدم نبيل
يتوقف عن الكلام و يستريح
قليلاً و يستنشق نفساً عميقاً
من جو هذا القبو الكئيب ليتابع
حديثه و ينفّس عما في داخله من
ألم و حسرة و كبت . و تابع أبو
سمير حديثه لي قائلاً :
- كانوا يتفننون في
تعذيبي و إهانتي ؛ و كأنهم
يكافئونني عن خدمتي لهذا الوطن
بتلك الإهانات التي كانت تؤلمني
أكثر من آلام الكرباج المطاطي
السميك و عصي الخيزران
و الكبلات الحديدية ؛ كانوا
يصرون على أن أقول سيدي لكل عنصر
منهم ؛ فتصور كيف يكون شعوري ؟
عندما يسألني عنصر مجند حقير
مثل أبي كنان : شو رتبتك ولا ؟ ،
فأجيبه : مقدم طيار سيدي ،
فيضحكون مبتهجين و منتشين و
كأنهم حرروا فلسطين من النهر
إلى البحر ، و أكثر ما أثر بي و
جعلني أضعف أمامهم و أنهار
عندما هددني المقدم رئيس
التحقيق قائلاً : بدك تحكي متل
ما بدنا غصب عنك ولا ؛ أحسن ما
جيب مرتك هون و نيـ.. قدّامك . و
شعرت و كأن خنجراً مسموماً قد
غرزه عميقاً في صدري بهذه
الكلمات ؛ فهذه النفوس المريضة
لا تتورّع عن فعل أي شيء أبداً ،
و وددتُ لو أهجم عليه و أمسك
بتفاحة رقبته و أغرز أصابعي بها
عميقاً بكل ما أوتيت من قوة ؛
لكنني تذكرت أن يديّ مكبلتان
بالأصفاد خلف ظهري ؛ و لا أستطيع
أن أفعل أي شيء ؛ و لا أملك من
أمري حتى أن أرد عليه ، ما أصعب
أن تشعر بالذل و الإهانة ؟! و أنا
الذي كنت أشعر أنني أملك الأرض و
السماء عندما أحلق بطائرتي
المقاتلة في الفضاء ، و تيقّنت
أنهم لن يعيدوني إلى عملي أبداً
حتى إذا أخرجوني من هذا السجن ؛
لأنهم يعرفون ما أجرموا بحقي ؛ و
أنني لا بد سأنتقم لكرامتي و
كرامة الوطن و شرفي و شرف الوطن
مهما طال الزمن ، هذا الوطن الذي
استباحوه بنذالتهم و وضاعتهم و
حقارتهم و طائفيتهم ؛ حتى أنني
بدأت أشعر أن مجزرة بحجم مجزرة
مدرسة المدفعية التي حصلت قبل
حوالي أربع سنوات في حلب ما هي
إلى ردّ فعل طبيعي لما ترتكبه
الحكومة من تمييز و جرائم بحق
هذا الوطن ... و هنا قاطعته
قائلاً :
- و لكنها جريمة لا
أستطيع تصورها و تقبلها ...
فقاطعني قائلاً :
- صحيح .. صحيح.. لا شك
أن الذين قُتلوا في هذه المجزرة
لا ذنب لهم ؛ و لكن تصرف الدولة
الطائفي و انحيازها الواضح
لطائفة ضد بقية الطوائف و
الاثنيات التي تشكل نسيج الوطن
الجميل بتنوعه و تناسقه ؛ جعلت
بعض الشباب المتحمس و المكبوت
يرد بهذا الشكل الطائش ؛ فهو لا
يملك وسيلة أخرى ليعبر عن رفضه
لهذا الواقع الشاذ ، هل يستطيع
أحد في هذا الوطن أن ينتقد سياسة
الدولة الطائفية علناً ؟ ؛ رغم
أن الجميع ينتقد هذا الوضع
المرفوض بينه و بين نفسه و بينه
و بين الثقات من المقربين إليه ؛
و في حال تجرأ أحد ما و انتقد هذا
التوجه الطائفي للدولة ما هي
النتيجة ؟ ، لا شك أنه سيقتل
خائناً و عميلاً و موهناً
لعزيمة الأمة و مثيراً للنعرات
الطائفية و .. و .. إلى أخر تلك
الاتهامات الباطلة الجاهزة و
المعتادة ، ربما أنت لم تشعر
بحجم الكارثة الطائفية التي
أصابت هذا الوطن إلا عندما
اصطدمت بهذا المساعد الحاقد و
الذي أفشل بكلمة واحدة و بدم
بارد كل أحلامك و أمنياتك ؛ أما
نحن فنرى بأم أعيننا ما يحصل
داخل الجيش و القوات المسلحة ؛
فما زالت نسبة العلويين تزداد
باستمرار بين الضباط و حتى بين
صف الضباط و المجندين المتطوعين
مقارنة ببقية الطوائف ؛ حتى
أصبح من شبه المستحيل أن يتطوع
غير العلوي في الجيش ؛ و إذا ما
قبلوا البعض – من غير العلويين -
لذر الرماد في العين ؛ فلا يمكن
لهم أن يجتازوا رتباً معينة ؛ و
لا يمكن لهم أن يستلموا مراكز
حساسة مهما ملكوا من مؤهلات و
خبرات و إمكانيات ؛ و حتى إذا
وصل البعض إلى رتب عالية يبقى
خائفاً و يتصرف و كأنه يعمل
أجيراً أو صانعاً عند مساعد أو
رقيب علوي في ثكنته أو وحدته
العسكرية ؛ لا تفهم من كلامي
أنني ضد العلويين ؛ أبداً ؛
فأخوالي علويون و أنا أحبهم و
أعتز بهم ؛ و كذلك لا تظن أن كل
العلويين راضين عن هذا الوضع
الشاذ ؛ قطعاً ؛ فأنا أعرف أن
أغلبهم ناقم من هذا الوضع و
يرفضه ؛ و لكنهم كبقية إخوانهم
في الوطن مغلوبون على أمرهم إلا
ثلة قليلة من ضعاف النفوس ؛ تلك
التي يعتمد النظام عليها في
تنفيذ مآربه ؛ و السؤال الذي
يطرح نفسه هو : ما معنى أن يكون
نسبة الطلاب العلويين إلى مجموع
طلاب مدرسة المدفعية عند وقوع
المجزرة مثلاً أكثر من سبعين
بالمئة ؟!؛ و ما معنى أن يُرفض
شاب في مثل حماسك و اندفاعك من
التطوع في الجيش ؟ ! ؛ ثم انظر
حولك هنا في هذا السجن الرهيب ؛
هل ترى أو تسمع إلا لهجتهم و
أسماءهم من أصغر عنصر إلى أكبر
ضابط ...
- و لكن وزير الدفاع
و رئيس الأركان سنيان ...
- هذا صحيح أيضاً ؛ و
لكن السؤال هل يستطيعا أن يفعلا
أي شيء ؟ ؛ هل يستطيعا أن يغيرا
هذا الواقع المرفوض ؟ ؛ هل
يستطيعا حتى أن ينتقدانه ؟ ؛ هل
لديهما صلاحيات كصلاحيات رفعت
الأسد أو علي حيدر أو شفيق فياض
و الكثير من الضباط غيرهم ؟ ؛
أنهما و أمثالهما أرجل كرسي لا
أكثر ؛ ثم هل هناك رئيس فرع
مخابرات من فروع المخابرات
الكثيرة و العديدة ليس علوياً ؟
؛ بل هل هناك ضابط مخابرات له
صلاحيات ليس منهم ؟؛ و للمقارنة
فقط أقول لك : أننا نحن العشرون
الذين سافرنا إلى موسكو مع أخيك
للتدرب كنا من كل الطوائف و
الاثنيات ؛ و كان اثنان و نصف
فقط – على اعتبار أن نصفي علوي
– من هؤلاء العشرين من الطائفة
العلوية الكريمة ... و بينما كان
المقدم شاهين يتابع حديثه
باهتمام و تأثر سمعنا باب السجن
المقابل لزنزانتنا يفتح ؛ و
سمعنا صوت أقدام السجان أبي
كنان تتجه نحونا ؛ فصمتنا و نحن
نترقب ما يريده هذا البغل
القادم و نقول في أنفسنا : خيراً
إن شاء الله ؛ و نعلم أنه لا يأتي
بخير . و فتح أبو كنان باب
زنزانتنا بعنف و صرخ بالمقدم
نبيل قائلاً : - تعال ولاك كر
تعال . فقام أبو سمير متثاقلاً و
خرج من الزنزانة و سار مع أبي
كنان نحو باب السجن ؛ الذي قام
بوضع القيود في يديه خلف ظهره و
العصابة السوداء الكئيبة على
عينيه ؛ و خرجا من باب السجن و
أنا أتابعهما بنظراتي الحزينة
من خلال شق ضيق في باب الزنزانة
الحديدي ...
----------------------
لقاء
لا أنساه..في أقبية السجون-7
د.هشـام
الشامـي
ما أن غاب المقدم
نبيل عن ناظري و أغلق السجان أبو
كنان باب السجن ؛ حتى تراجعت عن
الشق الضيق الذي كنت أنظر من
خلاله إليهما ؛ و أسندت ظهري إلى
الجدار المقابل لباب الزنزانة ؛
و بدأت أفكر و أحلل و أتسأل : إلى
أين أخذوا نبيل في هذا الوقت
المتأخر من الليل ؟، لا بد أن
الفجر أو حتى الصبح قد أوشك أن
يصبّح على الشام بعبير ياسمينه
و دفئ شمسه خارج السجن ؛ أما نحن
داخل هذا القبو فلا نعرف صبحاً و
لا ظهراً ؛ إلا من خلال أوقات
توزيع الطعام ؛ و تبادل نوبات
الحراسة داخل السجن ، و بما أن
أبا كنان هو من أصطحب المقدم
نبيل فهذا يعني أن الوقت ما زال
قبل السابعة صباحاً موعد ذهاب
أبي كنان و قدوم السجان اللئيم
الآخر صاحب العيون الزرقاء و
القوام المربوع سهيل ، هل أحبّ
المحققون المناوبون أن يسألوه
عني قبل أن ينهوا عملهم و يناموا
عندما يستيقظ البشر ؟ ، هل ذهب
للتحقيق ؟ ، من المستبعد أن يأتي
أهله لزيارته في هذا الوقت
المبكر ، تساؤلات عديدة كانت
تدور في ذهني و محاولات متكررة
لتفسير ما يجري حولي في هذه
الليلة الطويلة المرهقة و بعد
هذا اللقاء المثير بيني و بين
أحد أصدقاء أخي الشهيد أحمد في
أقبية السجون الموحشة ، و بينما
أنا في تأملاتي و تصوراتي إذ
سمعت صوت سجين يعذب بشدة و
يستغيث بصوت أجش مبحوح ، كان صدى
الصوت البعيد الذي يعلو و يخفت
كلما أغلقوا أو فتحوا أبواب غرف
التحقيق أو كلما ازدادت
استغاثات السجين أو خفتت يصل
إلي من غرف التحقيق التي تلي
فوراً ذلك الدرج ذي الدرجات
العشرين ، و الذي يصل هذا القبو
بسطح الأرض الخارجي ، هذه
الأصوات لم أكن أسمعها عندما
كنت في زنزانتي القديمة
المعزولة ، أما الآن فزنزانتي
تقع أمام باب السجن تقريباً و
أستطيع أن أرى كل خارج أو داخل
إلى هذا السجن ، و يبدو أنني
سأسمع أيضاً صرخات كل السجناء
أثناء التحقيق ، لا أدري لماذا
أحسست أن هذا الصوت المعذّب
الذي يصل إلى مسامعي من غرف
التحقيق هو صوت المقدم نبيل ،
فهم لم يفتحوا زنزانة أخرى -
ليخرجوا منها سجيناً - غير
زنزانتنا ، و لا أظن أن المعذّب
من دفعة جديدة قدمت إلى السجن في
هذا الوقت المبكر ، فعادة ما يتم
تسلم الدفعة و توزيعها على
الزنازين قبل البدء بالتحقيق
معها ، و شيئاً فشيئاً بدأت
أتيقن أن هذا الصوت ما هو إلا
صوت صديق أخي أحمد الذي كان معي
يكلمني و يشرح لي عن مأساته و
مأساة الوطن قبل قليل ، و لكن
لماذا عادوا لتعذيبه و التحقيق
معه بعد أن وعدوه أن يكفوا عن
ذلك و يمكّنوا أهله من زيارته و
يحسّنوا وضعه بعد أكثر من ستة
أشهر من العذاب و التحقيق ؟ ، هل
يا ترى سألوه عني ؟ و هل سألوه إن
تمكن من إقناعي بالاعتراف أم لا
؟ هل دافع عني فعادوا إلى تعذيبه
؟، لم أستطع أن أجد جواباً و
بقيت في حيرتي و ترددي و أنا
أدعوا الله أن يخفف عنه و يصبّره
.
و يبدو أن سلطان
النوم قد سرقني بعض الوقت
فاستسلمت له من شدة تعبي و نعسي
، و لم أصحو إلا على صوت باب
السجن و هو يفتح ؛ فأسرعت إلى شق
الباب لأرى من الداخل ؛ فإذا به
السجان سهيل يسحب المقدم نبيل –
الممزق الثياب و الملطخ بدمائه -
من كتفه ، عدت إلى حائطي و
استندت عليه - بينما كان سهيل
يقوم بتحرير يديّ نبيل من
قيودهما و عينيه من عصابتهما -
خشية أن يفتح سهيل باب الزنزانة
و يراني و أنا أراقبهما من خلال
شق الباب ، لكن سهيل لم يفتح باب
زنزانتي ، و إنما دخل بنبيل نحو
الجهة الأخرى من السجن ؛ هناك
حيث كانت زنزانتي القديمة ، و
سمعت باب زنزانة يفتح و صوت سهيل
يصرخ بنبيل أن يدخلها ، ثم سمعت
صوت أقدام سهيل تتجه نحو
زنزانتي بعد أن أغلق باب زنزانة
نبيل .
يا الله ؛ ما أصعب
تلك اللحظات !! ، لا بد أنه قد جاء
ليأخذني ثانية إلى التحقيق ،
يبدو أنه قد جاء دوري ، و بينما
أنا خائف أترقب و أصغي إلى صوت
أقدام سهيل و هي تقترب من
زنزانتي ؛ وضع سهيل المفتاح في
قفل زنزانتي ، فخفق قلبي بسرعة ،
و بردت أطرافي ، و ارتعدت مفاصلي
، و تغير لوني ، و ارتجفت شفاهي
الشاحبة ، و أنا أدعوا في سري يا
الله أعني ، يا الله كن معي ، يا
الله ارحمني ، يا الله احمني من
هؤلاء المجرمين ، و تسمرت في
مكاني و أنا أسمع صوت سهيل يصرخ
بي :
- صرت هون ولاك ، مين
دعمك و جابك لهون ؟ ، طالع غراض
الكرّ الي كان معك برّه بسرعة . و
بدأت أجمع أغراض نبيل ؛ ثيابه ؛
بطانياته ؛ حافظات طعامه ؛ و
وضعتها جميعاً داخل بطانية ؛ و
قمت بربط أطرافها بعضها ببعض ، و
وضعتها على الدرجة الموجودة عند
باب الزنزانة . فصرخ سهيل من
جديد :
- شيلا و لحقني و لا .
حملت الصرة و سرت خلف سهيل في
السرداب بين الزنازين و الموجود
عن يمين زنزانتي . حتى صرخ بي
سهيل ثانية و هو يشير إلى إحدى
الزنازين :
- حطّا هون ولا و
ارجاع لزنزانتك و سكر الباب
عليك بسرعة . و ضعت الصرة على باب
زنزانة نبيل و عدت إلى زنزانتي و
أغلقت بابها ورائي . فتح سهيل
باب زنزانة نبيل و صرخ به :
- دخّل غراضك يا منـ...
. ثم أغلق باب زنزانة سهيل ، و
عاد نحو زنزانتي . يا الله ها قد
عاد ، يا الله احمني منه و من
أسياده القتلة ، و بينما أنا في
توجسي و ترقبي ، إذ وضع سهيل يده
على باب زنزانتي و دفع المزلاج
الحديدي و أغلق القفل ؛ و ابتعد
خارجاً من باب السجن و أنا
أتابعه بنظري . الحمد لله ها قد
ذهب ؛ قلت في سري و أنا أتنفس
الصعداء . و غلبني سلطان النوم
بعد كل هذا العذاب و العناء و
التعب فاستسلمت له بلا مقاومة .
و لم أصحُ إلى على مزلاج زنزانتي
و هو يفتح ؛ و سهيل يصرخ بي :
- تعال ولاك . فصحوت
من نومي العميق و قلبي يخفق في
جنبي بعنف ، وقفت على قدمي
المتورمتين بصعوبة و أنا أمسح
عينيّ بكفيّ و خرجت أسير وراء
سهيل إلى المجهول ، و عند باب
السجن وجدت حلتين ضخمتين
أحداهما في قاعها قليل من
اللبنة و الأخرى امتلأت حتى
نصفها بالشاي ، فعلمت أن الفطور
قد وصل ، فصرخ سهيل بي :
- شوف ولاك ؛ هنت هلق
سخرة ؛ بدك توزع هالفطور
عالعرصات ، كل زنزانة فيها عرص ؛
إلا هالمهجع فيه عشر حمير ؛ لم
القصعات و الكاسات من أبواب
الزنازين و وزع الفطور عليها ؛
تحرّك بسرعة ولا . قالها و هو
يشير إلى باب المهجع عن يمين باب
السجن .جمعت حوالي ثلاثين قصعة
من الألمنيوم و مثلها من أكواب
الألمنيوم إضافة لقصعتي المهجع
الكبيرتين ، كانت اللبنة لا
تتجاوز الكيلو و النصف إلا
قليلاً ، قمت بتوزيع ملعقة
صغيرة من اللبنة في كل قصعة إلا
في الكبيرة فوضعت عشر ملاعق ، و
وزعت الشاي الذي تنبعث منه
رائحة الكافور الكريهة على
الأكواب فكانت حصة كل شخص نصف
كوب ، و وزعت قطعة من الخبز
العسكري السميك و اليابس و
المنتفخ بالعجين لكل سجين ، و
عندما وضعت حصة المقدم نبيل
أمام زنزانته كان ما يزال يئن و
يتأوه من الألم ؛ ثم أخذت حصتي و
دخلت بها زنزانتي و أغلقت الباب
خلفي ، و استندت ثانية إلى
الحائط و استسلمت للنوم من جديد
و لم أصحو إلا على صوت سهيل
ثانية و هو يفتح الباب علي و
يقول :
- تعال ورايي ولا .
سرت خلفه خائفاً مضطرباً ؛ لكنه
لم يضع الأغلال في يديّ هذه
المرة ، و لا العصابة على عينيّ
أيضاً ، و خرجنا من باب السجن ، و
دخلنا غرفة صغيرة عن يمين باب
السجن ؛ و قبل الدرج الذي كنا
نصعده لغرف التحقيق مباشرة، كنت
قد دخلت هذه الغرفة مرة واحدة
يوم اعتقالي ، يوم سلمت أماناتي
( هويتي ؛ ساعتي ؛ أوراقي ؛ محفظة
نقودي ؛ أربطة حذائي ، زنار
بنطالي ) و دوّنوا فيها ذاتيتي ؛
قبل أن يأخذوني إلى زنزانتي
القديمة ، وهناك كان مساعد أول
يجلس خلف طاولة مكتب حديدية
متسخة و صدئة ، فقال لي : اقعد
قدامي . فجلست على كرسي من
الخيزران أمامه ، فقال لي : هنت
هلق سخرة للسجن ، بتوزع الفطور و
الغدا و العشا ، و بتخدم السجن
جوّا ، شو بقلولك الشباب بتنفز ؛
المقدم وصّانا فيك ، هوه مسافر
يومين و برجع بدوا يقابلك بس
يرجع ، ما بدي اسمع مشاكل ها .
يالله انقلع عزنزانتك بسرعة . و
عدت إلى زنزانتي من جديد و أنا
أفكر بكلام هذا المساعد الغريب
، و أتسأل في نفسي : ماذا يريد
مني المقدم ؟ لماذا وصّاهم بي ؟
هل سيطلب مني التعامل معهم كما
طلب من المقدم نبيل قبل ذلك ؟ يا
الله ؛ كلما خرجت من مشكلة وقعت
بأصعب منها ، متى سيفرج الله عني
من هذا السجن الرهيب ؟
-------------------
لقاء
لا أنساه..في أقبية السجون-8
د.هشـام
الشامـي
كان كلام مساعد
الذاتية الأخير لي لا يغيب عن
ذهني لحظة واحدة ؛ و بت أنتظر
لقاء المقدم المرتقب معي بحذر و
خوف و توجس من المجهول المنتظر ،
و تتالت الأيام علي و أنا أترقب
هذا اللقاء ، و أعمل في خدمة
السجناء بالسخرة ، هذه التجربة
الجديدة لي داخل السجن جعلتني
أتعرف على كل السجناء داخل هذا
القبو ، و جعلتني أتحيّن فرص عدم
وجود السجّانين للتكلم مع
السجناء و السؤال عن أخبارهم و
أسمائهم و تهمهم ، كما كنت أقوم
بنقل الأخبار من سجين إلى آخر ،
و ربما الدواء أو بعض الطعام و
الثياب أحياناً ، و قد كان عدد
السجناء في الزنازين يتراوح بين
ثلاثين و أربعين سجيناً ، بينما
يتم تجميع السجناء الذين انتهى
التحقيق معهم و أصبحوا جاهزين
للتحويل إلى السجن السياسي
الوحيد في تلك الأيام و الذي كان
بعد امتلاء سجن المزة العسكري
في دمشق ما زال يستقبل ( من فروع
المخابرات العديدة ) و يودع ( إلى
الدار الآخرة فقط بالإعدام أو
بالموت مرضاً أو جوعاً أو تحت
التعذيب ) و هو سجن تدمر
الصحراوي في غرفة صغيرة تدعى (
مهجع التجميع ) ؛ و الموجود إلى
يمين الخارج من باب السجن قبل
الباب الحديدي الخارجي مباشرة ؛
حتى إذا ما وصل عدد النزلاء فيه
ما بين عشر إلى عشرين يتم
تحويلهم إلى سجن تدمر المخيف ، و
كان المقدم نبيل في تلك الأيام
في أسوأ حالاته نتيجة تعرضه
للتعذيب اليومي المستمر ، و
حاولت مراراً في اليومين
الأولين أن أتكلم معه لكنه كان
يرفض الكلام ، ربما خيفة و حذراً
، لكنني في اليوم الثالث ألقيت
السلام عليه أثناء توزيع الغداء
مع العشاء ( كانا يصلان معاً رز
أو برغل مع مرق البندورة للغداء
؛ و شوربة أو بطاطا مسلوقة أو
بيض مسلوق للعشاء ) و قلت له : أنا
هشام أخو الشهيد أحمد ، فرد عليّ
قائلاً : شو عمتشتغل سخرة ، فقلت
: نعم ، فقال : هل حققوا معك ثانية
؟ . فقلت : لا . فقال : دير بالك ترى
عرفوا كلشي حكينا مع بعض ؛ إذا
سألوك قول الي حصل بالحرف و لا
تغير الكلام ترى كلوا مسجل عندن
. و سمعت صوت السجان فابتعدت عن
باب الزنزانة ؛ و تابعت توزيع
الطعام ، و في أحاديث أخرى معه
قال لي : لقد حقدوا عليّ أكثر من
ذي قبل ؛ و لست أرى مخرجاً لي من
هذا المكان ؛ و أحس أن نهايتي
هنا ؛ و لكن الوضع بالنسبة لك
مختلف ؛ فقد اقتنعوا أن مساعد
الكلية الجوية قد افترى عليك ؛ و
سمعوا إدانتك لعملية مدرسة
المدفعية ؛ و عدم وجود أية علاقة
لك بأحد ؛ و ربما سينظرون لحداثة
سنك ؛ و أسأل الله أن يفرجوا عنك
؛ و في حال حصل هذا فلا تنساني من
دعائك ؛ و أحملك أمانة أن تخبر
أهلي عن وضعي ؛ و أن تسلم لي
عليهم ؛ و لا تنسَ أن تسلم لي على
أهلك و خاصة على أبيك الكريم و
أمك الطيبة ؛ و توصي زوجتي
بأولادي ؛ و خاصة من ناحية
متابعة تعليمهم ؛ و لا تنس أن
تقول لولديّ سمر و سمير : إن
أباكما يحبكما كثيراً ؛ و لا ذنب
له بفراقكما ؛ و وصيته لكما أن
تهتما بأنفسكما و بأمكما و
تعليمكما و تحققا له ما كان يريد
منكما .
لقد كانت النسبة
العظمى من السجناء داخل هذا
السجن بتهم إسلامية ؛ سواء من
الأخوان أو من المحسوبين عليهم
؛ فهذا الطيار اعتقل لأنه كان
يصلي في قاعدته ؛ و هذا الفني
كان يصوم ؛ و هذا كان ينتقد
مجزرة حماة ؛ و ذاك له أخ طيار
فار خارج القطر ؛ و لم يكن جميع
السجناء من القوات الجوية ، بل
كان هناك معتقلون مدنيون ليس
لهم علاقة بالجيش و الطيران
أبداً ؛ فمثلاً كان هناك نقيب
طيار من دير الزور و مدرس من
السويداء بتهمة بعث يميني ( أو
ما يسمونه بعث عراقي ) ، و طالب
حقوق من ريف اللاذقية بتهمة
الانتماء لحزب العمل الشيوعي (
كانوا يطلقون عليهم جماعة رياض
الترك و ذكر لي هذا الطالب أن
ثلاثة من أخوته اعتقلوا قبله
منهم أخته التي كانت تدرس الأدب
الإنكليزي ) ، و هناك ثلاثة
فلسطينيين اثنان بتهمة فتح ( و
يسمونهم الزمرة العرفاتية ،
أحدهما كان رائداً بتنظيم فتح و
قد اعتقل عدة مرات عند
الإسرائيليين ؛ و كان يقول
بالحرف الواحد : ما أحلى سجن
اليهود جمب هدول ) و الأخر من
الجبهة العربية لتحرير فلسطين (
التابعة للعراق ) و لبنانيان
واحد بتهمة كتائبي و أخر بتهمة
توحيد إسلامي ( من طرابلس ) ، و
البقية كانوا محسوبين على
الأخوان المسلمين ، و أكثر ما
أثر بي في تلك الفترة تلك
العائلة من جبل الزاوية و
المؤلفة من أم و ابن و ابنتان و
الذين تم اعتقالهم أثناء هربهم
خارج القطر على الحدود العراقية
، و ذلك بعد أن قتلوا اثنان من
أبنائها في قريتها ، و فرت بمن
بقي من أبنائها لتلحق بزوجها
الهارب خارج القطر ، فاصطادوهم
جميعاً ، و وزعوهم على أربعة
زنازين في هذا السجن المظلم ، و
قد كانت الأم لا تفتر عن الدعاء
على الأعرابي الدليل الذي أخذ
كل ما معها من النقود ليساعدهم
على الهرب لكنه خانهم و سلمهم
ليأخذ من الأمن ثمن خيانته و
نذالته ، و قد كانت قصة هذه
الأسرة مأساوية بحق ، و خصوصاً
عندما كان أحد السجانين الأنذال
؛ يحاول الاعتداء على إحدى
الفتاتين الصغيرتين ؛ فتصرخ
بقوة : يا أمي ؛ يا أمي ؛ خلصيني
منو . فتصرخ أمها معها ؛ و تصرخ
أختها و كذلك أخوها ؛ و يصرخ
أكثر المساجين معهم ؛ و لا
يزالون يصرخون و يدعون عليه و
يشتمونه حتى يتراجع عن السجينة
المغلوبة على أمرها و يهرب خشية
أن يسمعهم أحد ؛ ثم يعود بعد أن
يهدأ الوضع ليفتح الباب على
السيدة العجوز المريضة ؛ و يقوم
بضربها و شتمها بلؤم بحجة أنه
سمعها و هي تتكلم مع أبنائها
بصوت عالٍ ؛ أو يفتري عليها فرية
أخرى جاهزة .
و بعد أكثر من أسبوع
من الانتظار و الترقب الحذر
استدعاني المقدم أخيراً ، و بعد
أن دخلت عليه مكبل اليدين
بالأغلال و العصابة على عيني ؛
صرخ بأبي كنان : - شلوا الطميشة و
الكلابيج و طلاع برى . فحرر أبو
كنان يدي من القيود و رفع
العصابة عن عيني و خرج . فخاطبني
المقدم : قعود ياشوف . فجلست على
كرسي أمامه . فسألني : منين جبناك
. فأجبته : من نادي الضباط . فقال
لي : بعرف ؛ شو كنت عما تساوي
هنيك . فقلت له : كنت عم ساوي فحص
للانتساب للكلية الجوية . فقال
لي : شوف بدك تقلي كلشي دار بينك
و بين هالكلب نبيل شاهين . فقلت
له ما دار بيننا بالتفصيل .
فشعرت أنه صدقني ؛ و لم يدرِ
أنني أعرف أنهم قد سمعوا كل
كلامنا و سجلوه . فقال لي : شوف ؛
هنت بعدك شب بأول عمرك ؛ و أمامك
مستقبل ؛ بدي جربك كم يوم ؛ إذا
أثبت حسن نيتك ؛ بدي جبلك أهلك
زيارة ؛ و بس نسيت كلشي شفتو
بهالسجن و حسيتك بدك تطلع و تبدا
بدايه جديدة و تكون مواطن صالح
بهالوطن رح طالعك فوراً ؛ بدي
اياك تنسى هالشهرين تلاته إلي
قضيتم معانا نهائي ؛ روح يا أخي
دخول كلية طب ؛ مجموعك كيس و
الوطن بحاجة لأطباء ؛ شو رأيك ؟
!.
فقلت له : فعلاً ؛ رح
ادخل طب أو هندسة و حقق أمنية
أبي و أمي ؛ أصلاً أهلي ما كانوا
راضيين أدخل بالجيش نهائي ؛ لسه
ما نسيو جرح أخي أحمد بعد .
فقال : طيب يالله
روح يشوفك رجاع عزنزانتك ؛ و حضر
حالك لنخلي سبيلك ؛ ترى أنا
خدمتك خدمة العمر ؛ ترى ما حدى
بدخل هون بيطلع ها . و صرخ بأبي
كنان ليعيدني إلى السجن ؛ و أنا
أقول له بفرح لا يوصف و كأنني لا
أصدق ما أسمع : الله يكتر خيرك ؛
الله يكتر خيرك ....
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|