فَساد
الفرد يؤذي .. وفَساد الرمز
يدمّر!
عبدالله
القحطاني
• الفرد
العادي ، قد يرتكب معصية ، أو
خطيئة ، أو جريمة ، يؤذي بها
نفسه ، وبعضَ مَن حولَه ، مِن
أهل ، أو جيران ، أو أقارب ، أو
أصدقاء، أو غرباء ..في المجتمع
الذي يعيش فيه. وجرائم الأفراد
العاديين معروفة، محصورة في
أنماط معيّنة من السلوك ، وفقَ
التصنيفات القانونية
والاجتماعية . فهي لا تعدو
كونَها جريمةَ سرقة ، أو قتل ،
أو اغتصاب ، أو تزوير، أو تهريب ,
أو انتحال شخصية ، أو اقتناء
سلاح بلا رخصة ، أو مخالفات
مرورية ، أو نحو ذلك .. ممّا
صنّفه رجال القانون في قائمة
الجرائم..! وقد تكون جريمةَ زِنى
، أو ميسِر، أو سكر ( في
المجتمعات التي تعدّ هذه
الأفعال جرائم!). وقد يرتكب
الفرد الواحد ، جريمتين أو
أكثر، في وقت واحد ، أو أوقات
متقاربة ، أو متباعدة . وقد صنّف
رجال القانون ، الجرائمَ
الفردية ، ثلاثةَ أصناف ، هي :
الجنايات ، والجنَح،
والمخالفات .. ووضعوا لكل صنف
منها ، ما يناسبه من العقوبات ،
المخفّفة والمشدّدة، حسب نوع
الجريمة ، وظروفها ، وطبيعة
مرتكبها. وتظلّ جرائم الفرد،
مهما كثرت وتنوّعت ، واشتدّ
خطرها وضررها ، محصورةً في إطار
معيّن ، لا تكاد تجاوزه ، حتى لو
قتَل الفرد مئة نفس ، أو مئتين ،
أو ألفاً، وحتى لو سرق مئات
الملايين ، من أموال الناس..!
•
أمّا جريمة الرمز ، سواء
أكان رمزاً سياسياً ، أم دينياً
، أم ثقافياً ، أم اجتماعياً.. (إذا
كانت في الإطار الذي يَبني عليه
رمزيتَه ، ويَستمدّ منه قيمة
هذه الرمزية) فهي كارثة حقيقية ،
على الشعب والوطن ، والأجيال
القادمة! ذلك أن هذه الرموز،
وضِعت في مواقع القيادة
والرعاية للأمّة ، فما تَنتظر
هذه الأمّة ، مِن قادتها
ورعاتها ، إلاّ النفع والخير
والصلاح ! فإن بادَروها بالغشّ
والفساد والإفساد ، كانوا سبب
ضياعها ودمارها ، وكانت أوزارهم
أثقل من أوزار الآخرين من أفراد
الأمّة .
والأمثلة الحيّة ، من جرائم
الرموز، التي نراها أمامنا كل
يوم ، صباحَ مساءَ، أكثر من أن
تحصى !
1) السياسي
الدجّال ، الذي يتاجر بالشعارات
، ويضلّل الأمّة ، ويقودها من
إخفاق إلى ضعف ، إلى هزيمة ، إلى
مصيبة ، إلى نكبة .. فيدمّر وطناً
ويهلك شعباً.. هذا السياسي بأيّ
مقياس يقاس ، بين أصناف
المجرمين، وبأيّ ميزان توزن
جرائمه ، بين الجرائم !؟ أيّ
قاتل محترف ، أو لصّ خطير، أو
مزوّر متمرّس ، أو مغتصِب دنيء ..
يَرقى إلى مستوى إجرام هذا
السياسي الخبيث !؟ وأيّة مومِس ،
أو بَغيّ ، تصل في سلوكها
الإجرامي الرخيص ، إلى مستوى
هذا السياسي!؟
2) الرجل
المعمّم ، الذي يَثقَف شيئاً من
علوم الدين ، ويتزيّى بزيّ عالم
الدين، ثم يبيع دينَه ، بعرَض
مِن الدنيا يسير، أو يبيع دينه
بدنيا غيرِه ، فيفتي للحاكم ،
بما يمليه عليه الحاكم ، مِن
فتاوى تضلّل الناس ، وتزيّف
عليهم أمورَ دينهم ودنياهم ..
ويَخطب على المنابر، في بيوت
الله ، مزيّناً سلوك الحاكم
الظالم الفاسد ، ومقدّماً له
شهادات البراءة ، والطهارة ،
والنقاء، والعبقرية ، والتقى ،
والصلاح .. ليلتفّ الناس حول هذا
الحاكم ، ويسبّحوا بحمده ،وهو
أكذبُ مِن مسيلمةَ المتنبّئ
الدجّال ، وأخبث من شيطان رجيم!
عالِم الدين الدجّال الرخيص
هذا، بأيّ ميزان يوزَن ، مِن
موازين المجرمين المحترفين !؟
وأيّ سمسارِ أعراضٍ نذل ، يصل
أذاه ، إلى عشْرِ مِعشار الأذى ،
الذي يلحِقه هذا المعمّم
الأفاك، بشعبه ووطنه ، وأجيال
أمّته اللاحقة !؟ وأيّة فاجرة ،
مِن بغايا الدنيا كلها ،على
امتداد الزمان والمكان ، يمكن
أن تؤذي أمّة ، أو شعباً ، أو
وطناً ، بعُشْر ما يسبّبه هذا
المجرم ، للناس والأوطان ، باسم
الدين ..!؟
3) المفكّر
المثقّف ، الذي يضع النظريات
الضالّة المضلّة ، التي يزيّف
بها وعيَ الناس ، ويخدع عقولهم ،
ويصوّر لهم زيفَ الحاكم الفاسد
المجرم، هدىً وصلاحاً ، وعبقرية
، وإخلاصاً ووطنية فوق مستوى
الشبهات ..! وهو يعلم أن الحاكم
لصّ محترف ، خائن لشعبه ووطنه ،
يبيع البلاد ومَن عليها ، وما
عليها ، بيوم واحد يجلس فيه على
كرسي الحكم ، أو بحفنة من
الدولارات ، يودعها في
البنوك الأجنبية ، أو يصرفها
على بعض الليالي الحمراء ، في
أوكار الرذيلة ..! هذا المفكّر
المثقّف ( الكاتب، أو الأديب ،
أو الإعلامي ) أين يوضَع في
سِجلّ المجرمين المحترفين:
اللصوص ، ومهرّبي المخدرات ،
والبغايا ، وتجّار الأجساد
الرخيصة ، والقتلة ، والمزوّرين
..!؟ ولو جمِعت جرائمهم كلها ،
فإنها لا تَعدل سطراً واحداً ،
في سجلّ إجرامه الأسود الدنيء !
ونكتفي بهذه النماذج ، في هذا
المجال ، فهي تدلّ على النماذج
الأخرى، الواقعة في سياقها ،
وتغني عنها !
• المجرم
العادي ، تنقطع جرائمه بموته .
وإن بقيتْ لها تداعيات معيّنة ،
فهي محدودة ، ولا تلبث أن تتضاءل
مع الزمن ، وتضمحلّ ، وتتلاشى ..!
أمّا المجرم الرمز، الذي يرتكب
جرائمه بحقّ وطنه وشعبه وأمّته
، فإن جرائمه لا تنتهي بموته ،
لأنها مدوّنة في عقول الناس
وقلوبهم ، فساداً وضلالاً ،
يورثها الآباء للأبناء ،
ويعلّمها المربون والمعلمون ،
لِمن يتولّون تربيتهم وتعليمهم
. وهي محفوظة في كتب وصحف وأشرطة
، تؤتي أكلَها الفاسد في كل حين
، وتداعياتُها الفتّاكة
المدمّرة لا حصرَ لها..! وإذا
لقوا ربّهم ، حاسَبهم على
ضلالهم ، وضلال مَن يضِلونهم من
الخلق ، على مرّ السنين . قال
رسول الله (ص) : (مَن سَنّ سنّة
حسنة ، فله أجرها وأجر مَن عَمل
بها ، إلى يوم القيامة . ومَن
سَنّ سنّة سيّئة ، فعليه وزرها ،
ووزر مَن عَمل بها ، إلى يوم
القيامة) .
• وغنيّ
عن البيان ، أن الجريمة التي
يرتكبها الرمز ، بصفته فرداً
عادياً ، لا صلة لها برمزيته ،
أو موقع التوجيه ، أو الرأي ، أو
القرار، الذي هو فيه .. أن هذه
الجريمة ، لا تخرج عن كونها
جريمة عادية ، يحاسَب عليها كما
يحاسَب سائر المجرمين ! وإن كانت
الجرائم العادية ، ممّن كان في
موقع القدوة ، تؤثّر سلباً في
نفوس الناس ، وتقلّل مِن ثقتهم
بالقدوة، وبالأفكار والمبادئ
التي يحملها !
• ومعلوم
، كذلك ، أن الضرر الذي تسبّبه
جريمة الرمز ، يزداد شدّة
وخطراً، كلما ارتفع مقامه ،
وعلا منصبه ، واتّسعت دائرة
شهرته بين الناس..! فجريمة رئيس
الدولة ، أعظم خطراً ، وأشدّ
ضرراً ، من جريمة أحد وزرائه ..
وجريمة الوزير ، أخطر من جريمة
موظّف في وزارته ! وكذلك الأمر،
فيما يخصّ الرموز المحسوبة على
الدين ؛ فجريمة المفتي العامّ
في البلاد ، أشدّ وأخطر تأثيراً
وضرراً ، من جريمة عالِم صغير،
في مدينة أو قرية ..! وبين الأعلى
والأدنى درجات ، يحمل صاحب كل
درجة منها ، من الوزر ، ما يناسب
درجته . والأمر ذاته ، ينسحب على
العاملين في مجال الثقافة
والأدب ، والتفكير والتنظير ،
والإعلام ، وصناعةِ الكلام
عامّة .. وتسويقِه بين الناس ،
ليسهِم في توجيه عقولهم ،
ومواقفهم، وتصرفاتهم..!
ولقد رويَ عن رسول الله (ص) ، أنه
قال: ( ربَّ كلمة يلقي بها الرجل
لا يلقي لها بالاً ، يهوي بها في
جهنّم سبعين خريفاً !). أمّا إذا
قال الكلمة ذاتَها، وأخبثَ منها
، عامداً متعمّداً ، ليضلّ بها
الناس ، لقاءَ منصب ، أو مال ، أو
جاه ، أو شهرة ، أو رضىً مِن
سيّده الحاكم ومَن في فَلكه ..
فإن ثِقل وزره ، عند الله ، ممّا
لا يحتاج إلى بيان ، قياساً إلى
الكلمة العابرة التي لا يلقَى
لها بال . كما أن حقّ الناس عنده
في الدنيا ، ممّا يَصعب التسامح
به ، أو العفو عنه ..! (ولكلّ أجلٍ
كِتاب) .
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|