لعبة
السياسة في سورية :
بين
صراع القوى وصراع الإرادات !
عبدالله
القحطاني
* لابدّ من الاعتراف ، بدايةً ،
بأن سورية ليس فيها سياسة ، ولا
لعبة سياسية ، بالمعنى المتعارف
عليه بين الناس الذين يفهمون
السياسة ، أو ثَقفوا شيئا من
معانيها..! فقد عَطّل حزب البعث
السياسة ، منذ بداية استلامه
للسلطة بانقلاب عسكري ، عام /1963/
، ونصّب نفسه قائداً للدولة
والمجتمع ! ممّا يعني ، بالضرورة
، أن مواطني سورية جميعاً ، تَبع
له، خاضعون لحكمه ، ملتزمون بما
يأمر به ، في أيّ شأن من شؤون
البلاد، السياسية منها وغير
السياسية . وهذا يعني ، بالضرورة
، أيضاً ، أن لا أحزابَ في
البلاد سوى البعث ، ولا منافسات
سياسية ، ولا خصومات سياسية ،
بين أصحاب الأفكار السياسية
المختلفة .. لأن مَن يفكّر
بإبداء رأي سياسي مخالف للبعث ،
يعَدّ مجرماً ، ويحاكَم في
محاكم أمن الدولة ، بأخطر التهم
، وهي تهمة : السعي إلى إسقاط
الحكم القائم ، وتعطيل مسيرة
الثورة.. وقد ينفّذ بحقّه حكم
الإعدام ..! وهكذا حوّل (الرفاق)
مواطنيهم ، أصحابَ الأفكار
المخالفة لفكر البعث ، مِن خصوم
فكريين ، إلى أعداء حقيقيين
مجرمين ، يستحقّون السجن ، أو
الموت ! فصار البعث عدواً
للمجتمع كله ، لأنه جعل المجتمع
كله عدواً له ، بسائر شرائحه
وفئاته ، وتوجّهاته السياسية
والاجتماعية والثقافية ! وما
نعلم أحداً في الدنيا ، يَعدّ
هذا الطراز من التفكير والسلوك
سياسةً ، أو شيئاً يشبه السياسة
! بل حتى الرفاق الذين يختلفون
أحياناً فيما بينهم ، حول بعض
المسائل ، يصفّي بعضهم بعضاً ؛
الأقوى يصفّي الأضعف ، ثم
يتّهمه بالانحراف عن خطّ البعث
، وبالخيانة العظمى ! وقد حصلت
تصفيات كثيرة ، داخلَ الحزب،
قبل أن تصل البلاد ، إلى حكم
الأسرة الواحدة ، الحاكمة اليوم
!
* عبرَ التصفيات المستمرّة بين
الرفاق ، خرجَ الحزب من السلطة ،
ومن السياسة ، لحساب الطائفة ..
ثم استمرّت التصفيات ضمن
الطائفة ، حتى خرجت من السلطة ،
ومن السياسة، لحساب الأسرة
الحاكمة ، التي ما تزال تحكم
باسم الطائفة ، محصّنةً نفسَها
بميليشيات طائفية لا صلة لها
بالقرار، ولا بالسلطة ، ولا
بالسياسة ! والمنفعة الفردية
التي يحقّقها الضابط أو الجندي
، في هذه الميليشيات ، لا تعني ،
ألبتّة ، أن للطائفة صلة
بقرارات الدولة ، التي تستأثر
بها أسرة مكوّنة من خمسة أشخاص ،
هم ثلاثة رجال وامرأتان ، كما
صار معلوماً لكل متابع للشأن
السوري ! وحول هؤلاء الخمسة ،
أسرتان أو ثلاث ، من الأقارب
والأصهار الممسكين باقتصاد
البلاد ، والذين يجسّدون الصورة
البشعة لأباطرة المال والأعمال
، اللصوص ، حديثي النعمة ! ولا
نحسب أسماء أفراد الأسرة
الحاكمة ، غائبة عن ذهن أيّ فرد
من أبناء الشعب السوري ، بلْهَ
أبناء الطائفة التي تَحكم هذه
الأسرة البلادَ باسمها ..! إنها
مجموعة الخمسة ( بشار، وماهر،
وآصف ، وأنيسة ، وبشرى). كما لا
نحسب أن أسرة مخلوف ، وأسرة
شاليش ، من الأسماء المجهولة
لدى أبناء الطائفة خاصّة ،
وأبناء سورية عامّة .
والمتابعون لحركة انتقال
السلطة في سورية ، يتذكّرون
جيّداً ، أسماء الأسر التي كانت
مشاركة في السلطة بقوّة وفعالية
، مِن أسَر الطائفة ، عبر قيادات
عسكرية وأمنية بارزة، وشخصيات
سياسية نافذة .. ثم اختفت هذه
الأسر كلها ، باختفاء رموزها من
ساحة القرار، بل حتى من ساحة
الرأي والمشورة ! وأساليب
اختفائها ـ أو إخفائها ـ معروفة
، محصورة في حالات معيّنة ، هي :
القتل .. الحبس .. النفي .. الإقامة
الجبرية .. التسريح من العمل !
وما نحسب تعداد الأسماء يضيف
جديداً ، إلى ذاكرة أبناء الشعب
السوري عامّة ، وأبناء الطائفة
خاصّة ! وحسبنا أن نذكر بعض
الشخصيات البارزة ، التي اختفت
ـ أو أخفيت ـ من الساحة، وبعضُها
شخصيات ذات وزن في تاريخ سورية
الحديث ، مثل : محمد عمران،
وصلاح جديد ، وغازي كنعان ..! وقد
مات هؤلاء الثلاثة .. اثنان
قَتلاً، وواحد في السجن، هو
صلاح جديد. أمّا الشخصيات
الأمنية والعسكرية ، التي ظلت
عشرات السنين ، تمسك بالقرار
العسكري ، والقرار الأمني ، في
البلاد ، وتتحكّم مِن خلالهما ،
بالبلاد كلها.. أمّا هذه
الشخصيات ، التي ما يزال أكثرها
على قيد الحياة ، فهي كثيرة
ومعروفة كذلك ، ومعروفة قيمتها
الحالية لدى الأسرة المتفرّدة
بصناعة القرار السوري ! ومَن بقي
في عمله ، من شخصيات الصفّ
الثاني ، مِن قادة الأجهزة
الأمنية ، وقادة الفرق العسكرية
، فهم مجرّد موظفين لدى الأسرة
الحاكمة ، لا صلة لأيّ منهم ،
بأيّ قرار من قرارات الدولة ،
على أيّ مستوى كان !
* فإذا كان حزب البعث ، الذي احتكر
السياسة ( دستوريّا!) منذ
استلامه للسلطة ، قد أخرِج من
السياسة .. وإذا كانت الطائفة ،
التي أخرِج الحزب من السياسة
لحسابها ، وصارت البلاد تحكَم
باسمها.. قد أخرِجت من السياسة ..
وإذا كانت (سلَطَة) الأحزاب
المتآكلة ، المسمّاة: (الجبهة
التقدمية!) ، مجرّد حفنة من
المصفّقين لصانع القرار الأعلى
، المتحلّقين حول فتات مائدته ،
دون أيّة قيمة ، أو وزن ، لأيّ
منهم .. وإذا كان النواب ، أعضاء
مجلس الشعب المسمّى ( سلطة
تشريعية !) ، المعيّنين ، بالاسم
، في اللوائح التي تضعها أجهزة
المخابرات، لتنتخبهم ( الجماهير!)
.. مجموعةً من المصفّقين ،
والراقصين في حفلات التهريج ،
التي تقام لتأييد السيد الرئيس
، لتفديه بالروح والدم ـ وهي
المجموعة التي يختارها
المواطنون ، لتختار رئيس الدولة
والوزراء ، وتحاسبهم ، وتعزلهم
إذا اقتضى الأمر! ـ .. وإذا كان
الوزراء حفنة من الموظّفين ، لا
سلطة لأحدهم في تعيين حاجب في
مكتبه ، إلاّ بموافقة أجهزة
المخابرات... فماذا بقي من
السياسة في سورية ..!؟
* بقي
الشعب بمعارضاته المختلفة :
ويمكن القول ببساطة : بقيت
السياسة المعطّلة(بالحبس،
والنفي ، والقمع ..!) .. إنها سياسة
حقيقية ، لكنها الآن سياسة
بالقوّة ـ كما يقول الفلاسفة ـ
تكافح لتصبح سياسة بالفعل .. لكن
متى !؟ وكيف !؟
* أمّا السؤال (متى!) ، فنزعم أن
إجابته ولِدت بميلاد (إعلان
دمشق) ! دون أن نتحدّث هنا، عمّا
إذا كان المولود قوياً أم
ضعيفاً ، كاملَ البنية ، أم
ناقصاً ، أم مشوّهاً ! إنه مولود
سياسي حقيقي ، بشخصيته
الاعتبارية أولاً ، ثم بشخصيات
بعض عناصره الفاعلة ، المتحركة
الجريئة ، المستعدّة للعيش في
السجن سنين طويلة ، لقاء قولة (لا)
للأسرة الحاكمة ، ولأجهزتها
القمعيّة..!
أمّا
وجود عناصر من طينة أخرى ، في
هذا الإعلان ، تَحسَب المعارضة
السياسية مجرّد حَذلقات لفظية ،
تتوجّه بها مرّة إلى السلطة
الحاكمة ، ومرّات إلى قوى
المعارضة ، بحجّة تصحيح مسيرة
المعارضة أو تقويتها ، فما
تزيدها إلاّ ضعفاً أو خَبالاً ..
أمّا وجود هذه العناصر، في
إعلان دمشق ، فليس مستغرباً ؛ بل
هو أمر طبيعي ، مادام مؤسسو هذا
الإعلان لم يَشترطوا وجود أخلاق
فردية أو سياسية معينة ، لدى
المنضمّين إليه ، أو الذين
ينوون الانضمام إليه لاحقاً !
بَيدَ أن صِمام الأمان الأساسي
، في الإعلان ، هو غلبة العناصر
الجادّة المخلصة فيه ، التي
تجيد التفرقة ، بين النقد
البنّاء بهدف التصحيح أو
التقوية ، والنقد الهدّام الذي
يضعِف قوّة المعارضة ، عن قصد أو
غير قصد..!
* والشقّ
الثاني ، من الإجابة على سؤال (متى؟)
، يتجلّى في ولادة جبهة الخلاص
الوطني! ويقال فيها ما قيل في
إعلان دمشق . وإن كان لكل منهما
طبيعته الخاصّة ، وظروف ولادته
الخاصّة !
* ما سَبق من الحديث عن ولادة
المعارضة ، إنّما يتعلق بزمن
الولادة، لا بكيفية هذه
الولادة؛ فما يهمّنا هنا ، هو
الحديث عن كيفية ممارسة القوى
المعارِضة ، لعملِها ، لاعن
كيفية ولادتها!
* كيفية الممارسة السياسية لقوى
المعارضة : الحديث عن هذا
العنصر، الذي هو بيت القصيد في
بحثنا هذا كله ، يقتضي النظر إلى
أمرين :
1- معرفة القوى والإرادات ، لدى
الفريقين المتصارعين ( السلطة
والمعارضة ).
2- كيفية إدارة الصراع بين
الفريقين ، من خلال التباين
الكبير في ميزان القوى من
ناحية، ومن خلال تباين الإرادات
، من ناحية ثانية .
* لبّ المسألة كلها ، يكمن في صراع
الإرادات ، الذي يشمل ،
بالضرورة ، جملة من المعارف
الأساسية ، مِن أهمّها :
- معرفة مَن تصارع.
- معرفة قواك ، وقوى خصمك ، الذي ـ
لا يراك إلاّ عدواً له ـ ! وهذه
القوى تشمل القوى الظاهرة
المستخدمة ، والقوى الكامنة (
ومنها: القوى الكامنة لدى كل
فريق بذاته ، وتلك الكامنة في
حقل العمل ، المشترك بين
الخصمين ، وهو الشعب).
- إن اختلال ميزان القوى المادية
، برجحانها بشكل كبير جداً إلى
جانب السلطة الحاكمة، تعوّضه
قوى أخرى موجودة لدى المعارضة ،
مِن أبرزها :
1) إيمان المعارضين بعدالة قضيتهم
، بشكل قويّ لا يقبل الجدال أو
الشك ! وهذا يقدّم حافزاً ضخماً
، بل لعله الأضخم بين الحوافز
التي تغذّي إرادة المجابهة
والتحدّي ! وهذه الميزة غير
موجودة لدى فريق السلطة الحاكمة
، التي تعلم يقيناً أنها تغتصب
حقوقاً ليست لها ، وأنها تمارس
أنواعاً من الظلم ، لو وقَعت
عليها ، هي نفسِها ، لحَركت
لديها نزعةَ الرفض والتحدّي
والمجابهة! فهي تعلم أن خصمها ـ
الذي تراه عدواً ـ على حقّ ،
وأنها على باطل ليست مستعدّة
لأن تضحي من أجله بشيء ، إذا
احتاج الصراع إلى تضحيات حقيقية
، تثبت لها بشكل قاطع ، أن خسائر
الاستئثار بحقوق الناس
المغتصَبة ، أكبر بكثير من
مكاسب هذا الاستئثار!
2) إحساس القوى المعارِضة ، بأن
الشعب بأكثريته معها ، ضدّ
السلطة . لأن السلطة نفسها، جعلت
من نفسها عدواً له ، فجعلته
بالضرورة عدواً لها ، بممارسات
شنيعة ، قلّ أن يَحتمل مثلها شعب
من الشعوب ! هذا الإحساس لدى
المعارضة ، يمنحها قوّة إضافية
كبيرة ، تدعم لديها إرادة
المجابهة والصراع .
3) الأخلاق الفردية لدى الكثيرين
من عناصر المعارضة ، ليست
موجودة لدى عناصر السلطة ، التي
أفسدها الظلم والبغي ، والسرقات
والرشاوى ، وحتى الخياناتُ
الوطنية ..!هذه الأخلاق عنصر
قوّة إضافي ، ينضمّ إلى قوّة
الإرادة ، لدى الفريق المعارض .
4) إذا عرفنا أن أيّ صراع بين
فريقين ، إنّما هو صراع إرادات
قبل كل شيء ، وأن القوى
المستخدمة فيه ماهي إلاّ وسائل
.. أدركنا كيف يمكن أن تتغلّب
إرادة الطرف الأضعف مادياً، على
إرادة الأقوى مادياً ! وبالتالي
، كيف أن الإرادة المتغلبة
المصمّمة ، تستطيع ، بالصبر
والتصميم والتضحية ، أن تحدث
تحولاً لمصلحتها ، في ميزان
القوى المادية ، بل أن تقهر
الخصم المتغلّب مادياً ، ببعض
القوى الموجودة لديه ، إذا عرفت
كيف تتعامل مع هذه القوى، بما
يناسب طرائق تفكيرها ، وبما
يحقّق شيئاً من مصالحها , التي
لا تتناقض مع المصالح الوطنية
العامّة !
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|