الانسحاب
الإسرائيلي في الميزان
د.
محمد الغزي
alguzzy@maktoob.com
الانسحاب
من قطاع غزة هو خطوة انفرادية
تقوم بها حكومة شارون بمعزل عن
الاتفاقيات التي تم عقدها بين
السلطة الوطنية الفلسطينية
والجانب الإسرائيلي، حتى أنه لم
يأت هذا الانسحاب ضمن خطة
الطريق التي رفض شارون العديد
من بنودها إلا تلك التي تنهي
الانتفاضة وتنزع سلاح المقاومة
الفلسطينية، لذلك فإن الانسحاب
هو عملية تكتيكية لا تضمن
استمرار تحرير قطاع غزة من
الاحتلال، لأن ذلك يخضع للظروف
المحلية والإقليمية والدولية
دون أي التزام من الطرف
الصهيوني.
بل
إن حكومة شارون أعلنت بشكل واضح
قرارها بالقيام بعمليات عسكرية
واجتياح للقطاع كلما دعت
الحاجة، وأعلنت أيضا أن أمن
المعابر والحدود سيظل كما هو
عليه الحال قبل الانسحاب. ولم
يتغير أي شيء من الناحية
الأمنية إلا إزالة الحواجز التي
كانت تقسم القطاع إلى عدة مناطق
منفصلة واستخدام تلك الحواجز
للاعتقال والاغتيال والعقاب
الجماعي، أما المستوطنات فقد تم
نقلها إلى مناطق فلسطينية محتلة
أخرى.
ويأتي
هذا الانسحاب في ظل ظروف من
انقسام فلسطيني حاد بين من يقبل
ويعمل على قيام دولة فلسطينية
بأي ثمن وبأي شكل وبين من يرى
بضرورة استمرار مشروع المقاومة
الذي جاء الانسحاب ثمرة وانجازا
له. فقد
أعلنت السلطة بشكل صريح أنها
سوف تسكت المقاومة مهما كان
الثمن الذي سوف يدفعه الشعب
الفلسطيني حتى لو وصل الأمر إلى
اقتتال داخلي وحرب أهلية،
فالسلطة تنظر إلى إقامة الدولة
الفلسطينية –حتى وإن كانت
مشوهة– على أنها وسيلة لأن تحصل
على الأموال الطائلة وتحظى
برضاء الأمريكيين والأوروبيين.
ويأتي
هذا الانسحاب أيضا في ظل تزايد
الفساد والاستغلال الذي تمارسه
الأجهزة الأمنية وبعض أفراد
وقيادات السلطة الفلسطينية،
فالمنطقة مقبلة لا محالة على
انتفاضة ثالثة يحل فيها الطرف
الرسمي الفلسطيني محل الاحتلال
في مواجهة الشعب المظلوم. وهذا
ما تتمناه حكومة شارون خاصة أن
قطاع غزة قد أصبح مخزنا للأسلحة
والمتفجرات وأن الشعب
الفلسطيني لديه القابلية
لاستخدام هذا المخزن في عملية
التدمير الذاتي، فالإحصائيات
تشير إلى أن عمليات القتل
واستخدام السلاح في الخلافات
العائلية وفي صراع الأجهزة
الأمنية في قطاع غزة بلغ 72 حادثا
خلال شهر يوليو/تموز من هذا
العام، وهو رقم قياسي مخيف.
لذلك
يجدر بنا الكف عن الحديث عن هذا
الانسحاب بطريقة عاطفية ممزوجة
بالفرح والانفعال والطقوس
الاحتفالية وكأنه إنجاز كبير
للشعب الفلسطيني، فالانسحاب
ليس خطوة معزولة عن المشروع
الصهيوني والخطط الأمريكية
المتعلقة بالشرق الأوسط.
وهو ليس حدثا عرضيا جاء
لتتخلص (إسرائيل) من مأزقها في
قطاع غزة، ولكنه يأتي في سياق
اتفاق الولايات المتحدة
والاتحاد الأوروبي وروسيا
والكيان الصهيوني وبعض الدول
العربية على إقامة دولة
فلسطينية حسب المقاس الصهيوني
والغربي، رغم أن هناك تفاوتا
بين الولايات المتحدة والاتحاد
الأوروبي في النظرة لتلك الدولة
وقابليتها للحياة.
ولابد
من النظر إلى هذا الانسحاب في
سياق ما يجري على الأرض
الفلسطينية والساحة الدولية،
فليس من الحكمة –على سبيل
المثال– أن يعد الملاكم
الضربات التي يوجهها إلى خصمه
دون أن يحسب الضربات التي
يتلقاها منه خلال المباراة.
فالمسألة تحتاج إلى حسابات
دقيقة وتقييم موضوعي لهذا
الانسحاب ضمن إطار مسيرة وأهداف
المشروع الفلسطيني للمقاومة
والتحرير وأيضا ضمن الإنجازات
التي يحققها المشروع الصهيوني
على أرض الواقع.
لقد
أقامت حكومة شارون –خلال
انتفاضة الأقصى– عشرات
المستوطنات في الضفة الغربية،
وأنشأت جدار الفصل العنصري الذي
ما زالت تستكمل شقه وبنائه،
وأقامت أشرطة حدودية وجدر على
حدود قطاع غزة لحفظ أمنها وضم
المزيد من الأراضي الفلسطينية،
وقامت بتغييرات جغرافية
وديموغرافية في محيط مدينة
القدس المحتلة ليصبح معها من
المستحيل كونها عاصمة لدولة
فلسطينية.
لقد
صرحت حكومة شارون وإدارة بوش أن
الانسحاب من قطاع غزة –الذي لا
تشكل مساحته إلا 6% من الأراضي
الفلسطينية المحتلة– هو من أجل
أمن (إسرائيل)، ونحن نعلم أن
(إسرائيل) طالما حلمت بالتخلص من
القطاع بأي طريقة، فهو مصدر
استنزاف دائم للدولة العبرية،
والانسحاب من قطاع غزة يوحي
للعالم أن المشكلة الفلسطينية
قد تم حلها ويسقطها من الأجندة
الدولية. وبذلك
تتخلص الولايات المتحدة من مصدر
احتقان دائم في العالم العربي
وتحريض ضد مصالحها، ويعطي
(إسرائيل) فرصة كبيرة للتطبيع مع
الدول العربية والإسلامية وفتح
سفارات لها في العواصم العربية
وإقامة الخطوط السريعة التي
تربط بين تل أبيب وهذه العواصم
العربية.
لا
شك أن تفكيك مستوطنات قطاع غزة
وانسحاب القوات المحتلة يعتبر
إنجازا للمقاومة الفلسطينية،
وهو أنجاز لها وحدها بغير
منازع، فلم يأت هذا الانسحاب
نتيجة حوار وتفاوض بين السلطة
الوطنية الفلسطينية وحكومة
شارون ودن عقد أي اتفاقات –على
الأقل علنية– بينهما، بل جاء
نتيجة الضربات المؤلمة التي
وجهتها فصائل المقاومة
الفلسطينية –وخاصة حركة
المقاومة الإسلامية– لجيش
الاحتلال الصهيوني لتكبده ما لا
يحتمل من الخسائر البشرية
والاقتصادية.
ومما
يبعث الأسى أنه في الوقت الذي
كانت ضربات المقاومة تشتد
وتزداد كثافتها لإجبار
الاحتلال على الخروج من قطاع
غزة، كانت الاتصالات واللقاءات
الأمنية بين السلطة الفلسطينية
من جانب وبين وحكومة شارون
ودبلوماسيين وأمنيين أمريكيين
من جانب آخر تتمحور حول أيجاد
طرق لقمع المقاومة ومصادرة
أسلحتها بدلا من إيجاد طرق
لاستثمار المقاومة لصالح
القضية الفلسطينية.
والأدهى والأمر أن حكومة
الاحتلال الصهيوني تعول كثيرا
على أجهزة الأمن الفلسطينية في
الحفاظ على أمن حدودها المزعومة
–بعد الانسحاب من غزة– ووقف كل
أنشطة المقاومة، ويلي هذه
الخطوة محاولة جمع سلاح
المقاومة الإسلامية وتسليم
زمام كل الأمور إلى أجهزة أمنية
فلسطينية.
ورغم
كل الدلالات الإيجابية لهذا
الانسحاب التي أصبحت مصدر
ابتهاج واحتفال للعديد من
المفرطين في التفاؤل، يجب عدم
إساءة الحسابات بشأن هذا
الانسحاب وتداعياته التي ربما
تكون من أخطر الأحداث التي يمر
بها الشعب الفلسطيني،
فالانسحاب من غزة من وجهة نظر
شارون يعتبر خطوة ضرورية لحفظ
أمن الكيان الصهيوني ويعمل على
إرساء دعائمه.
أما
من وجهة النظر الأمريكية فهو
يعتبر خطوة مهمة في طريق إنهاء
القضية المركزية –هكذا من
المفترض أن تكون– للعالمين
العربي والإسلامي، هذه القضية
التي أدت إلى تشويه الصورة
المزيفة لقيم الديمقراطية
الغربية والأمريكية ذات
المعايير الطيفية، وأدت إلى كشف
جرائم اليهود والصهاينة بحق
الشعب الفلسطيني والشعوب
العربية.
ويأتي
الانسحاب ضمن خطة صهيونية
أمريكية دولية لحل المشكلة
الفلسطينية، وبحسب دراسة
أعدتها مؤسسة RAND حول ذلك فإن من أهم خطوات هذا الحل هو إصلاح
الأجهزة الأمنية الفلسطينية
وجعلها في ثلاثة أجهزة لتتولى
الأمن في الأراضي الفلسطينية
بعد الانسحاب، وبهذا تتخلى
(إسرائيل) عن المسؤولية الأمنية
في الضفة الغربية وقطاع غزة،
وتضع السلطة الفلسطينية وجها
لوجه في مواجهة الفصائل
المقاومة –خاصة حماس.
وبهذا يتحقق للاحتلال
حمايته بأيدي فلسطينية وعربية
أو حدوث صراع داخلي سوف يؤدي
حتما إلى مواجهات وربما حرب
أهلية قذرة.
ولا
يخفى أن القاعدة العسكرية
الأمريكية التي تم إنشائها في
الضفة الغربية سوف تكون على أتم
الاستعداد لتدخل في حالة وجود
أي تهديد عسكري وأمني للدولة
العبرية، وهذا ما صرح به
مسئولون عسكريون أمريكيون. ونتيجة
لخشية الولايات المتحدة من حدوث
التفاف شعبي فلسطيني حول حركة
المقاومة الإسلامية فقد أعدت
الإدارة الأمريكية –كما ذكرت
الدراسة المذكورة– الأموال
لتنفقها على الشعب الفلسطينية
بمعدل نحو 765 دولار أمريكيا
سنويا للأسرة الواحدة، وغير ذلك
الكثير من الأموال التي سوف
تنفقها على الأجهزة الأمنية
التي لا ترى في الانسحاب إلا
فرصة للحصول على الثروة والشهرة
والسلطة حتى لو أدى ذلك إلى
إبادة نصف الشعب الفلسطيني وموت
قضيته العادلة.
وأوجه
الحديث للطرف الفلسطيني الذي
يؤمن بأن الولايات المتحدة سوف
تقيم دولة فلسطينية مستقلة
قابلة للبقاء والاستمرار بأن
الرئيس الأمريكي دعا أثناء
زيارته لبروكسل إلى قيام
"دولة فلسطينية ديمقراطية
على أرض متصلة الأراضي" ثم
أضاف "إن دولة على أراض ممزقة
لن تقوم"، وفي هذا دلالة
واضحة على نية شارون في إقام
دولة فلسطينية محدودة السيادة
على أراض فلسطينية ممزقة في
الضفة الغربية وقطاع غزة، خاصة
أن الضفة الغربية تفتت أراضيها
مئات المستوطنات والطرق
الالتفافية والجدار العنصري
الذي أقامته (إسرائيل)، ليس بهدف
أمني فقط، ولكن بهدف إعاقة أي
محاولة لإقامة دولة فلسطينية
عاصمتها القدس.
وفي
الوقت الذي تعلن فيه قبول قيام
دولة فلسطينية، تقوم حكومة
شارون بضم المستوطنات المقاومة
على أراضي الضفة الغربية، وهذا
سوف يؤدي حتماً إلى عزل قرى ومدن
الضفة الغربية لتصبح كالجزر
الصغيرة في وسط بحر من الأراضي
التي احتلها الصهاينة، أما قطاع
غزة فهو سجن كبير يضم نحو
المليون ونصف المليون من
الفلسطينيين الذين يقبعون تحت
رحمة (إسرائيل) بحرا وجوا وبرا.
وتعمل
(إسرائيل) على تطويق الضفة
الغربية وفصلها عن واد الأردن
وشاطئ البحر الميت، لتصبح الضفة
الغربية صورة مكبرة لقطاع غزة
من حيث الانعزال والانفصال عن
العالم، وبهذا تضم (إسرائيل) نحو
20% من أراضي الضفة الغربية، علما
أن الجدار العنصري أدى إلى ضم من
7% إلى 8% من أراضي الضفة إلى
الكيان الغاصب.
ليس
هذا فحسب، بل سوف يؤجل شارون
بناء جزء من الجدار العنصري
متحينا الفرصة لتغيير مسار
الجدار حتى يضم الكتل
الاستيطانية من جنوب الخليل
وحتى كريات أربع، ولا يقف الأمر
عند هذا الحد، بل ستقيم
(إسرائيل) كتلا استيطانية كبيرة
في محيط التجمعات السكنية
الفلسطينية في الأراضي
الفلسطينية المحتلة منذ عام
1984م، وسوف يستقدم ملايين
المستوطنين الجدد إلى تلك
المستوطنات كوسيلة للتغلب على
المشكلة الديموغرافية المتمثلة
بتزايد نسبة السكان
الفلسطينيين هناك.
فإذا
كانت (إسرائيل) تنوي الانسحاب من
قطاع غزة الذي تمثل مساحته نحو 6%
من الأراضي المحتلة، فهي قامت
بضم أضعاف هذه النسبة من أراض
فلسطين إليها، وإذا كانت تنوي
تفكيك وإزالة بعض المستوطنات من
الأراضي المحتلة، فهي تنوي أيضا
زراعة أضعاف هذا العدد من
المستوطنات في المناطق
الفلسطينية المحتلة لتعمل على
التشويه الديموغرافي لهذه
المناطق.
هكذا
يجب أن ننظر إلى عملية الانسحاب
في ضوء ما يدور على أرض الواقع،
وما سينتج عن هذا الانسحاب من
مزيد من التراجع على مستوى
القضية الفلسطينية نتيجة
لتحويل حكومة شارون نصر
المقاومة الفلسطينية إلى فخ
كبير للشعب الفلسطينية وقضيته.
إذاً
لابد من استيعاب تحديات المرحلة
الجديدة والاستجابة بذكاء
وثبات للمعطيات الدولية
المتعلقة بالعملية السلمية
وتقييم الأحداث بواقعية
وموضوعية، ولا بد من توعية
المجتمع الفلسطيني وحشد طاقاته
ليقف في وجه زمرة بائعي الوطن
والحقوق طلبا للثروة والشهرة
والسلطة. ويجب
العمل على جمع المخلصين من
أبناء الشعب الفلسطيني وعدم
تنازع قواه المقاومة، وبذلك
–بعد الإيمان بالله والتوكل
عليه– يمكن تحويل الانسحاب إلى
إنجاز حقيقي وإفشال الخطط
الصهيونية والأمريكية التي
تسعى لإنهاء القضية الفلسطينية.
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|