رسائل
حزب البعث الخاطئة عشية
مؤتمره
القطري
الطاهر
إبراهيم*
أجمع الأعضاء
الثمانية في إدارة منتدى "جمال
الأتاسي" الذين أطلق سراحهم
،بعد اعتقال دام قرابة أسبوع،
على أن اعتقالهم كان بمثابة
توجيه رسالة مفادها "أن
الحوار مع جماعة الإخوان
المسلمين ما زال خطاً أحمر
وممنوعاً ويحاسب عليه القانون".
وبعيدا عن
الإثارة السياسية والتهويش
الإعلامي اللذين أرادتهما
أجهزة أمن النظام من اعتقال
هؤلاء الثمانية، وما يعني ذلك
من أن هذا النظام لم يفقه بعد
المتغيرات من حوله، وآخرها
الانسحاب القسري من لبنان الذي
نفذه الجيش السوري قبل أول أيار
المنصرم، فإننا نستطيع أن نؤكد
أن تصرفات أجهزة الأمن في العهد
الجديد لم يطرأ عليها أي تغيير
يجعلنا نأمل أن تغير أساليبها
القمعية التي درجت عليها في عهد
الرئيس حافظ الأسد.
ولقد عاش الشعب
السوري البائس في ظل هكذا نظام
أربعة عقود يقتاد فيه الأبرياء
إلى حيث لا يعرف مصير أكثرهم،
حتى أصبح ذلك نمطا لا يكاد يحيد
عنه. وبدلا من أن يرسل رسالات
تطمين لهذا الشعب، قامت تلك
الأجهزة بإيصال رسائل من نوع
آخر كان منها اعتقال الأعضاء
الثمانية في إدارة منتدى "الأتاسي"
الذي سبقه اعتقال العضو التاسع
"على عبد الله" . وقد كان كل
ذلك رسالة في الاتجاه الخطأ من
مختلف الزوايا التي يمكن أن
تقرأ منها تلك الرسالة.
فمن حيث التوقيت:فإن
اعتقال إدارة منتدى الأتاسي
كانت الرسالة الخطأ إلى الجهة
الخطأ في التوقيت الخطأ.
فقد كان من
المفترض أن يقوم النظام بإشاعة
جو الحرية والانفتاح عشية
انعقاد مؤتمره القطري ليغسل
آثار الانسحاب من لبنان، فيظهر
أن الوطن ما زال بخير بأهله،
وأنه سيقوم بتصحيح الأخطاء التي
اعترف الرئيس بشار الأسد
بتفاقمها أمام مجلس الشعب عندما
أعلن عزمه على سحب الجيش السوري
من لبنان. وبدلا من ذلك جاءت
عملية اعتقال إدارة المنتدى
لتؤكد أنه لا تغيير ولا إصلاح.
وإلا فكيف نبرر الاعتقال، وهو
لم يوجه إلى جهة تعمل تحت الأرض
بل إلى منتدى يعمل تحت سمع وبصر
أجهزة الأمن، ويحضر ندواته
مثقفون بعثيون.
وكأن
أجهزة الأمن تناست أن النظام
السوري ليس في وضع يجعله يرسل
الرسائل هو من يتلقي الرسائل.وكأن
تلك الأجهزة ما زالت تعيش مناخ
ثمانينيات وتسعينيات القرن
العشرين يوم كانت سياسة القمع
والاستبداد تحظى برضى أمريكي
وسكوت أوروبي.
ومن حيث الجهة
التي أرسلت إليها تلك الرسالة:
فلم يكن واقع الحال بين النظام
السوري والإخوان المسلمين مما
يحتاج إلى هكذا رسالة حتى ينبه
إليه من غفل عنه. فما بين
الطرفين أكبر من ذلك بكثير بعد
أن تم تكريس العلاقة لأكثر من
ربع قرن من يوم أصدر القانون 49
لعام 1980 القاضي بإعدام كل منتمٍ
إلى جماعة الإخوان المسلمين.
ولم تكن هذه
الرسالة لتكون ذات مدلول بعد أن
استعصت هذه الجماعة على
الاستئصال الذي أراده النظام
السوري لها،وأن كل التصرفات
الخطأ بحقها–وما أكثرها- ما
زادتها إلا شعبية عند السوريين.
بل إن التهديد باعتبار الحوار
مع الإخوان المسلمين خطا أحمر
زاد في عزلة النظام البعثي نفسه
عن المجتمع السوري بعد أن اتفقت
كل مكونات هذا المجتمع على أن
التعايش بينها هو حجر الزاوية
في بناء سورية المستقبل بوجود
حزب البعث أو بدونه.
ومن حيث المدلول:
فقد اتضح بشكل قاطع أن أجهزة
الأمن هي التي تقود السياسة
الداخلية في سورية. وأن هذه
الأجهزة ليست كيانا منسجما، ولا
تخضع لرأس واحد، بل يمكن
تسميتها بأنها مخلوق له رؤوس
كثيرة كل رأس يجر السلطة باتجاه
مختلف. لأن السرعة التي تمت بها
عملية إخلاء السبيل لها مدلول
واحد من اثنين: إما أن من أمر
بإطلاق سراح المجموعة ليس من
أمر باعتقالها . أو أن العملية
كلها مسرحية وكلا الأمرين ليس
مما يحسب لصالح النظام.
ومن حيث اختيار
نوع الضحية: فليس مستغربا أن
يبطش حزب البعث بإدارة منتدى
"الأتاسي"، وليست هذه أول
مرة تبطش أجهزة الأمن بإدارة
هيئة من هيئات المجتمع المدني.
فحزب البعث له تاريخ أسود
بالبطش بهيئات المجتمع المدني.
ولا يزال السوريون يذكرون مذبحة
النقابات المهنية التي تم
بموجبها اعتقال إدارات تلك
النقابات في 31 آذار من عام 1980
بعد أن هددت بالاعتصام احتجاجا
على مصادرة الحريات واعتقال
آلاف الأبرياء ممن لا ناقة لهم
ولا جمل في تلك الأحداث.
غير أن المضحك
المبكي في هذه القضية أن اللواء
"محمد منصورة" رئيس شعبة
الأمن السياسي التي اعتقلت
أعضاء إدارة منتدى الأتاسي
طالبهم بالاستمرار في النقد
قائلاً: "لا توفروا أحداً إذا
كان مخطئاً"...وصدق من قال:
أسمع كلامك يعجبني أشوف فعالك
أتعجب.
ومن حيث الأسلوب:
فقد تم توجيه هكذا رسالة بطريقة
غير حضارية. حيث قامت أجهزة
الأمن باستعراض عضلاتها فجر يوم
الاعتقال أمام بيوت أعضاء إدارة
المنتدى وأمام سمع وبصر جيرانهم
في مختلف المدن السورية التي
يقطنها هؤلاء الأعضاء، وفيهم
سيدتان أجمعت كل الشرائع
والأنظمة على أن يكون للنساء
وضع خاص يمنع استعمال مثل تلك
الأعمال البربرية معهن. وقد كان
بالإمكان توجيه هكذا رسالة عبر
مختلف الوسائل الحديثة،
بإبلاغهم الأمر بشكل خطي أو عبر
الهاتف، أو بأي طريقة حضارية
غير تلك التي جرت.
ويحضرني بهذه
المناسبة قصة جرت فصولها قبل ما
يقارب من نصف قرن، بعد نجاح
انقلاب "حسني الزعيم" على
الرئيس الراحل "شكري القوتلي"
في عام 1949 . فقد أراد "الزعيم"
تصفية حسابات قديمة مع خصوم
سابقين بإبراز عضلاته كزعيم
أوحد لسورية. فأمر باعتقال
وإحضار أحد زعماء حزب الشعب في
مدينة حلب المدعو "أحمد...".
وقد تم اعتقال المذكور وأحضر
إلى دمشق وهو يرتدي "البيجاما"
حيث لم يسمح له أن يرتدي ثيابه.
وفور مثوله أمامه لم يزد "الزعيم"
على أن قال لضيفه المعتقل: (ولك
يا.. كذا ...تلحس...). ومع صعوبة
المشهد فإن النكتة السياسية
كانت حاضرة عند المعتقل "أحمد..."
حيث قال: لقد كان بإمكانك إرسال
هذه "الرسالة..." عبر الهاتف.
ثم أردف ولكن "طول عمرك يا
زبيبة....".
وإذا كانت عبارات
"الزعيم" قد حوت قدرا كبيرا
من البذاءة اللفظية وشيئا من
الطرافة السياسية، فإن تصرف
أجهزة أمن النظام البعثي قد
خدشت الحياء وتجاوزت كل عرف
ولباقة، عندما اعتقلت سيدتين
فاضلتين من أعضاء إدارة
المنتدى، وتم اقتيادهما من
بيتيهما وأمام أطفالهما
وجيرانهما في الحي، مع ما يعني
ذلك من خرق فاضح لآدابٍ عريقة
حرص المجتمع العربي، وحتى قبل
الإسلام، على احترامها عند
التعامل مع النساء.
يبقى أن نقول أن
كل الذين يراهنون على المؤتمر
القطري العاشر الذي يعقده حزب
البعث في أوائل هذا الشهر إنما
يراهنون على حصان خاسر لماذا ؟
1 - انقلب حزب
البعث منذ اليوم الأول في آذار
1963 على الديموقراطية ووأدها في
مهدها. ومن يتوخى منه أن يعيد
نفخ الروح فيها، فمثله معه كما
قال الشاعر:
ومكلف الأشياء ضد
طباعها
متطلب في الماء جذوة نار.
2- بنى حزب البعث
سياسته على نفي الآخر. وحزب هكذا
طبعه لا يتوقع منه أن يغير
سياسته بين عشية المؤتمر وضحاه،
فيسمح بقيام أحزاب حقيقية
تنافسه من خلال صناديق اقتراع
شفافة. لأن التغيير لا يحتاج إلى
مؤتمرات بل إلى قرارات صادرة عن
قناعات رشيدة.
كلمة أخيرة خارج
السياق: لعلي لا أجاوز الواقع
كثيرا إذا قلت أن مؤتمر حزب
البعث إنما هو إرسال رسالة
وترسيخ واقع جديد: فحزب البعث
يريد إرسال رسالة إلى خارج
سورية بأنه ما يزال الأقوى، وأن
من يريد التعامل مع سورية فهو
يعرف عنوان وزارة الخارجية
السورية في دمشق ومقر السفارة
السورية في واشنطن.
وأما الواقع
الجديد فإن هذا المؤتمر سيتم
فيه إعادة اقتسام المناصب من
جديد، بعد أن يتم إخراج الأضعف
من اللعبة الحزبية.
*
كاتب سوري يعيش في المنفى
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|