شبح
حرب أهلية فلسطينية
د.
محمد الغزي
الخطوة
التالية لشارون بعد الانسحاب
وتفكيك مستوطنات يهودية في غزة
وشمال الضفة هي تجميد أي تحرك في
اتجاه ما يسمى بعمليات السلام
بما في ذلك خارطة الطريق، ويرجع
هذا إلى رغبة شارون في تدارك أي
نتائج سلبية قد يسببها فك
الارتباط على (إسرائيل). وشارون
–وهو يحمل في رأسه حلم اندلاع
حرب أهلية فلسطينية– يرمي إلى
أبعد من مجرد امتصاص عواقب فك
الارتباط، فقد جعل أي تقدم في
تنفيذ خارطة الطريق مرهونا
بقدرة السلطة الفلسطينية على
تجريد المقاومة من سلاحها
تمهيدا لحل الفصائل المقاومة
تدريجيا.
ومن
المعلوم جيدا أن شارون لا يقبل
بخطة الطريق بالرؤية الدولية
حتى وهي مجحفة بحقوق الشعب
الفلسطيني ووطنه، ولكنه يريد
استغلال تطلع السلطة
الفلسطينية لتنفيذ هذه الخطة في
الضغط عليها وتحقيق المكاسب تلو
المكاسب للمشروع الصهيوني قبل
أن يصل إلى القضايا الجوهرية
التي تعيق قيام الدولة
الفلسطينية المنشودة. ومما
يستدعي الحذر والريبة أن
الخطوات الأولى في خطة الطريق
هي إنهاء المقاومة الفلسطينية،
ثم يلي ذلك التفاوض على القضايا
الجوهرية (مثل حق عودة اللاجئين
الفلسطينيين، تحرير القدس،
إطلاق سراح المعتقلين
الفلسطينيين، حرية التنقل عبر
الحدود) في نهاية المطاف في خطة
الطريق، وهذا ما يحقق لشارون
قدرة عالية من المراوغة
والمماطلة في التعامل مع القضية
الفلسطينية.
أما
بالنسبة لموقف الإدارة
الأمريكية، فهو يتراوح بين
الخداع والنفاق، فيحاول بوش
خداع الفلسطينيين والعرب بشأن
خطته للطريق، فالمحطات التي تمر
بها خطة الطريق والنهاية التي
يؤدي إليها ذلك الطريق مرتبط
برؤية بوش للمصالح المشتركة لكل
من (إسرائيل) والولايات المتحدة
الأمريكية.
ويتجلى خداع الإدارة
الأمريكية في الضمانات التي
أكدها بوش لشارون بخصوص ضم
المستوطنات اليهودية في الضفة
الغربية إلى ما يسميه أرض (إسرائيل)،
واستخدام سلاح الفيتو الأمريكي
لرفع أي حرج دولي للصهاينة.
فبوش من اليمين المسيحي
المتطرف الذي يؤمن بأن فلسطين
هي أرض الميعاد التي وعدها الرب
لليهود، وهو ممن يؤمنون بضرورة
هدم المسجد الأقصى المبارك
وإقامة الهيكل المزعوم مكانه
تمهيدا لنزول المسيح الذي سوف
يقتل الأشرار، وهم –بحسب عقيدة
بوش وأمثاله المتطرفين– العرب
المسلمين.
ويحاول
بوش نفاق الأوروبيين عندما يعلن
في بروكسل عن نيته في إقامة دولة
فلسطينية دائما وإزالة
المستوطنات اليهودية في الضفة
الغربية المحتلة، فيأتي تصريحه
هذا في سياق كسر الجمود في
العلاقات بين الإدارة
الأمريكية والاتحاد الأوروبي
وفي سياق حشد الرأي العام
الأوروبي والعالمي لاحتلاله
للعراق، لذلك فهو يعلن شيئا
أمام الأوروبيين ثم يفعل نقيض
هذا الشيء من خلال طمأنته
وضماناته لشارون والمنظمات
اليهودية الأمريكية.
وبين
الخداع والنفاق الذي يمارسه بوش
وصقور إدارته من المحافظين
الجدد يتجاهل بوش وشارون واقعا
مؤلما لهما تفرضه الحالة
النضالية الفلسطينية التي
مازال المحللون والسياسيون
والإستراتيجيون الأمريكيون
عاجزين عن فهما والتعاطي معها
بحكمة بعيدا عن الحماقة وإساءة
الحسابات، إنها حالة من الإرادة
الصلبة والعزيمة الجبارة
والإصرار العنيد لمواصلة
المقاومة والجهاد والنضال حتى
نيل الحقوق كاملة، ويعزز كل ذلك
صبر جميل ووعي مستنير.
لم تفهم الإدارات الأمريكية
والعالم كله تفسير قدرة الشعب
الفلسطيني على تواصل مقاومته
وانتفاضاته وصموده أمام قوة
عاتية ظالمة لعشرات السنين. ولم
يترك الصهاينة وسيلة عسكرية أو
أمنية أو اقتصادية أو استخبارية
للنيل من عزيمة وإرادة وصبر
ووحدة الشعب الفلسطيني إلا
استخدموها، وتعرض الشعب
الفلسطيني لكل أصناف العذاب على
أيدي اليهود والصهاينة لكنهم
أثبتوا أنه كلما زاد الصهاينة
في جبروتهم وظلمهم كلما كانت
النتيجة معاكسة لأوهام
الصهاينة والأمريكيين وكلما
ابتدع الشعب الفلسطيني من
الوسائل ما يحبط ويقوض هذه
الوسائل.
على
الإدارة الأمريكية أن تفهم ولو
للحظة واحدة مدى التلاحم بين
المقاومة الفلسطينية وبين
الشعب الفلسطيني، عليهم أن لا
يسطحوا الأمور فيصفوا الفصائل
المقاومة الوطنية والإسلامية
بأنها مجموعات من الإرهابيين
المعزولين اليائسين، إن الشعب
الفلسطيني كله شعب مقاوم رافض
للاحتلال، وهو لا يثق أبدا
بنوايا الإدارة الأمريكية
المنحازة بشكل لا يخفى على أحد
مع الصهاينة، ولا يغر الإدارة
الأمريكية وجود ثلة من
الفلسطينيين قليلة العدد
والعدة ممن نذروا أنفسهم لخدمة
الأهداف الأمريكية، فهؤلاء لن
يكونوا أكثر إخلاصا من عملاء
الولايات المتحدة في العراق
أمثال علاوي والجعفري
والطالباني والشلبي وغيرهم
الذين ضللوا الإدارة الأمريكية
وأوقعوها في شرك المقاومة
العراقية الباسلة.
من
الحماقة أن تفكر الإدارة
الأمريكية أن تحسين المستوى
الاقتصادي الفلسطيني سوف يكون
ثمنا يقبل به الفلسطينيون لبيع
قضيتهم العادلة أو وسيلة لعزل
المقاومة عن الشعب، إن منظمة RAND التي تقدم التقارير والدراسات التضليلية
السخيفة إلى الإدارة الأمريكية
قد أخطأت الحساب عندما استنتجت
أن الشعب سوف يتخلى عن المقاومة
بعد انسحاب قوات الاحتلال من
غزة عند تحسن مستوى الاقتصادي
الفلسطيني، على عباقرة RAND
أن يتخلوا عن نظرتهم إلى الشعب
الفلسطيني على أنه متعطش للهدوء
والتخلي عن المقاومة نتيجة
الوعود الأمريكية بالرفاهية
الاقتصادية، فتحسن المستوى
الاقتصادي يهيئ للشعب وسائل
تعزيز المقاومة ومواصلتها.
لقد
أدرك الشعب الفلسطيني أن مسألة
تحرير فلسطين هي أمر بسيط جدا،
إن الذي دفع الاحتلال للاندحار
من غزة سوف يؤدي حتما إلى
اندحاره أيضا من الضفة الغربية،
وبعد ذلك –عند ضمان عدم وقوع
حرب أهلية فلسطينية– سوف يتولى
الزمن وحده أمر المشروع
الصهيوني وهو كفيل بإنهاء
الأحلام الصهيونية بإقامة وطن
قومي يهودي على أرض فلسطين، إن
التزايد السكاني الفلسطيني –إن
أحسن الفلسطينيون تربية الجيل
وأحسنوا تعبئته– سوف يحول من
يتبقى من الصهاينة في فلسطين
إلى أقليات لا يسعهم إلا الرضاء
بالأمر الواقع والانصياع لأمر
الشعب الفلسطيني.
أما
ما نحتاجه نحن الفلسطينيون
لضمان استمرار إلحاق الهزائم
بالكيان الصهيوني هو أن يستمر
العقلاء في السلطة الفلسطينية
في تجنب أي حرب أهلية واعتماد
الحوار والتفاهم الوسيلة
الوحيدة لإدارة الأزمات مع
الفصائل الفلسطينية الوطنية
والإسلامية، وعلى السلطة توصيل
الرسالة واضحة للإدارة
الأمريكية بعدم واقعية نظرتها
لحقيقة الحالة النضالية
الفلسطينية والمقاومة
الفلسطينية بدلا من الانجرار
وراء سراب الوعود الأمريكية
الكاذبة التي لن تحقق أي من
الطموحات الوطنية الفلسطينية.
والسلطة الفلسطينية بحاجة
إلى استيعاب الرسائل التي
يصدرها الشعب الفلسطيني بخصوص
عمليات التسوية بما فيها خارطة
الطريق، وبدلا من التسوية على
السلطة أن تكون في صف الشعب
الفلسطيني تعمل على إصلاح الوضع
الداخلي وتعزيز صمود الشعب
الفلسطيني برفع معاناته ورفع
روحه المعنوية، وبدون ذلك لا
يمكن أن نضمن زوال شبح حرب أهلية
فلسطينية قد تقضي على آمال
وطموحات الشعب الفلسطيني.
وعلى
الفصائل المقاومة وخاصة
الإسلامية منها أن تكثف الحوار
مع السلطة الفلسطينية وأن تترك
هامشا للمناورة في ساحة النضال
التحرري الفلسطيني، وعليها
تجنب الاستجابة لاستفزاز
واستخفاف الذين لا يعقلون من
الذين لا يبالون بمصلحة الوطن
بقدر ما يبالون بالرضا الأمريكي
والصهيوني، فقد استطاع الشعب
الفلسطيني امتصاص كل الأحداث
المؤسفة الماضية التي كانت تهدف
إلى الصدام والاقتتال الداخلي،
وذلك بالصبر والثبات واحتساب
الضحايا والتضحيات لله سبحانه
وتعالى.
وعلى
الشعوب العربية والإسلامية أن
تخرج عن سلبيتها حيال ما يجري
على أرض فلسطين، فهناك مازال
الكثير مما يمكن فعله على
الساحة الإقليمية والدولية
لدعم جهاد الشعب الفلسطيني في
مجالات عديدة.
لقد آن الأوان لكسر الصمت
ومحو الظلام، فالصمت والظلام
يتساويان في أن حقيقتهما هي
العدم، والسلبية تؤدي إلى تعاظم
مشاكلنا وخسارة قضايانا
وبالتالي إلى عدم شرعية وجودنا.
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|