حافظ
الأسد :
هل
يعيش مشروعه العائلي أيامه
الأخيرة ولماذا ؟
(3
– 3)
الطاهر
إبراهيم*
بعد
المسيرة الطويلة التي سارها "حافظ
الأسد" منذ أول يوم دخل فيه
إلى الكلية العسكرية، وتخرج
ضابطا طيارا برتبة ملازم،
وانتقل إلى مصر أثناء دولة
الوحدة، وسرح من الجيش في بداية
عهد الانفصال، وأعاده صلاح جديد
في بداية حكم البعثيين عام1963،
وانقلابه مع "جديد" على
حكومة رئيس الدولة "أمين
الحافظ" في 23 شباط 1966، ووثوبه
إلى الحكم 1970 في حركته
التصحيحية، وحتى وفاته في
حزيران 2000م، هل يمكن أن نقول أن
"النظرية الأمنية"التي بنى
عليها خطته في الحكم وسعى إليها
في مسيرة حياته قد نجحت وأنه قد
حقق كل ما أراد؟.
ظاهر
الأمر، لمن يبني أحكامه على
النتائج المنظورة، أنها قد نجحت
نجاحا منقطع النظير،
خصوصا وأن الحكم قد انتقل من
الأب إلى الابن دون اعتراض من أي
ممن يرى أن له حق الاعتراض.
ولا
بد من أن نلاحظ أن "الأسد"
الأب لم يشأ أن تجري في حياته
عملية تعديل الدستور، كما حصلت
يوم وفاته في 10 حزيران 2000م،ما
يعني أنه كان قد رتب لذلك ترتيبا
كاملا ،وأنه أخذ الاحتياطات
اللازمة لانتقال السلطة
انتقالا سلسا من "الأب" إلى
"الابن"، دون أن يعكرها أي
منغص.
ولكن
هذا الانتقال السلس كان يعني
أيضا أن هناك مركزية شديدة
تعتمد على خيوط، وضع الأسد الأب
بؤرة تجميعها في يده وحده، وأنه
من المفترض أن تنتقل إلى يد
الوريث، وعليه أن يستطيع تحريك
هذه الخيوط بنفس الكفاءة التي
يتمتع بها الرئيس الراحل.
كيف
عالج الرئيس بشار هذه المعضلة؟
كان
واضحا أن الرئيس الجديد كان
يخشى من تركة الأعوان التي كان
يعتبرها والده من ضمانات
التوريث في وجود أعوان مخلصين
لآل الأسد. فهو من جهة كان عليه
أن يعطي أذنه لفصيل من هذه
التركة، وقد تمثل بالأقرباء
اللصيقين به مثل أخواله آل
مخلوف وزوج أخته آصف شوكت، هذا
إذا سلمنا أن هذين الفرعين كانا
جهة واحدة.
ومن
جهة أخرى فإن الأقربين "قننوا"
لإقصاء الأعوان الآخرين الذين
يخشى من تطلعاتهم إلى ما
استحوذوا عليه.فصدرت مراسيم
تقضي بتسريح الذين يبلغون السن
التي حددت لكل رتبة عسكرية.حقيقة
هذه المراسيم توحي أن الرئيس
بشار اختبأ خلفها ليتخلص ممن
يخشى منهم التمرد بعد أن ترسخوا
في مواقعهم سنين طويلة.
هذا
الأسلوب لم يكن متبعا في عهد
الرئيس الأب. فقد كان مهيمنا
بنفسه على جميع الأعوان وليس
بالوكالة. وكان لا يقصي أي واحد
من أعوانه، إلا من تبدر منه
بادرة تخرج به عن نطاق السمع
والطاعة. وكان عندما يقصي أحدا،
يخرج ولا يعود يذكره أحد.
وقبل
أن نغادر هذه الفقرة،لابد من أن
نذكر بأن الرئيس بشار قد كسب
عداوة الأعوان الذين سرحهم من
الخدمة لصالح الجناح المهيمن
ضمن تركيبة السلطة. وأنهم سوف
ينتظرون أية سانحة لكي ينتقموا
لأنفسهم.
الإدارة
الأمريكية والاستحقاقات
المؤجلة
لم
يكن دهاء الرئيس حافظ الأسد
وحده هو الذي وطأ له الأمور في
سورية. بل لا بد من إضافة أمر
آخر، وهو مقدرته على عرض خدماته
لدى أمريكا، التي كانت تسارع
إلى الاستفادة من هذه الخدمات
لكي توظفها في ترسيخ وجودها
وبسط هيمنتها في المنطقة. ولا
بأس بعد ذلك من أن يكون للرئيس
حافظ الأسد أجندته الخاصة به
التي تجعل منه الزعيم صاحب
الكلمة الأولى في المنطقة.
تبادل
الخدمات بين الرئيس حافظ الأسد
وأمريكا، يفسر إقدام حافظ الأسد
على خطوات غير شعبية لدى
المواطنين السورين، من مثل
المجازر التي ارتكبها بحق
الفلسطينيين في لبنان، ووقوفه
في الحرب ضد العراق تحت راية
أمريكا في عام 1991. فإذا أضفنا
إلى ما سبق المجازر التي ارتكبت
بحق الإسلاميين وغيرهم في
ثمانينيات القرن العشرين، فإن
الصورة تتضح أكثر حول حقيقة "البازار"
الذي عقده الرئيس حافظ الأسد مع
الإدارات الأمريكية المتعاقبة.
وإذا كان الرئيس الراحل يعتقد
أنه كان يقايض خدمات بمنافع،
فإن أمريكا كانت تعتبر ذلك
فواتير في عنقه يجب أن تسدد في
يوم ما.
ومع
أن الرئيس بشار الأسد أبدى
استعداده أكثر من مرة للتعاون
مع واشنطن، كما جاء في مقابلته
الأخيرة مع "نيويورك تيمز"،
عندما قال للمحرر: "أنا لست
كصدام حسين أنا أريد أن أتعاون"،
فإنه كان واضحا أن إدارة "بوش"
غير متشجعة لذلك.
لا
بد من إنصاف الرئيس بشار الأسد،
مهما كانت وجهة نظرنا تجاه
نظامه.فقد كان واضحا أنه كان
يتلكأ كثيرا في الانصياع
لمتطلبات إدارة بوش المتعاقبة.
بينما كانت لدى والده المقدرة
على قراءة السياسة الأمريكية في
المنطقة، ومن ثم يبادر إلى
تنفيذ هذه السياسة، في الوقت
الذي كان إعلام حزب البعث يندد
بأمريكا ويقول فيها "ما لم
يقله مالك في الخمر".بل لقد
كان يتهم دولا عربية بعينها
بأنها عميلة لأمريكا.
وهنا
يثور السؤال التالي: "ما عدا
مما بدا" حتى ترفض أمريكا أن
تمد يدها للدكتور بشار الأسد
كما كانت تفعل مع أبيه؟. يعتقد
المراقبون أن الإجابة على هذا
السؤال لا يمكن أن تتم إلا
بقراءتين لا بقراءة واحدة...القراءة
الأولى ،وهي الأهم،تتعلق
بمعرفة الأجندة التي تحكم
أمريكا بعد أن صارت جارا شرقيا
للنظام السوري. أما القراءة
الثانية، فستكون في تفكير
الرئيس بشار الأسد الذي ورث
الحكم على طبق من ذهب، ولم ينزف
قطرة عرق واحدة في سبيل الوصول
إليه.
ولعل
هذه الحيثية الأخيرة هي أحد
المفاصل الهامة في المقارنة بين
الرئيس الابن والرئيس الأب الذي
بنى نفوذه لبنة لبنة، وخاض
بحارا من الانقلابات
والانقلابات المضادة حتى وصل
إلى الدرجة التي يورّث فيها
الحكم لابنه،فلا يجرؤ أحد أن
يقول له "ثلث الثلاثة كم"؟
كما يقال في المثل السوري.
فإضافة
إلى ما كان يتمتع به الأب من
حنكة وتجربة وقراءة للأحداث،
ومعظم ذلك غير متوفر للرئيس
بشار،فإن الأسد الأب كان مستعدا
للدفع من حساب الوطن مهما كان
الثمن باهظا، وهو ما لم يفعله
الرئيس بشار إلا مكرها كما حصل
في الخروج من لبنان. هذه الأسباب
وغيرها مما سنذكرها لاحقا،
ساهمت في إعراض أمريكا عنه.
لقد
كانت المرحلة التي تقلد فيها
الرئيس حافظ الأسد الأمور في
سورية غاية في الحساسية. فمن
نجاح ثورة الملالي في إيران إلى
تنامي المقاومة الفلسطينية
،إلى قيام الحرب العراقية
الإيرانية، إلى تعاظم الصحوة
الإسلامية، إلى اشتداد الحرب
الباردة بين المعسكر الشيوعي
والمعسكر الغربي،كل ذلك جعل
المناخ ملائما لكي يعرض الأسد
الأب خدماته على أمريكا .وعندما
استلم الرئيس بشار الحكم لم يكن
لديه شيء من هذه الأمور يعرضها
عليها.
القراءة
في الأجندة الأمريكية بعد
احتلال العراق:
أما
القراءة في الأجندة التي أصبحت
تحكم أمريكا بعد احتلالها
العراق، فتؤكد بأن الخدمات التي
كان يقدمها لها نظام حافظ
الأسد،لم تعد ذات جدوى بعد أن
صارت أمريكا جارا شرقيا للنظام
السوري. وأن هذا الأمر أصبح
متأكدا أكثر بعد الانسحاب من
لبنان.
ورغم
أن النظام السوري لا يشكل أي
خطر، فإن بقاءه لم يعد يتناسب مع
أجندة "المحافظين الجدد"
الذين يريدون إعادة صياغة
المنطقة وفق الخريطة التي
رسموها لها. ولعل المواطن
السوري سوف يبتسم عندما يعلم أن
هذه الأجندة تقضي بإلغاء أي
دعوة للقومية العربية في
المنطقة، لأنه يعرف أن هذه
الدعوة عند البعثيين كانت
شعارات من دون مضمون.
ما
يزعمه بوش وأعضاء إدارته
،وتردده ببغاوات الحكومة
العراقية،من قيام النظام
السوري بفتح حدوده الشرقية أمام
المقاومين العرب، ليس فيه من
الحقيقة إلا الشيء القليل جدا،
لأن طائرة "الأباتشي"
الأمريكية تستطيع اصطياد أي
متسلل من تلك الحدود. وما يريده
بوش من وراء تلك الاتهامات، هو
زيادة الضغط على دمشق.
فإما
يرضخ النظام ويفتح حدوده ليقوم
الجيش السوري بملاحقة
المقاومين العراقيين داخل
العراق،كما جاء في طلبات
الإذعان التي حملها "كولن
باول" إلى دمشق في أيار 2003 بعد
احتلال بغداد بقليل، وهذا فيه
إذلال كامل لنظام البعث، وسيؤدي
لفرط عقده سريعا. وإذا ما رفض
النظام تلك الطلبات، فعندها
ستتكفل لجنة التحقيق في اغتيال
الحريري، التي يرأسها "ديتليف
ميليس" بإطلاق رصاصة الرحمة
على رأس النظام السوري،بعد أن
أصبح من شبه المؤكد أنه غارق حتى
أذنيه في التخطيط ،وربما في
التنفيذ، لتلك الجريمة النكراء.
ذنوب
الرئيس بشار عند إدارة بوش
ما
أسلفنا فيه من الحديث قد تكون
مساهمة الرئيس بشار فيه غير
فعالة إلى الدرجة التي تجعل "بوش"
يصرح أمام أكثر من زائر له بأنه
يرفض أن يتعاون مع الرئيس بشار
وأن موقفه منه كموقفه من الراحل
ياسر عرفات. ولكن بالتأكيد فإن
هناك مآخذ اعتبرها الرئيس
الأمريكي تحديا له ولا يجوز
السكوت عنها مثل التمديد للرئيس
اللبناني "لحود".
الرئيس
بشار الأسد يفشل في معالجة
التمديد للحود
فرغم
كل الإشارات والتصريحات التي
عكست رغبة إدارة "بوش" بعدم
التمديد للحود، فإن الرئيس بشار
الأسد أصر على الذهاب في قضية
التمديد إلى آخر الشوط. ومبرره
في ذلك أن تلك التصريحات هي من
نوع "على عينك يا تاجر"،وأنه
لا بد من أن تسلم بالأمر الواقع .والإدارة
التي وافقت على التمديد للهراوي
لا بد وأن تقبل بالتمديد للحود.وقد
اعتبر "بوش" هذا التمديد
تحديا لإدارته ،وجريمة لا تغتفر.
ولو
أن الرئيس بشار الأسد تبصر في
الأمر وعرف أنه يقارع الدولة
العظمى في العالم، وأن الذهاب
إلى النهاية في التمديد أمر لا
ترفضه أمريكا وفرنسا فحسب، بل
يرفضه كذلك غالبية
اللبنانيين،وكان عليه أن
يتراجع في الوقت المناسب،كما
فعل والده في أزمة "أوجلان"
ولكان أمن لنفسه خط الرجعة،
ولسحب ذريعة هامة من يد إدارة
"بوش".
بالتأكيد
لم تكن هذه هي القضية الوحيدة
التي جعلت "بوش" لايترك
مناسبة إلا ويندد بتشجيع النظام
السوري للإرهاب، ولكنها كانت
"الشعرة التي قصمت ظهر البعير".
النظام
السوري يتصرف وكأنه لا يرى ما
حوله
لا
بد هنا من أن نذكّر بأن انغلاق
نظام الرئيس بشار الأسد حول
الأجهزة الأمنية،وما تقدمه من
مشورة لا تصب إلا في خانة قادة
تلك الأجهزة ، وإغماض عينيه عن
الشعب السوري الذي كان مستعدا
دائما لمد يد المعونة لدرء أي
خطر يتهدد سورية، كل ذلك جعله لا
يرى أمامه إلا أمريكا ورضا
أمريكا، مع أنه يعرف ماذا تريد
منه.
لا
أحد من المراقبين يعتقد أن
إدارة الرئيس"بوش" تطالب
دمشق بالديموقراطية لسواد عيون
السوريين. وعندما تندد
بالممارسات القمعية للنظام
السوري فلأنها تعتقد أن هذه
الممارسات هي التي فرخت الإرهاب.
وإن استمرار النظام في هذا
النهج لا يجعل أحدا يتنبأ بما
سينتج عنه من مضاعفات تؤثر إلى
حد بعيد على القوات الأمريكية
في العراق؟.
فإذا
أعدنا إلى الأذهان القلق النفسي
الذي تعيشه القيادة السورية
وضباط أجهزتها الأمنية من الجو
الكئيب الذي أشاعه وجود رئيس
لجنة التحقيق الدولية القاضي
"ديتلف ميليس" وأعوانه في
دمشق للتحقيق في جريمة مقتل
رئيس الوزراء اللبناني الأسبق
"رفيق الحريري"، وكيف أن
النظام لم يحاول –على الأقل-أن
يتألف قلب المواطن
السوري،فيخفف من إرهاب الدولة
الأمني، ويطلق سراح من تبقى من
معتقلي الرأي وعلى رأسهم
الدكتور عارف "دليلة"
والنائبان "مأمون الحمصي"
و "رياض سيف".
ومع
أن توصيات المؤتمر القطري
العاشر لحزب البعث الذي انعقد
في شهر حزيران من هذا العام كانت
هزيلة، فإن النظام لم يتقدم
خطوة واحدة إلى الأمام في تنفيذ
هذه التوصيات. بل كان جلّ همه هو
ترتيب الهرم الأمني في السلطة
وحصره في أيدي أقرب المقربين في
العائلة الحاكمة.كل ذلك وغيره
كثير يجعل المراقب للشأن السوري
يعتقد أن النظام السوري يعيش
وكأنه لا يدري بما يجري حوله.
فهل
أصبح النظام السوري يعيش على
وقع زيارات القاضي "ميليس"
المكوكية إلى سورية، وكأنه
يترقب صدور حكم الإعدام عليه؟
*كاتب
سوري معارض يعيش في المنفى
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|