أفكار
في الإصلاح والتغيير (4)
التغييـر
من الداخل
د
. فواز القاسـم / سورية
إن صحة أية جماعة
، أو أمة ، أو مرضها ، أساسهما
نابع من صحة الفكر أو مرضه ، قال
تعالى :
(( إن الله لا يغير
ما بقوم ، حتى يغيروا ما بأنفسهم
)) الرعد(11) ... هذا في التغيير
الإيجابي ، وقال :
(( ذلك بأن اللهَ
لم يكُ مغيِّراً نعمة أنعمها
على قوم ، حتى يغيِّروا ما
بأنفسهم )) الأنفال (53) ، وهذا في
الجانب السلبي .
ولشرح هذا
القانون نقول : إن كل مجتمع
إنساني يتكون من ثلاثة عناصر
رئيسيّة هي : ( الأفكار ) و (
الأشخاص ) و ( الأشياء ) . وترتبط
هذه المكونات الثلاثة فيما
بينها بعلاقة معينة ، تتبدل
طبقاً للزمان والمكان .
وبحسب نوع
العلاقة بين مكونات هذا الثالوث
، تتكون شبكة العلاقات
الاجتماعية والإنسانية بين
الأفراد والجماعات ، ويتشكل
محور الولاءات في المجتمع ،
ويتحدد منهج الفهم والتفكير
الذي يسود فيه ، ويترتب سلّم
القيم الذي يوجه أنماط السلوك
بين أفراده .
فإذا كان الولاء
في الجماعة أو الأمة ( للأفكار )
، فهي جماعة أو أمة ناضجة
ومتحضِّرة ، وتكون في أعلى
درجات صحتها وعافيتها ..
وفي هذه الحالة
يتسلم مراكز القيادة والريادة (
الأذكياء ) ، الذين يحسنون
مجابهة التحديات ، واتخاذ
القرارات .
والذين يتسم منهج
تفكيرهم بالعمق والدقة
والعلمية والشمول ، فيسخرون
طاقاتهم ، ويفنون أعمارهم ، في
العمل للقضايا
الكبيرة
والخطيرة التي تهم أمتهم ،
وتدور جل اهتماماتهم حول قضايا
مجتمعاتهم ، ومصلحة أوطانهم .
وحين يكون الولاء
في الجماعة أو الأمة ( للأشخاص )
هو المحور ، وتدور أفكار الناس
في فلك الأشخاص ، فإن السمة
الغالبة لمثل هذا المجتمع ،
تصبح هيمنة محبي الجاه والنفوذ
، وسيطرة أصحاب القوة والسطوة ،
الذين يسخِّرون (الأفكار
والأشياء) معاً ، لمصالحهم
الشخصيّة ، ورغباتهم الأنانية
...
وهنا ينحصر
التفكير في مصلحة الذات أو
الفئة ، لا غير ، ويتَّصف
بالضحالة والتفاهة والسطحية ..
وتدور الاهتمامات
حول القضايا التي تثيرها
المنافسات والخصومات
والمهاترات الحزبية .
وتسيطر هذه
التفاهات على التفكير والتدبير
، إلى الحد الذي لا تترك فيه
متّسعاً للقضايا الكبرى ،
والتحديات المصيريّة .
أما حين يكون
الولاء ( للأشياء ) ، وتدور (
الأفكار والأشخاص ) في فلكها ،
فهنا الطامة الكبرى ، والمصيبة
العظمى .! حيث تصبح الهيمنة في
الجماعة أوالأمة لأرباب
الأموال والتجارات
والاستثمارات ، وتسود ثقافة
الترف والاستهلاك ، وتُداس
القيم والاعتبارات ، وتصبح
الأفكار والمباديء ، مجرَّد سلع
ومواد للاستهلاك المحلِّي .!!!
وهنا يتعطل الفهم
والتفكير ويصابان بداء الشلل ،
وينشغل المسلمون بأشيائهم
وحاجاتهم ورواتبهم ، لا يعرفون
معروفاً ، ولا ينكرون منكراً ،
وفي النهاية تلفظ الجماعة أو
الأمة أنفاسها الأخيرة ،
مصداقاً لنبوءة الرسول القائد
صلى الله عليه وسلم ، الذي قال :
(( والله ما الفقر أخشى عليكم ،
ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم
كما بسطت على من كان قبلكم ،
فتنافسوها ، كما تنافسوها ،
فتهلككم ، كما أهلكتهم )) مسلم .
وإذا أردنا أن
نستعرض التطبيقات العملية لهذا
القانون فهي كثيرة ، ففي عصر
النبوة ، كان الرسول صلى الله
عليه وسلم يعمّق
الولاء للفكرة ( وهي العقيدة )
ويجعله محور العلاقات الخاصة
والعامة في المجتمع المسلم ،
وكانت ( أشخاص) المسلمين و(
أشياؤهم ) ، تدور في فلك الولاء
للفكرة الإسلامية ، تطبيقاً
لقوله تعالى : (( إنَّ الله اشترى
من المؤمنين أنفسهم وأموالهم
بأن لهم الجنة )) التوبة(111)
وبعد عصر النبوة ،
جسّد الخلفاء الراشدون هذا
الولاء للفكرة الإسلامية أروع
تجسيد ، ورصدوا أشخاصهم
وأعمارهم وأشياءهم
لنشرها ، في الخارج :
بالجهاد والتضحية والشهادة .
وفي الداخل : بالعدل ، والقدوة ،
والشورى .
ثم كان المنعطف
الخطير بعد عهد الراشدين ،
رضوان الله عليهم ، يوم بدأ رجال
السياسة ، بتطويع رجال الفكر
والشورى لأشخاصهم ، بحجة الحرص
على الفكرة ، والغيرة على
الدولة .
ثم ازداد هذا
النهج وتفاقم ، يوم راح رجال
السياسة يطاردون رجال الفكر
ويضطهدونهم ، كلما استعصوا على
الولاء للأشخاص .
ثم تلا ذلك تطور
آخر ، حيث انتقل الولاء فيه
للأشياء ، واشتغل المجتمع
الإسلامي بالدنيا ، وتنافس
الناس في جمع الثروات ، وتكديس
الممتلكات ، وصارت علاقاتهم
ومنازلهم تتحدَّد طبقاً لهذه
التوافه .!!!
وهكذا وطبقاً
لهذا المنهج ، فإننا نستطيع أن
نميز بين ثلاثة مشاهد في
التاريخ الإسلامي : ففي قرون
الولاء للفكرة ، تجمعت كلمة
الأشخاص ، وترسَّخت وحدتهم ،
وازدهر أمرهم ، وبان عزهم ،
وعزَّ نصرهم .
أما في قرون
الولاء للأشخاص ، فقد برزت
الصراعات الأسرية من أجل
الخلافة ، وتشرذمت الأمة ،
وتوزعت ولاءاتها حول الأشخاص
والعوائل والمذاهب ، واشتغل
المسلمون عن العدوّ الخارجي
بالحروب والصراعات فيما بينهم .
وحين انتقل محور
الولاء إلى الأشياء ، انحدر
المجتمع الإسلامي إلى الحضيض ،
وتمزَّقت شبكة العلاقات
الاجتماعية
حتى داخل الأسرة الواحدة ،
أو المذهب الواحد .
وصارت الشعارات
الفكرية ، بعض سلع التجارة ،
ووسائل الترف ...!!!
الأمر الذي أدى
إلى وفاة المجتمع الإسلامي
آنذاك ، ومجيء الجماعات
الصليبيّة والمغوليّة ، لتعلن
نبأ وفاة المشروع الإسلامي ،
وتقوم بمراسيم دفنه وإهالة
التراب عليه . !!!
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|