ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

السبت 08/10/2005


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

إصدارات

 

 

    ـ أبحاث

 

 

    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


عرض في حزيران

فاطمة محمد أديب الصالح

لا لا تقترب مني، سأكون عند أحسن وأفضل ظنك، لا أحتاج من بصطارك ركلة ولا من سوطك صعقة ولا من لسانك البذيء شتيمة لأمي ولا لأختي، حتى إنك لن تحتاج لصفعي كيفما اتفق مهما اقتربت مني وحاولت اختراع تهمة لي، أنا السجين المهذب المؤدب الهادئ المنضبط عفيف اللسان الذي عرفتموه تسعة عشر عاماً، لتمطر قبرك رحمات ربي يا أمي على ما عودتني.. والحمد لله لك يا رب ألف حمد أنك قبضتها إليك قبل أن ترى آخر عنقودها أو تسمع عنه في سجن تدمر.. اسمع أيها المتخلف المسكين الحقير المدمن الذي اختار العبودية في هذا السجن.. لن أتيح لك فرصة أبداً  أن تعكر ما يغمرني من تفاؤل بأنها ستكون آخر العرَضات أمام الضباط الكبار.. عصبت عيني بطماشتي(1) كما أمرت.. خرجت أتلمس الجدار كما أمرت، وجهت وجهي نحوه جالساً بناء على صيحتك وتفهماً لشتيمتك.. لن أتنفس لن أتكلم لن أطلب ماء ولا طعاماً مهما طال انتظار دوري. لن أتلفت لن أحاول أن أحادث جاراً ولا عائداً من العرض( يمكن أن نجازف بهمستين حال ابتعادك) فالساعات القادمات ستبدي لي كل ما أجهله الآن، اصرخ( ولك)(2) حتى المساء، تجول حولنا مع رفاقك لترصدوا حركاتي وسكناتي فلن أمكّنك مني.. سأصل العرض بكامل الهدوء واللياقة، سأبتسم.. سأعترف بأني منظم مع الإخوان المسلمين، الإنكار كلفني ستَّ سنوات أخرى بعد عرض خمسة وتسعين، لم أتعمّده، غير أنه ما تواصينا به بعد أن رمى إلينا من سبقونا بضع كلمات وهم يلمّون أغراضهم إلى مهاجع أخرى، قلنا يا شباب يبدو أنها محاكمة فما رأيكم، قالوا والله نحن نضرب بسبب ودون سبب.. سواء كنا منظمين أم لا فالكرباج طالع نازل، لا تعترفوا حتى تضربوا بسبب..ضحكنا وقد اعتاد الدمع حبسه، هل كان فخاً.. آه من ذلك، كان قد مضى عليّ خمس عشرة سنة قلنا لعلها تكفيهم.. أخطأنا.. اليوم سأقول إني منظم كما تقول الإضبارة التي جمعتموها حتى من المدارس التي تعلمت فيها، لعلهم كلهم قالوا لكم أني كنت فتى متدينا، نعم طول عمري أنا متدين..أصلي وأصوم وأغض بصري ولا أشتري المجلات الماجنة ولا أدخل السينما ولا أدخن..وحين تنظمت لم أحمل سلاحاً وأنتم تعرفون..  لعل الإنكار طوال هذا العمر حماني من حكم بالإعدام.. وعلى هذا فأنا محظوظ جدا.. ولا أنكر أني محظوظ.. كم مرة نسيني العسكري بعد أن علّمني في الليل، وكم مرة يسر الله لي الدواء عند الحاجة إليه، نقلوني إلى مهجع السل فتبين أني غير مسلول.. أسناني الأمامية سليمة ويغبطني الشباب عليها.. أنا بخير كثير قياساً إلى الشباب والكهول الذي مروا بي ومررت بهم..

لا لا ..كنت أحاول فقط أن أرفع ياقة قميصي.. عنقي يحترق يا مجرم، لو تركتم شعري ينمو قليلاً..  كانت ركلة قوية يا كلب لكن لا بأس، نوع من التسلية، فالانتظار فظيع والدومينو الذي نمثله بدءاً من أبواب المهاجع الحديدية السود نرسم به حدود الجدران التي تتأمل وجوهنا العمياء، عبر الساحات الداخلية وحتى غرفة الضباط الكبار يتحرك ببطء وصمت وحزن.. يصعب أن يكون الصمت فرحاً، الصمت كلام كثير وصعب..

لما فُتحت الشرّاقة(3) هذا الصباح ووصلتنا ثواني بهواء السماء، أعجبنا الصوت القبيح والكلام القبيح:

-  ولك اللي بيسمع اسمه يطلع برا..

-  عرض عرض يا شباب( حلوة كلمة شباب).. ابن الرئيس يريد تبييض وجهه مع الشعب. وهل الشعب لازال يذكرنا هل يهمه خرجنا أم بقينا.. أليس هنالك هموم أخرى يفكر فيها.

-  لن يكون الابن كأبيه حتى لو أراد، تربى في بريطانيا، لا تنسوا شباب كل رئيس جديد لا بد أن يفعل شيئاً مختلفاً، وبخاصة أن الدستور عدل ليناسب سنه..

شكراً يا إدارة السجن صحفك البائتة.

آخ الشمس كأنها تريد ثقب رأسي لتتفجر منه سوائل دماغي الرجراجة وتفضح ما أفكر فيه.

متى كنت بهذه القسوة يا حزيران سورية.. أما كنت أخف وطأة .. أم هي الحرية ودمشق.. ولم لا يموت الرئيس إلا في حزيران( مزح الشباب فقالوا إنه تم اعتقال ملك الموت) لم لم يمت في شهره الأثير الذي انتزع فيه الحكم بالقوة.. تشرين الجميل شهر العنب والتين واجتهاد التلامذة، أستغفر الله العظيم.. والله أنا رجل مؤمن راض بقضاء الله..ومهما طال هذا الوقت لا بد أن يمضي، لكني أستعجله، أكاد أتمنى أن يصل دوري مهما تكن النتيجة، كيف يكون يوم العرض الأكبر يوم تدنو الشمس من رؤوس الخلائق، ويغرق كل منا في عرقه بحسب عمله، ويتمنى ساعة الحساب على ما هو فيه. اللهم اكتبني فيمن تظلهم بظلك يوم لا ظل إلا ظلك.

لكن الانتظار طال.لا يموت العطشان قبل ثلاثة أيام ولكن ماذا يفعل الحاقن.. لا ليس الآن.. لازال الوقت مبكراً. هاهو جاري يتململ فهو يحتاج قضاء حاجته، اصبر يا صاحبي ما استطعت فقد لا يسمحون لك، حاذر أن تقف في العرض بملابس مبتلة.. لكنك تصيح غير آبه بالنتائج: الله يخليك أنا مريض.

أعرف هذه الحيطان لا أحتاج النظر إليها. أحفظها بقعة بقعة وتحفظني. لأنها تحمل من دموعنا وعرقنا ومخاطنا وقيئنا وربما نثارات من جلودنا المتفجرة تحت السياط التي تظنها أحياناً موسى مسنونة لا تنزل إلا لتشق وتفجر الدماء.. الجدران الصديقة التي قد تمتص اصطدام جثة أحدنا بها بين سوطين رفستين صفعتين، غدت خرائط من طلاء حائل وسخام متراكم وآثار رطوبات بشرية قد تخبر عنا يوماً .. رأيناها بعدد أيام التنفس والاستحمام والحلاقة والتفتيش والعقوبات الممنهجة ليلاً ونهاراً.. وكلها أيام دم.. كلها أيام دمع تذرفه القلوب وقد ألف الدمع أنه حبيس.

كثروا.. والعسكري مضطر للسماح لهم بالتبول، ولك كذاب أنت وهو ماعاد تستطيعون التحمل، قم ولك أنت وهو يا أبناء القحـ.. وجاري ينضم إليهم. هيا سأعد للعشرة وتكونون برا.

 يبدو أني أقترب من الممر المسقوف الواصل بين الساحات وبين غرفة العرض، أعرف أنها الغرفة التي رأيت فيها زوجتي وأولادي لأول مرة بعد أربعة عشر عاماً.

خلاص خلاص.. لا فائدة.. ليكن خلاصاً.. فات أوان التساؤلات واللوم ومحاولة الفهم.. سامحهم الله وغفر لهم..أما كان من الممكن تجنب هذا كله، ترى هل يعرفون فعلاً ما نعيشه، لا لا تفكر بهذه الطريقة، فكرت وانتهى الأمر. دفعنا ثمن كل الأخطاء والخلافات وتقلبات الأمزجة والآراء والأنانيات والحماقات وسوء التقديرات، وربما الاختراقات.. لماذا (ربما).. من الذي يضحك يبكي.. لست أنا.. لست أنا.. أنا أنتظر دوري تحت سقف الآن.. انتهينا من ساعات لذع الشمس، والدقائق القادمة مصيرية، أريد أن ترجح كفة حسناتي هذه المرة، اكتفيت من تدمر. أريد أن أعبر هذا البرزخ إلى الحرية ولو على أعتاب الخمسين..هه.. لازلت أذكر هذه العبارات الجاهزة..

حط الطميشة عالأرض حاضر.. هاهم حكامنا حكماؤنا الكبار. من هم ما هم كيف حدث أن أصبحت ملكاً لهم: حياتي موتي حريتي أشواقي كلماتي دمي دموعي جلدي شعري عظامي معدتي مثانتي أمعائي الدقيقة والغليظة وحتى.. بعد تسعة عشر عاماً ألا تتساوى الأشياء.. بعد تسعة عشر عاماً ما الذي تستطيع التنازل عنه مقابل الحرية.. ما الذي ستسمح لهم باستغلاله فيك لكي يمنوا على جسدك بالحرية ما تبقى من الكهولة والشيخوخة..وما أدراك أنك لن تحمل سجنك معك.

هاهم. رجال بشعر على الوجوه والرؤوس بخصى وهرمونات ذكورة لا شك أنهم يعرفون كيف يستمتعون بها، أنا رجل أيضاً بالمواصفات نفسها، الفارق الأساسي بيننا لا يكمن في النسج ولا الأعضاء ولا فيما بين الفخذين..أرادوا محق رجولتي.. أرادوا سحق إنسانيتي .. مثانتي تتململ. إنه محو للإنسانية.. الإنسانية هي العدو فينا، تحويلنا إلى مسوخ شوهاء راضخة مذعورة هو المقصود.. المقصود أن ننمحي نتحول إلى كتل لحمية أكبر همها أن تعيش الحد الأدنى من الأوجاع حين لا تستطيع التأقلم مع الحد الأدنى من مقومات العيش المتاحة.. لازلت أحمل صورة رجل، فهل تراني أخفي وراء هذا الهيكل أية بقايا من إنسانيتي أو كرامتي.. كيف أتحقق وأنا أعيش هذه الحياة الحقيرة المسخ، جدران قبيحة وساحات قبيحة ووجوه قبيحة وكلمات قبيحة وآلام قبيحة وحاجات قبيحة لا يمكن قضاؤها إلا بمهانة.

هاهم أولاء الذين ماعلموا لك من إله غيرهم.. القادرون القاهرون الجبارون المنتقمون المعطون المانعون ..هاهم اليوم يدعونك إلى العرض لا تخفى منك خافية.. أستغفر الله العظيم..اللهم أعني وألهمني رشدي رضيت بك رباً وبالإسلام دينا.. اللهم رب السموات السبع وما أظلت ورب الأرضين السبع وما أقلت ورب الشياطين وما أضلت كن لي جاراً من شر هؤلاء الظالمين من أن يفرُط علي أحد منهم أو أن يبغي، عز جارك وجل ثناؤك.كانوا سواعد يمنى ويسرى.. ولعلهم تحولوا إلى رؤوس.. تحدث في وطني طفرات عجيبة لا أقبل بأي تفسير لها، وليس تولي الأمير الصغير  الحكم بعد أبيه بأقل شأناً..هه ..معك حق ليس وقته.. تستطيع أن تمنع لسانك لا تستطيع أن تمنع أفكارك.. لكنك أدبت تسعة عشر عاماً على أفكار.. هل يعرفون أنها لم تتغير إلى ما يريدون..

 انتبه يا رجل هذا أكبرهم  أبشعهم قلباً على رأس المكتب.. إلى يمينه اثنان أعرفهما وعن يساره مدير السجن وثالث لا أعرفه يشكلون قوس دائرة قبالتي.

يضع قلمه بتؤدة أمامه، ينظر إلي بهدوء.ياالله اللهم إني أجعلك في نحورهم وأعوذ بك من شرورهم. يقول بصوت يتصنع المرح:

-  شو يا محمد هات احكيلنا عن الإخوان.. أعطنا لمحة سريعة عنهم

يظنّون أني لازلت أعرف الإخوان خيراً منهم.

-  مجرمون قتلة سيدي..

يمصمص الضابط الكبير شفتيه بأسف:

-  شو مجرمون قتلة.. هدول(4) كفار خربوا الاقتصاد والوطن

يطول أمد موت الكرامة يطول كثيراً.. كلما ظننتها لفظت أنفاسها يفاجئك انبعاثها وكأنها من موتى الأساطير، يرعبك أنها لازالت حية، فموتها قد يسهل حياة الأجساد قليلاً. لكن قد يَخِزك في أعماقك فرح بأنها لا تموت.. لعلها ذات خلود قاس يضرب حولك حصاراً تحتاجه حتى لا تتساوى مع حيوان، حتى لا يتساوى لديك الموت والحياة وأنت مؤمن، حتى لا تفرط بهبة الحياة وأنت مؤمن: اللهم أحيني مادامت الحياة خيراً لي وأمتني ما كان الموت خيراً لي.

-  سيدي مجرمون قتلة خربوا الاقتصاد والوطن

-  هدول كفار قلتلك، بدنا(5) نطالعك عالتلفزيون لتقول إنهم كفرة..

هل توقعت هذا أيها الذكي؟ هل يفعلونها؟ من أنا حتى يضعوني في هذا الموقف؟ أهو مجرد لعب بالأعصاب.. سخرية من ضعفي وانعدام حيلتي أمامهم . لا أستطيع المجازفة .. بعد تسع عشرة سنة ما الفرق؟ يعني أنكرت وكابرت حتى شاب شعرك بشهادة الشباب وما تحمله شفرة الحلاقة. 

- سيدي أنا تخصصي علوم طبيعية، اسألني في العلوم أجبك.. أما معلوماتي الشرعية فمتواضعة..

 يتصايحون في استهجان، أصوات تبرطم وتعوي حولي، عريضة شبعانة ريانة يجددها التجشؤ وابتلاع الريق في تجاويف فموية نشفها التدخين: كيف؟ كيف.. هؤلاء كفار! مدير السجن الذي يظن أن لكلامه قيمة يجدد الإنكار: أليسوا كفرة، الذي لا أعرفه يسألني: ألم يظلموك ويظلموا زوجتك وأولادك؟

-  أكيد سيدي ظلموني وظلموا زوجتي وأولادي.

سيدي سيدي.. أتذكر كم كانت كلمة كريهة مهينة لك في أيامك الأولى؟

لم أتوقع أن ردي سيحدث كل هذه الجلبة، يمنحونني نشوة لم أحلم بها، كأني أكافأ، كأني أسترد منهم شيئاً.

يسكتهم الكبير بحزم: اسمعوا اسكتوا..

- شو يامحمد مو كفار؟

- سيدي قلت لك مجرمين قتلة خربوا الاقتصاد والوطن..

أفهم حركة رأسه تماماً وهو ينظر إلى العسكري المستعد ورائي.. أنحني لألتقط طماشتي على باب الغرفة فيفاجئني بركلة على الخاصرة وأخرى على مؤخرتي.. كم أنا بحاجة لتفريغ مثانتي.. يدفعني يجرجرني يرميني أمام جدار لأنتظر المزيد من المعروضين.. إذا تجاوز عددنا العشرة يعيدنا إلى مهاجعنا.. يوصي رفاقه بي فأتلقى كل ما فاتني خلال ساعات الانتظار التي سبقت العرض...

لدى دخولي المهجع بعد تسع ساعات أتصامم لأكثر من سبب، ومن قال إن سمعي لازال سليماً تماماً، أقضي حاجتي بكل امتنان.. أغسل رأسي برفق وأتحسس بشيء من العطف بضع فقاعات كأن الشمس نفثت فيها من لهيبها، لم  أستطع حمايتك..

حوارات كثيرة متناقضة  تطنّ حولي وتئزّ وتضجّ وتدوّي..أفهم بعض الانهيار والاستسلام. يحزنني، بعض اللهفة بعض الضعف بعض التحدي.. الكثير من الأمل بأن الإفراجات ستكون كثيرة. يصل بعدي إبراهيم طبيب الأسنان: عسى خيراً؟

أناوله قصاصة الأظافر وأقول له بصوت لا أعرفه: خذ الله يرضى عليك اقلع لي هذين الضرسين، يؤلمانني من مدة، أخشى أن تخرج وليس لدي غيرك.

ضحكنا بقوة من حنجرتين متفهّمتين، دمعت عيناه واستجابت عيناي.

____________________

1. عصابة للعينين

2. ويل لك

3. نافذة في أعلى باب الزنزانة    

4. هؤلاء

5. نريد، وأصلها : بودّنا

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ