المواطن
السوري ...
أين
يقف من تقرير "ديتلف ميليس"
المرتقب؟
الطاهر
إبراهيم*
مع اقتراب موعد
إعلان القاضي الألماني "ديتلف
ميليس" لتقريره العتيد، الذي
سيعلن فيه نتائج تحقيقاته في
جريمة اغتيال رئيس الوزراء
اللبناني الأسبق "رفيق
الحريري"، فإن أكثر من طرف
يتأهب لإظهار ردود فعله على
النتائج التي سيخرج بها هذا
التقرير.
وإذا كانت
الأطراف الدولية
والإقليمية،والمحلية في كل من
سورية ولبنان قد سربت ،بشكل أو
بآخر، ما سيكون عليه ردود
أفعالها على ذلك التقرير، فإن
ما يهمنا هنا هو استكناه موقف
المواطن السوري، الذي ما تزال
مواقفه من الأحداث الدولية
والمحلية مغيبة، بعد أن قامت
أجهزة إعلام النظام البعثي
باحتكار تلك المواقف، وتقييدها
في خانة التطابق الكامل مع
مواقف هذا النظام.
وإذا كان من
المفترض أن يؤخذ رأي الشعب
السوري في القضايا التي تهمه،
ككل الشعوب الأخرى، فيبقى
السؤال كيف نستطيع قياس رأي
المواطن السوري من هذه القضايا،
في وقت هو محاصر فيه من أجهزة
أمن النظام البعثي، في منزله
،وعمله، وشارعه، فلا تسمح لأية
جهة إعلامية مستقلة بالاتصال به
وسؤاله عن رأيه في هذه القضية أو
تلك التي تمسه مباشرة، تحت
طائلة الحصار والضرب
والاعتقال؟.
ولقد شهدت دمشق
وحلب والقامشلي مؤخرا بعض
الاستثناءات في نوع من جس نبض
أجهزة الأمن. فحاول البعض من
ناشطي المجتمع المدني أن يكسروا
حاجز الخوف، عند ما اعتصم بضع
مئات أمام مجلس النواب مطالبين
بإلغاء قانون الطوارئ فتم
اعتقال أغلبهم. كما حاول بضع
مئات من الأكراد الاعتصام في
دمشق بداية هذا الشهر تشرين
الأول، في ذكرى الإحصاء
الاستثنائي في عام 1962،الذي تم
فيه تجريد أكثر من 120.000 كردي
من الجنسية السورية، وتم اعتقال
الكثير منهم.
في عهد الرئيس
الراحل حافظ الأسد،كان هذا
النوع من "قياس الرأي" ضربا
من المستحيل. فهو من جهة لامعنى
لقياس الرأي بين مواطنين صوت
كلهم ب "نعم" للرئيس القائد
في كل الاستفتاءات على الرئاسة.
وفي واحد من تلك الاستفتاءات لم
يصوت ب "لا" إلا 18 مواطنا من
بين 18 مليون مواطن سوري!. ومن جهة
أخرى فسوف يشطب من سجلات
الأحوال المدنية كل من يدلي
برأيه في قضية، للنظام فيها رأي
مختلف. لأنه ببساطة سيُلقى به في
المعتقلات ويصفى جسديا في
المحاكمات الصورية مثل التي
كانت تجري في سجن تدمر بتهمة
توهين النظام والعداء للدستور و...
و...
وإذا كانت نسبة
الموافقين قد تواضعت لتصل إلى 97%
في الاستفتاء على رئاسة الدكتور
بشار الأسد في تموز من عام 2000
بعد موت والده،فإن هذه النسبة
لا تسمح "منطقيا" بأخذ رأي
قلة من الناس لا تتجاوز واحدا من
بين كل ثلاثين مواطن.
ومع أن النظام
السوري ما يزال يوحي في وسائل
إعلامه بأنه ما يزال يمسك
بالأمور، وأن كل شيء على ما هو
عليه، وأن العلاقة بين المواطن
والنظام "سهيدة ومهيدة"،
فإن الأمور تغيرت كثيرا بعد
اغتيال الرئيس الحريري وبعد
انسحاب الجيش السوري من لبنان
قبل 30 نيسان الماضي. كما بدأت
تطفو على السطح ملامح تضاؤل في
حجم هذا النظام.
فبعد أن كانت
سورية لاعبا سياسيا هاما على
الساحة العربية، تشارك في بحث
كل القضايا العربية الساخنة مثل
قضية فلسطين وقضية العراق،
أصبحت سورية الآن قضية يتداعى
لها قلة من العرب كي لا يتم
عزلها عن محيطها كما أشارإلى
ذلك الأمين العام للجامعة
العربية "عمرو موسى" ، أو
كما أعلنه الناطق الرسمي باسم
الرئيس المصري بعد الزيارة التي
قام بها الرئيس السوري لمصر
مؤخرا.
المواطن السوري
يرفض الاعتداء على حياة الإنسان
وإذا كان المواطن
السوري ينسجم مع الشرع
الإسلامي، ويرفض الاعتداء على
حياة أي إنسان، مهما كان جنسه
ودينه، فإنه يرفض ذلك أكثر
عندما يكون هذا الاعتداء على
مواطن من دولة شقيقة،بل ورئيس
وزراء أسبق مثل الرئيس المرحوم
الحريري. وهو بهذا الرفض إنما
يذكّر بالأساليب الوحشية التي
كانت تستخدمها عناصر مخابرات
النظام البعثي في ملاحقة الذين
اعتبرتهم معارضين للنظام، في
داخل سورية وخارجها.
وإذا كان سجل
النظام السوري حافلا بعشرات
آلاف الضحايا الذين أزهقت
أرواحهم داخل السجون وفي
الساحات العامة جهارا نهارا،
مثل مذبحة مقبرة "المشارقة"
في حلب صبيحة عيد الفطر في عام
1980، تم فيها إعدام أكثر من مئة
مواطن كانوا "يعايدون"
أقرباءهم. وكانت الدول
الأوروبية وكأنها غائبة عن مثل
تلك الجرائم، فلن نقرأ أو نسمع
لها تنديدا بأي من تلك الجرائم،
فإنه مما يؤسف له أن تلك الدول
لم تندد باغتيال شخصيات سورية
مرموقة قام النظام باغتيالها في
تلك الدول نفسها.
فلقد
قامت المخابرات السورية
باغتيال صلاح البيطار (أول رئيس
وزراء بعثي في سورية عام 1963) في
باريس عام 1980. كما اغتالت
المهندس نزار صباغ في مدريد في
عام 1981 أيضا في أسبانيا.
ولعل الجريمة
البشعة التي لم تحظ بأي تنديد،
هي اغتيال الشهيدة "بنان
الطنطاوي" -بنت العلامة
السوري الشيخ "علي الطنطاوي"
وزوجة الأستاذ "عصام العطار"
المراقب العام الأسبق لجماعة
لإخوان المسلمين في سورية-، في
"آخن" في ألمانيا عام 1981.
ومهما كانت
الأسباب التي دعت أمريكا
وأوروبا للتنديد باغتيال
الحريري،فإن للمواطن السوري
أسبابه المبدئية في إظهار
التنديد بالجريمة، لا يقعده عن
ذلك الخوف من أن يقال أنه أمريكي
الهوى. وسيظل يأمل بتقديم
المجرمين إلى المحاكمة في محكمة
لبنانية أو محكمة دولية لا فرق.
ولا يعتبر المواطن السوري ذلك
خرقا للسيادة الوطنية،لأن
المجرم لا حرمة له ولا حصانة.
لقد كان "عمرو
بن العاص" أكرم عند عمر بن
الخطاب من الذين اغتالوا الشهيد
الحريري، ومع ذلك فقد أشخصه مع
ابنه إلى المدينة المنورة، في
قصة القبطي المشهورة، وقال له:
"متى استعبدتم الناس يا عمرو
وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.
ورغم كل الدعايات
الممجوجة عن الحرية التي جعلها
البعثيون ثاني أهدافهم، فإن
المواطن السوري لم يتمتع
بالحرية تحت حكم نظام البعث ولو
بنسبة ضئيلة مما يتمتع بها عباد
الله في كثير من بلدان العالم
الثالث. ولعله كان أقرب إلى
العبودية إذا ما قورن بالحرية
التي نوه بها عمر. بل إنه مواطن
من الدرجة الثانية second class ،في ظل الدستور
البعثي الذي نص في مادته
الثامنة على أن: "حزب البعث
قائد للدولة والمجتمع".
لقد حاول النظام
البعثي في سورية أن يتملص من
مثول أعضاء أجهزته
الأمنية،الذين تحوم حولهم شبهة
اغتيال الشهيد الحريري، أمام
القاضي "ديتليف ميليس"
بزعم أن ذلك يتنافى مع السيادة
الوطنية.وينسى النظام أن أجهزة
مخابراته اخترقت السيادة
الوطنية في "دولة عربية"
مجاورة عندما أرسلت إليها عام
1981عناصر من سرايا الدفاع
لاغتيال رئيس وزراء تلك الدولة،
فألقي القبض عليهم واعترفوا
بجريمتهم النكراء -التي لم
يتمكنوا من تنفيذها- أمام عدسات
التلفزيون،حتى وصف أحدهم تلك
الفضيحة بأنها "ووتر غيت
بعثية".
المواطن السوري
ليس حياديا في جريمة اغتيال
الحريري.فهو مع مثول من يدان
بالجريمة أمام القضاء مهما كان
منصبه في سورية ولبنان.ولا
يعتبر ذلك انتقاصا من السيادة
الوطنية ،كما يزعم سدنة النظام.
وإذا ما تبين في التقرير الذي
يعكف القاضي "ميليس" على
كتابته، أن واحدا أو أكثر من
مسئولي نظام حزب البعث متورط في
اغتيال الرئيس الحريري وثبت ذلك
بالبينة والبرهان، تخطيطا أو
تنفيذا، فيجب وضع الحديد في يدي
من يدان، وسوقه كما يساق
المجرمون –بل إنه أعرق في
الجريمة من غيره- ليحاكم وينال
جزاءه العادل. بل إن القصاص ممن
تثبت إدانته بجريمة الاغتيال
،أيا كان المدان، هو أقل ما يفعل
لجبر خواطر أفراد أسرة الحريري
،بل والسوريين واللبنانيين،
الذين فجعوا بمقتله.
وعلى كتّاب نظام
حزب البعث ومن يؤازرهم من خارج
سورية، الذين يتباكون على
السيادة السورية الوطنية، أن
يتذكروا أننا لم نقرأ لواحد
منهم كلمة احتجاج واحدة على
الإعدامات التي كانت تجري في
ساحات سجن تدمر بمعدل ثلاث
وجبات إعدام في كل أسبوع، (يمكن
العودة إلى ما أفاد به المحامي
"هيثم المالح" في برنامج
"بلا حدود" الذي بثته قناة
الجزيرة في صيف عام 2002) كل وجبة
تزيد عن مائة معتقل،من خلال
محاكم صورية، ليس فيها محامٍ
ولا صحيفة اتهامات ولا أي دليل
إدانة، إلا ما جاء في قانون "الذبح"
رقم 49 لعام 1980، الذي أصدره
الرئيس حافظ الأسد،ورفع
ببغاوات مجلس الشعب أصابعهم
مصادقين عليه، من دون أن يطرف
لأي واحد منهم جفنٌ واحد،
وكأنهم إنما يصادقون على ذبح
خراف العيد.
*كاتب سوري معارض يعيش في
المنفى
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|