إذا
عرف السبب بطل العجب
ثائر
معتوق
Thair_matouq@hotmail.com
إن المتأمل في الحال
السوري ليعروه العجب من هذا
التخبط الفظيع الذي يعيشه
النظام من قمته إلى قاعدته هذه
الأيام ، ولم يتأت هذا التخبط من
فراغ ، فحال هذا النظام لا تسر
عدواً ولا صديقاً ، خاصة بعد أن
بدت عوراته وتكشفت عيوبه ،
وتعرى من ورقة التوت التي كانت
تستره طيلة العقود الأربعة
المنصرمة ، وقد ربط كثير من
العاملين في حقل السياسة بين
حالة النظام المتردية وبين
الممارسات القمعية اللامحدودة
التي مارسها النظام ضد القوى
السياسية في سوريا التي وصلت
إلى درجة الإقصاء ، إقصاء
الجميع ، فالوطن مزرعة البعث
الأسدي الخاصة طيلة فترة حكم
الأسد الأب وهي كذلك ـ على ما
يبدو ـ في السنوات الخمس الأولى
من حكم الأسد الابن ، فلا معارضة
حقيقية داخل الوطن ، والمعارضة
الموجودة معارضة رسمية لإكمال
الديكور ، فالبعث هو الحاكم
الوحيد والحصري للبلد ، وهذا
مضمون بنص الدستور ، ووهو ما تم
تكريسه طيلة الفترة الماضية ،
وقد كان النصيب الأوفر من هذا
والإقصاء الذي وصل إلى محاولة
التصفية والتطهير من نصيب جماعة
الإخوان المسلمين فقد وصل الحال
بينها وبين السلطة الحاكمة إلى
درجة كسر العظم أو كاد ، وما حصل
لأبناء هذه الجماعة في
تدمر وحماة وحلب وجسر الشغور
وغيرها ليس بخاف على أحد ، وقد
أيقن المراقبون أن الانفراج غير
متوقع في سوريا طالما أن رأس
النظام [حافظ الأسد] على قيد
الحياة فقبضته الحديدية تمسك
بالنظام وهي مستعدة لخوض أشرس
المعارك ضد من تسول له نفسه
بمجرد التفكير بحق المشاركة في
العملية السياسية أو فكر
بالتغيير ، مهما بعد أصحاب هذه
المحاولات أو قربوا ، من هذا
المنطلق راح العاملون في حقل
السياسة يتوقعون حدوث هذا
الانفراج في فترة ما بعد حافظ
الأسد ، فراحوا يرسمون صورة
الوضع الذي ستؤول إليه الأوضاع
في سوريا ـ ما بعد حافظ الأسد ـ
وراحوا يتخيلون حالة الحراك
السياسي الذي ستشهده سوريا
وحركة البناء والتجديد وانطلاق
مرحلة الحريات والتعددية
السياسية و ... وقد خاب فأل
الجميع ، ذلك لأن حافظ الأسد وهو
على فراش الموت ـ على ما يبدو ـ
حبك اللعبة مع أركان النظام
والطائفة العلوية وفرض إرادته ،
بأن يجعل من نجله الدكتور بشار
خليفة له من بعده ، وأخذ البيعة
له منهم ، ولا غرابة بعد ذلك من
أن يتم تغيير الدستور السوري
ليناسب مقاسات الخليفة الدكتور
بشار في غضون ربع ساعة أو يزيد
قليلاً ،
وبذا أهدى القائد الملهم الأسد
الأب للشعب [ الذي انتخبه للأبد ]
قائداً ملهماً آخر يقفو الخطا
ويكمل المسيرة ، ولم يترك هذا
الشعب المسكين يتيماً ، فقد
عوده على الوفاء طيلة الثلاثين
سنة التي حكمه فيها بالحديد
والنار ، وكما يقال في المثل:
الولد سر أبيه، فقد كان الخليفة
عند حسن ظن الأب ، فخرج على
الشعب السوري بعد أيام من إتمام
مراسيم الدفن والعزاء وبيمينه
خطاب القسم الذي ربما أعد على
عين الأسد الأب لينام قرير
العين في مثواه الأخير ،
مطمئناً الشعب المحب بأن سوريا
ستشهد تحولاً لا نظير له في
المنطقة العربية من جميع
النواحي السياسية والاجتماعية
والاقتصادية ، وسيشهد ازدهاراً
اقتصادياً وتكنولوجيا وثورة
معلوماتية تبهر الأبصار تضع
سوريا في مصاف الدولة مصنعة هذه
التقنيات ، وراح المحللون
السياسيون على إثر ذلك يفندون
خطاب القسم كلمة كلمة ، فكلمات
هكذا خطاب تكون في العادة حمالة
أوجه ، ولكل كلمة معناها في
السياقات المتعددة ، وراحوا
يدعون لإعطاء الأسد الابن ـ
الرئيس الشاب ـ فترة زمنية
كافية ليتمكن من الإمساك
بمقاليد الأمور ، خاصة وأنه قد
تحمل تركة الأسد الأب ، التي
تعد بحق تركة ثقيلة ، بل لتعد من
أثقل التركات سياسياً
واقتصادياً ناهيك عن أمنياً ،
فالنواحي الأمنية الداخلية
والإقليمية والدولية وحدها
تحتاج لرجل محنك سياسياً
ليلعبها بصورة صحيحة متوازنة ،
ناهيك عن أن الرئيس الشاب سيلقى
مقاومة شديدة من الحرس القديم ـ
رفاق الوالد ـ أولئك الذين كان
يناديهم إلى فترة قريبة وبلا
تردد بكلمة [ عمو .. ] ، فأصبح
بقدرة قادر يصدر لهم الأوامر ،
وقد وقعت المعارضة في هذا المطب
أوهكذا بدا للمراقبين، فألانت
للرئيس الجديد الجانب ، وراحت
تدندن على الوتر ذاته ، ظناً
منها أن خطاب القسم الذي ألقاه
الرئيس في حفل التنصيب ما هو إلا
مؤشر على سياسة القائد
المستقبلية ، وأن إطلاق الحريات
أصبح قاب قوسين أو أدنى ، وأن
سورية ستتعافى من حالة الاحتقان
التي هي فيه ، وستعود إلى سالف
عهدها من الحرية السياسية [ إبان
الاستقلال ] يوم كان حزب البعث
الحاكم أحد أحزاب المعارضة ،
وأن قانون الطوارئ والأحكام
العرفية ستلقى نهايتها
المحتومة على يد الرئيس الشاب
المتنور ، وراح الجميع يمنون
النفس بعيشة ممرعة ، يسود فيها
القانون وتظللها الديمقراطية ،
وتقلم فيها أظافر الأجهزة
الأمنية السبعة عشر التي خلفها
حافظ الأسد لابنه ليتابع
المسيرة الظافرة ، وتكف أيدي
المتنفذين ، ويكافح الفساد الذي
استشرى في البلاد ، ليستريح
العباد وتنعم البلاد .. وانتظر
الشعب وانتظرت المعارضة
بأطيافها القوس قزحية ، لكن
انتظارها قد طال فها هو العام
الخامس من ولاية الرئيس بشار
الأسد قد شارفت على الانتهاء ،
ولم ينفذ الرئيس الشاب من خطاب
القسم شيئاً يذكر ، ولم يكن
الخطاب إلا كلاماً في كلام ، لذر
الرماد في العيون ، وإخفاء
النوايا المبيتة على الاستمرار
في النهج ذاته ، وبالفعل فقد أدى
خطاب القسم دوره في تسويق
الرئيس الجديد ، الذي كان أول
خليفة لأبيه في الجمهورية
الملكية السورية ـ مزرعة آل
الأسد الخاصة ـ ومن بعدها تعلقت
أنظار الجميع بالمؤتمر
القطري العاشر لحزب البعث الذي
يتزامن مع هذه الذكرى ، فربما
تركها بشار الأسد مفاجأة للشعب
السوري وللعالم أجمع ، فلا بد
للرئيس من إقصاء كبار أعضاء
القيادة القطرية ليتسنى له
إصدار القرارات التي يريدها دون
معارضة أحد ، وبدأ الغليان من
جديد فوسائل الإعلام بأشكالها
المختلفة لم يعد لها من هم سوى
التكهن بما سينجلي عنه هذا
المؤتمر المصيري ، الذي
سيغير مجرى تاريخ سورية ،
وسيكون بوسع الجميع العيش تحت
سقف الوطن الرحب ، وانصبت
التحليلات على ما سيتمخض عنه
هذا المؤتمر من قرارات ينتظرها
الشعب السوري بفارغ الصبر
قرارات سياسية وأخرى اقتصادية
تضع حداً للحالة المزرية التي
يعيشها المواطن السوري ، بل
سيكون في هذا المؤتمر الرد
المخرس على الاتهامات
الأمريكية للنظام السوري ، ولن
تجد أمريكا بعدها نفسها إلا
وحيدة في خندق المواجهة ،
وسيسحب النظام السوري البساط من
تحت قدمي أمريكا ، وسيرد على كل
التمحكات والذرائع الأمريكية
بكل ما أوتي من قوة ، فها هو ذا
الجيش السوري قد أتم انسحابه من
لبنان في وقت قياسي كلمح البصر ،
وودع بالورود من قبل الشعب
اللبناني ، وبهذا الانسحاب تكون
سوريا قد نفذت قرار الأمم
المتحدة الجائر رقم 1559 القاضي
بذلك ، وهاهي الدوريات السورية تجوب
الحدود السورية العراقية ، لمنع
المتسللين من وإلى العراق ،
ويشهد على ذلك الساتر الترابي
الذي نقلت تفاصيله المملة شاشات
التلفاز السوري والفضائيات
العالمية ، وها هي البعثات
الدبلوماسية الأوربية تشهد على
ذلك ، وها هي مكاتب الفصائل
الفلسطينية الإسلامية خاصة ـ
حماس والجهاد ـ تغلق أبوابها في
دمشق على مرأى المراقبين
ومسمعهم ، وها هو المؤتمر
القطري العاشر على وشك الانعقاد
، أجل لقد تعلقت الأبصار بهذا
المؤتمر، وليته لم ينعقد ، فقد
خيب هذا المؤتمر آمال الشعب
والأمة والعالم إلا الرفاق
البعثيين ، الذين سعدوا ولعدة
أيام برؤية أنفسم أمام عدسات
الكاميرات وعلى شاشات
الفضائيات العالمية ، أولائك
الذين اتفقت كلمتهم على أن لا
تغيير ولا حريات ولا إصلاح ولا
انفتاح ولا ديمقراطية حقيقية
ولا معارضة ولا ما يحزنون ، بل
خطوط حمراء وأخرى سوداء
فالمعارضة [ في رأيهم ] معارضتان:
معارضة شريفة تعمل من داخل
الوطن [ ويعنون بها المعارضة
الديكورية [ أحزاب الجبهة حصراً
] ، ومعارضة مأجورة عميلة
للإمبريالية و... وهي التي تعمل
من خارج الوطن والإخوان
المسلمون خط أحمر وهنا مربط
الفرس ، ومكمن الداء ، ولا بد
هنا من طرح بعض التساؤلات
المهمة: لماذا يتعامل النظام
السوري مع الإخوان المسلمين في
شتى بقاع الأرض ، ويستقبل
وفودهم من مصر والسودان وتونس
واليمن والأردن وفلسطين وتركيا
وغيرها ؟ ويرفض بكل إصرار
الإخوان المسلمين السوريين ،
أولئك الذين اكتووا بنار النظام
طيلة العقود الماضية ، وكانوا
ضحية لنزوات أركانه القتلة ،
حيث امتلأت بهم ـ في مطلع
ثمانينات القرن الماضي ـ
المعتقلات والسجون والمقابر ،
ناهيك عن تشريد وتهجير عشرات بل
مئات الآلاف في شتى أقطار الأرض
؟ هل لأنهم نبذوا العنف في كل
المحافل ، واحتكموا لمنطق العقل
والسياسة ، وأعلنوا استعدادهم
مراراً وتكراراً لخوض اللعبة
السياسية على أصولها
الديمقراطية ، وعن قبولهم
الاحتكام لصناديق الاقتراع ،
مهما كانت النتائج ، وأكدوا
التزامهم بالتداول السلمي
للسلطة ، لماذا هم بالذات خط
أحمر؟ هل لأن لهم رصيداً لا
يستهان به بين أبناء الشعب
السوري وأن عودتهم للعمل في
الحقل السياسي سيفقد حزب البعث
شعبيته وشرعيته ؟ هل ؟ وهل ؟
أسئلة كثيرة تطرح ولا جواب مقنع
، وهذا هو المحير حقاً ، فالرئيس
بشار الأسد لم يكن إلا طفلاً في
العاشرة أو الحادية عشرة من
عمره إبان الأحداث الدامية التي
تولى النظام السوري كبرها في
عهد أبيه ، فلم تكن مجزرة حماة
على عهده ، ولم تتم تصفية عشرات
الآلاف في السجون السورية
بمحاكمات صورية على عهده ، ولم ..
ولم .. فما
هو السر في هذا الخط الأحمر على
الإخوان المسلمين بالذات دون
غيرهم ؟ نقولها وبكل صراحة : إن
الرئيس الشاب بإرادة منه أو
بغير إرادة ، قبل أن يتحمل إصر
جرائم أبيه وممارساته القمعية
وأركان نظامه من اللحظة الأولى
، فليس الموضوع موضوع تمكن من
السلطة ، ولا حرس قديم ولا جديد
، وليس الموضوع موضوع خطاب قسم
يلتزم بما جاء فيه ، إنه
وبكل صراحة موضوع
دماء أريقت ، ونفوس أزهقت ـ بغير
وجه حق ـ على مدى عقدين من الزمن
إنها دماء عشرات الآلاف من
الأبرياء من أبناء سوريا ممن
أعدمهم النظام في السجون
السورية دون رعاية لأي حق من
حقوق الإنسان ، إنها مسؤولية
مصير عشرات الآلاف من المغيبين
ـ لربع
قرن مضى ـ أولئك الذين يقدر
عددهم بعشرين ألف في أقل
التقديرات ، أخذوا من بيوتهم
منذ أواخر سبعينيات القرن
الماضي ، وانقطعت أخبارهم إلى
هذا التاريخ ، سيقوا إلى السجون
السورية ، تلك التي لم ترحم
طفلاً ولا امرأة ولا شيخاً
كبيراً، إنها مسألة حقوق لأناس
قتلوا وغيبوا وشردوا فهل يستطيع
الرئيس الشاب تحمل مسؤولية
انفراج سياسي هذه بعض
استحقاقاته ؟ ليت الرئيس بشار
الأسد كان شجاعاً وصادقاً مع
نفسه ومع شعبه ، ليته وقف منذ
اللحظة الأولى ليقول إن فترة
حكم حافط الأسد قد ولت بعجرها
وبجرها، وهاهي يدي تمتد لأبناء
الشعب السوري الذي عرف بالتسامح
على مر العصور ، وأنا كفيل
بتصحيح هذه الأخطاء رغم عدم
مسؤوليتي المباشرة عنها ، سأبيض
السجون ممن
المعتقلين ، وأسعى للكشف عن
مصير المفقودين ، وسأحاسب
المسؤولين ،
وسأصدر عفواً عاماً عن كل
المهجرين قسرياً ، وألغي قانون
الطوارئ وقانون 49 الذي يعد بحق
وصمة عار في جبين من شرعه ،
وسأسعى لإقامة نهضة شاملة في
البلاد ، وأقضي على الفساد ،
وأطلق الحريات العامة ، فالناس
جميعاً متساوون في الحقوق
والواجبات ...
ولكن الرئيس الشاب قد
أخطأ الهدف منذ الوهلة الأولى ،
وراح يفلسف خطاباته ويبرر لنفسه
ـ وهو ليس بحاجة لكل ذلك ـ
فالأمور واضحة وضوح الشمس في
رابعة النهار فسوريا لا تحتاج
إلى خطابات وأقوال بل تحتاج إلى
أفعال حقيقية تنتشلها من بؤرة
الاستهداف وشرور التمزيق وما
العراق عنها ببعيد فهل من معتبر
..
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|