رايس
ودبلوماسية الفوضى
د.
محمد الغزي
الشغل
الشاغل للولايات المتحدة
الأمريكية في هذا القرن لبناء
ما تسميه النظام العالمي الجديد
هو التأكد من مطابقة الأنظمة
الحاكمة لمواصفاتها ومعاييرها (المتناقضة)،
فالإدارة الأمريكية تتعهد
أنظمة الحكم في الدول العربية
بالصيانة والترميم فتعين
أزلاما وتتخلص من أخرى وتبدل
الأدوار فيما بين عملائها،
وتعيد تدوير الأنظمة البالية
التي تآكلت عبر سنوات حكمها
الطويلة جراء الفساد وفقدان
أهليتها وشرعيتها للحكم، وتنقذ
أنظمة آيلة للسقوط وانتهت
صلاحيتها بعقد صفقات الابتزاز
معها، وتروض أنظمة متمردة
لإجبارها على الانصياع
لمطالبها الجائرة، وتستخدم
التهديد والوعيد بالخلع
والإبعاد كلما لزم الأمر وسنحت
الفرصة لأنظمة تعتبرها مارقة.
تقوم
الإدارة الأمريكية بكل هذا
مسترشدة بأفكار صاحب نظرية «نهاية
الحضارات» وهو الأستاذ الجامعي
الأمريكي فوكوياما المنحدر من
أصل وثني ياباني صاحب النظريات
المتضاربة بين إضعاف الأنظمة
الحاكمة أمام مؤسسات المجتمع
المدني وبين توسيع سلطات
الأنظمة التشريعية والتنفيذية
ودعم قدرتها على القمع وتقييد
الشعوب، مما أحدث فوضى كبيرة
لمنتهجي أفكاره ونظرياته،
وتُولي الإدارة الأمريكية
أهمية خاصة لمنطقتنا العربية
التي تحتوي على عصب حياة
الحضارة الغربية المادية بهدف
ضمان الحصول على النفط بالسعر
والكمية التي ترغبها الولايات
المتحدة، وبهدف إحباط أي محاولة
لنهضة حضارية إسلامية عالمية
كبديل عن الحضارة
الغربية المتهالكة.
ومنذ
توليها منصبها الجديد تحاول
وزيرة الخارجية الأمريكية
كوندوليزا رايس الخروج قليلا عن
الأسلوب القديم لسياسة بلادها
الخارجية تجاه العالم العربي
التي تعتمد على إدارة ثلاث
عناصر هي العميل وفئة المنتفعين
والفئة المهمشة المهشمة، فلجأت
إلى «دبلوماسية الفوضى» في
إدارة العلاقات الأمريكية مع
دول المنطقة العربية بشكل خاص،
فأطلقت رايس تعبير «الفوضى
الخلاقة» لأول مرة عند محاولة
الإدارة الأمريكية البحث عن
شركاء لها في المنطقة من داخل
الحركات الإسلامية –التي طالما
ناصبتها واشنطن العداء وعملت
على تهميشها سياسيا– وذلك
لاستبدال الأنظمة التي تعاني من
الهشاشة وعدم القدرة على الصمود
أما المعارضة المتنامية، في
محاولة مريضة لإزالة التهديد
لمصالحها في منطقتنا.
وتعتمد
الدبلوماسية الأمريكية الجديدة
بقيادة رايس على تصدير الفوضى
إلى بلادنا لتبرير تدخل الإدارة
الأمريكية في شؤون بلادنا
وأنظمة الحكم فيها بحيث أصبحت
بلادنا (وبالتالي شعوبنا) تدفع
ثمنا غاليا لهذه الفوضى التي لا
ينتج عنها إلا تحقيق المصالح
الأمريكية والصهيونية الظالمة
على حساب حقوق شعوبنا وكرامة
أمتنا واستقلال أوطاننا،
وبالتالي فهذه الفوضى هي فوضى
هدامة مدمرة وليست خلاقة كما
تدعي رايس، وما جاء استخدام
رايس لتعبير «فوضى خلاقة» إلا
في سياق منظومة الرموز
والمصطلحات المضللة التي تظهر
الخير وتبطن الشر وتقلب الحقائق
مثلها في ذلك مثل كلمة
الديمقراطية والحرية الخ.
وظيفة
السياسة الخارجية للولايات
المتحدة هي تكبيل الشعوب
العربية والإسلامية وكسر
إرادتها بمساعدة الأنظمة
الموالية لها، وعندما تصبح هذه
المهمة صعبة ويختل ميزان القوى
لغير صالح الولايات المتحدة
الأمريكية في بلد ما تقوم
واشنطن بإغراق ذلك البلد أو
المنطقة بفوضى هدامة وتسلط
عليها الفئة المنتفعة التي
أوجدتها في كل بلد لتغيير
موازين القوى لصالح أشخاص
موالين لها، حتى لو أدى ذلك إلى
إشعال نار الفتنة بين أبناء
الشعب الواحد، وهذا بالفعل ما
يحدث في منطقتنا العربية
والإسلامية وفي فلسطين والعراق
ولبنان وسوريا بشكل خاص.
ففي
العراق جاءت الإدارة الأمريكية
بعملاء لها لتكوين نظام يعمل
على تقسيم العراق إلى دويلات
على أسس طائفية وقومية يتم فيه
تجاهل العرب (وهي فئة الغالبية)
طبقا للأجندة الصهيونية التي
تستخدم سياسة شد الأطراف لإضعاف
الأمة العربية وتمزيقها لتكوين
دولة يهودية بين النيل والفرات. وفي
فلسطين تدعو الإدارة الأمريكية
إلى حرب أهلية وتجند عملائها
لإشعال نار الفتن وتسمح لهم
بممارسة الفوضى المسلحة
المتمثلة في إطلاق النار
واحتجاز الأفراد والاغتيال دون
حساب أو تحقيق.
وفي
لبنان تقحم الإدارة الأمريكية
نفسها للتدخل في كل صغيرة
وكبيرة لأحداث الفتنة تمهيدا
لإنشاء نظام لبناني ذو ميول
غربية يعمل على تحقيق سياسة
الولايات المتحدة و (إسرائيل)،
وتجتهد واشنطن في التحقيق في
اغتيالات شخصيات سياسية
وإعلامية بشكل انتقائي وتغض
الطرف عن عمليات الاغتيال التي
تقع في بلدان عربية أخرى (مثل
فلسطين) وذلك للضغط على النظام
اللبناني والنظام السوري
والحصول منهما على مزيد من
الابتزاز.
ولتبرير
ما تقوم به الولايات المتحدة من
فوضى هدامة تدافع رايس عن
استخدام بلادها للقوة والعنف
والإرهاب والتدمير لفرض
الديمقراطية في العالم العربي
والإسلامي، مستخدمة غطاء
حضاريا وإنسانيا لما تقوم به
مدعية أن بلادها تستخدم القوة
لنشر الحرية والدفاع عن
المضطهدين في العالم، فقد قالت
رايس: "في عالم ما زال يسوده
الشر فإن المبادئ الديمقراطية
يجب أن تدعمها القوة في كل
أشكالها سواء كانت سياسية أو
اقتصادية أو ثقافية أو أخلاقية،
وأحيانا عسكرية أيضا"، وتزعم
رايس أن على بلادها أن تزيل جذور
الرعب المتمثل بالتطرف
الإسلامي –على حد افترائها–
بإصلاح منطقة الشرق الأوسط كلها
والتي يجب أن لا تترك فيها أجيال
بأكملها لليأس والرعب.
وهنا
تكمن الفوضى الهدامة التي تروج
لها رايس والتي تتمثل في إبادة
الشعوب العربية كي لا تصاب
بالرعب واليأس، وفي دعم الأنظمة
الشمولية الاستبدادية والحرمان
من تداول السلطة لنشر المبادئ
الديمقراطية في وطننا العربي،
وفي احتلال البلاد العربية
واضطهاد شعوبنا للدفاع عن
المضطهدين، وفي إقامة السجون
الأمريكية على الأراضي العربية
لتحقيق الحريات الإنسانية
هناك، وفي تشجيع الحركات
الصوفية والمشعوذين وحجاج
القبور في البلاد العربية
والإسلامية لتحقيق التنمية
الإنسانية والتقدم الاقتصادي ...
إذاً
تريد الولايات المتحدة أن تتخلص
مما تسميه بالشر (الإسلامي) الذي
يسود في الشرق الأوسط بنشر الشر
الأمريكي والصهيوني في المنطقة
بدلا منه، وتريد تعمير البلاد
بتدميرها وسحق دعائم تقدمها،
وتريد إقامة دولة فلسطينية
بتشجيع ابتلاع (إسرائيل) لباقي
الأراضي الفلسطينية، وتعد
بتحقيق الديمقراطية بحرمان
الشعوب من خوض انتخابات نزيهة،
وتطالب باحترام حقوق الأقليات
وتلغي حقوق الأغلبية، وتطالب
بإنهاء المقاومة الفلسطينية
وتبيح (لإسرائيل) ولنفسها إسقاط
قنابل أمريكية بوزن 1000 كيلو
غرام على رؤوس الشعوب العربية
والإسلامية، وتعاقب المملكة
العربية السعودية على عدم
احترامها الحريات الدينية وهي
تحارب الإسلام والمسلمين في كل
مكان وتعمل على إذابة الثقافة
الإسلامية لدى الجاليات
العربية والإسلامية في
الولايات المتحدة، وتعمل على
توحيد العالم ضد العرب
والمسلمين وتعمل على تمزيق
البلاد العربية ...
والعجيب
أن الولايات المتحدة تستخدم كل
أنواع الإرهاب والشر في بلادنا
وتعمل على إشعال الصراعات
والاقتتال الداخلي وكبح إرادة
الأغلبية باسم الحرية
والديمقراطية والرأفة
بالمضطهدين، وبشكل عام تنشر
الولايات المتحدة الأمريكية
فوضى كونية وتسميها «نظاما
عالميا جديدا»، لذا يحق لمن
يشاء أن يصف الولايات المتحدة
الأمريكية بزعيمة الفوضى
الكونية الغير منظمة
وإمبراطورية الشر.
وللإمعان
في التناقضات والتضليل تدَّعي
الولايات المتحدة أنها تسعى
لتجميل صورتها (القبيحة) لدينا
في الوقت الذي تعزز سياستها
الخارجية الظالمة ودبلوماسية
الفوضى التي ابتدعتها رايس،
ولذلك تم تعيين كارين هيوز
مساعدة لوزيرة الخارجية
الأمريكية رايس للجمع بين إنجاز
الأجندة الأمريكية الظالمة
وبين طلاء الوجه القبيح
للولايات المتحدة بمساحيق
الخداع والأكاذيب لإخفاء
سوآتها فيما يشبه دس السم في
العسل.
إن
ما تقوم به الولايات المتحدة هو
مصادرة حرية الناس وسحقها
بالقوة أو شراءها بالمال، فهذه
كارين هيوز تطلب من الكونغرس
تخصيص 70 مليون دولار لتمويل
برامج التبادل وإصدار المزيد من
التأشيرات للدارسين والباحثين
لزيارة الولايات المتحدة، لذا
فاللعبة واضحة؛ فحتى تتجمل
الصورة القبيحة لإمبراطورية
الشر لا بد من دعوة المثقفين
لزيارة الولايات المتحدة بحجة
التبادل والتفاهم الثقافي الذي
يخضع فيه الزائر إلى تَشرُّب
الثقافة الأمريكية دون أن تُتاح
له فرصة واحدة لنقل ثقافته إلى
الأمريكيين لما يتمتعون به من
أنانية (ego) فظيعة،
أما القتل والدمار وانتهاك
الحقوق في منطقتنا فهو يسير
جنبا إلى جنب مع عملية التجميل،
فهل بعد هذا الغباء من غباء؟!!
التفسير
الوحيد لكل تلك الفوضى يكمن في
مفهوم الديمقراطية التي تنادي
بها رايس وتبيح في سبيل نشرها
الإرهاب والهلاك والدمار،
فالديمقراطية لا تمثل إلا الحرب
على الإسلام والقضاء على
الثقافة الإسلامية وبالتالي
الهوية الإسلامية ومن ثم تهديد
وجود أمة الإسلام والمسلمين
وقلبها الأمة العربية، ولكن خاب
ظن رايس ومساعدتها التي سوف
تضطر إلى الاستقالة كما فعلت
سابقتيها مع ذرف المزيد من
الدموع بعد اكتشافها لغباء
السياسة الأمريكية التي تحول
العالم إلى جحيم لا يطاق.
بإيماننا
بالله جل وعلا ثم بوعينا ووحدنا
وعملنا الدؤوب لتعرية الولايات
المتحدة وسياساتها تجاهنا
وتجاه العالم نستطيع أن نفشل
مخططاتها، وشعوبنا العربية
والإسلامية تمتلك كل مقومات
الصمود وهي أهل لقيام نهضة
حضارية إنسانية عالمية.
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|