هل
كان غازي كنعان
إيجابيـاً مـع إخـوان حمـص
بقلم:
عزام الحمصي*
لا
يثأر المرء من الأموات فقد
أفضوا إلى ما عملوا ووصلوا إلى
المحكمة العادلة التي لا يظلم
عندها أحد، لكن عندما ينبري بعض
الناس ممن يعوزون
المعلومة الصحيحة أو ممن
يرومون تحويل المعلومة عن وجهها
لتغيير وجهة النظر عن شخص رحل أو
لتلميع صورته الملطخة بالدماء
والعنف والقسوة، عندئذ لا بد من
جلاء الحقيقة.
شعرت
بالحقيقة تزور من تعليق أحد
الإعلاميين اللبنانيين
المتملقين على قناة الجزيرة وهو
يصف غازي كنعان بالشهم والشجاع
والرحيم ، وشعرت بأسف أكبر لما
كتب عن تعامله الإيجابي مع أهل
حمص أثناء خدمته فيها على رأس
فرع المخابرات العسكرية والتي
دامت قرابة عقد من الزمن حتى عام
1982 بعدما فرغ من أداء دوره
المتميز في مجزرة حماة الكبرى،
فذاكرة حمص وأهلها تحتفظ بأشياء
مغايرة عن الرجل، وآخر ما قرأته
عن العسكري والسياسي اللبناني
سامي الخطيب الذي يقول في هذا
الصدد "
, ولكن أعرف انه حين كان في حمص،
تعاطى مع جماعة «الاخوان
المسلمين»، في أوج الازمة بينهم
وبين الحكم في سورية، في شكل
ايجابي واستطاع ان يغيّر سلوكهم
تغييراً جذرياً في تلك المنطقة.
وعندما
سأله الصحفي:
بأي وسيلة؟ ألم يستخدم جانب
البطش؟
ـ
لا, تعاطى معهم بحكمة وليونة
ورحمة, وقد أطلق المسجونين
وأقام علاقات طيبة معهم، حتى
أصبحوا دعاة له, وأعرف انه حين
كان يصادف او يتعرف الى عائلة
فقيرة، او حين يلجأ اليه احد ما
مغلوب على أمره، كان يمّد يد
العون ويتعاطف, وفي محطات كثيرة
واكبتُها شخصياً، لمستُ هذه
الجوانب في شخصيته."
وباعتباري
أحد شهود تلك المرحلة العصيبة
في تاريخ سورية، وباعتباري أحد
مواطني مدينة حمص الذين تلظوا
بجحيم غازي كنعان ومساعديه في
فرع المخابرات العسكرية بحمص
عارف قرنوب ومحمد الشعار وأحمد
اليوسف كان لزاماً علي أن أدلي
بشهادتي لجلاء الحقيقة وإحداث
التوازن أمام آراء غريبة لكتاب
لبنانيين استفادوا من غازي
كنعان في حياته، ولعلهم لا
يزالون يستفيدون منه بعد مماته.
أقول هذا الكلام شهادة لأن من
يكتم الشهادة حين تغطى الحقيقة
بلباس من التجهيل فإنه آثم قلبه.
يذكرني
الذين يتحدثون عن رحمة غازي
كنعان ورقة حاشيته بدموع
الحيوان المفترس عندما تدمع
عيناه وهو يزدرد فريسته، ولئن
كانت الحيوانات تقوم بالافتراس
غريزة فإن غازي كنعان كان يفترس
أبناء حمص حقداً وكراهية لأهل
هذه المدينة الوادعة التي
استقبلته ومهدت له مستقبله
الكبير في لبنان.
لم
ينتشر بين أهل حمص فكرة
المقاومة المسلحة للنظام
السوري، ولم يكن في حمص أكثر من
خلية واحدة للطليعة المقاتلة
التي تبنت هذا النهج، ولقد
انتهت هذه الخلية التي كان على
رأسها عبد المعين السيد في وقت
مبكر من أحداث الثمانينات، ولم
تجتاح مدينة حمص موجة من العنف،
والفضل في ذلك لا يعود لغازي
كنعان ولا لمصطفى أيوب ولا
لسواهم من رؤوس المخابرات في
المدينة وإنما لقناعة إخوان حمص
بأن هذا الأسلوب ليس مجدياً،
بالإضافة إلى سببين آخرين:
الطبيعة المسالمة لأهل حمص
، وبسبب الهجرة الكبيرة التي
تعرضت لها المدينة من الريف
والساحل، فكان للاحتكاك سبب في
تكريس فكرة السلم الأهلي لدى
أهل حمص، هذا على الرغم من
شعورنا بالتفرقة والتمييز التي
يمارسها النظام، وعلى الرغم من
كل المظالم والممارسات
الاستبدادية والقمعية والمنعية
التي كان يمارسها، والتي طالت
شريحة كبيرة من أبناء حمص
الأصلاء.
بالمقابل
اختارت السلطة سياسة الأرض
المحروقة ضد جماعة الإخوان
المسلمين إلى نقطة اللاعودة،
وانتهزت فرصتها الذهبية لشن حرب
لا هوادة فيها عليهم، ونالت حمص
قسطاً كبيراً لأن معظم
الإسلاميين فيها كانوا آمنين،
وقد اعتقلهم غازي كنعان من
بيوتهم أو مقار أعمالهم
ووظائفهم، ولقد كان غازي كنعان
في منتهى الغلظة والقسوة بحيث
أن عناصره كانوا يهددون
المعتقلين عندما يذكرونهم
بأنهم مخابرات عسكرية وليسوا من
أمن الدولة، دلالة على شدة
بأسهم وتفريقاً لهم عن بقية
فروع المخابرات والأمن التي
تعتبرها المخابرات العسكرية
رخوة مع المواطنين.
لكن
كيف تجلت الإيجابية (المزعومة)
لغازي كنعان مع أهل حمص ؟ هل
تجلت بالاعتقالات المبكرة التي
بدأت عام 1979 عندما ألقى القبض
على ما يزيد على 200 من شباب هذه
المدينة بدون
سبب فقط لأنهم يرتادون المساجد؟
ثم كانت الحملة الكبيرة التي
بدأت مبكرة عام 1980 لتطال المئات
ثم الآلاف من أبناء هذه المدينة
المسالمة.
في
أوائل عام 1980 جمع غازي كنعان
وفداً من تجار حمص وبعض
فعالياتها وكشف لهم عن نيته
مهدداً بأنه يرغب أن يزرع ألفي
زهرة من حمص في صحراء تدمر، وقد
نفذ فعلاً تهديده
فقد ساق المئات من أهل
المدينة بلباس النوم وهم آمنين
في منازلهم إلى فرع المخابرات
العسكرية في حي المحطة، وإلى
زنازينه المظلمة في الطابق
الثاني تحت الأرض، حيث كانوا
يتعرضون لرأفة غازي كنعان،
للتعذيب الذي لا يطيقه بنو
البشر ... وكثير أولئك الذين لم
يتحملوا التعذيب الشديد والذين
قضوا في غرفة التحقيق أو في
زنازين فرع مخابرات غازي كنعان.
لم
يكتف غازي كنعان بأن يجهز قبره
بيده كما صرح بذلك المهيم به
شارل أيوب، بل كان يجهز قبور
ضحاياه قبل أن يسقطوا مغدورين
بيديه وأيدي رجاله الذين لم
يكونوا ليخالفوا للمعلم أمراً.
حارس مقبرة طريق الشام (من آل
البالقجي) كان يجهز بناء على
الأوامر السرية عشرة قبور فارغة
، وكان رجال غازي كنعان يحضرون
ضحاياهم تحت جنح الظلام
ليواروهم التراب، ولطالما أسر
حارس المقبرة لجيرانه ما كان
يحصل معه في الليالي عندما
كانوا يحضروه ليدفن بعض ضحايا
التعذيب ويشتمونه ويسيئون
معاملته لأنهم يريدون إنجاز
الأمر بسرعه وبدون إحداث جلبة،
كانوا يرمونه أحياناً في القبر
ويهيلوا عليه بعض التراب لأنه
لم يقم بعمله كما ينبغي.
كان
غازي كنعان يرسل أبناء حمص
أفواجاً متوالية إلى سجن تدمر،
وكان يتبعهم إلى هناك. وفي
الساحة السادسة، ساحة الإعدام،
كان يشرف بنفسه على تعذيبهم قبل
أن يجهز عليهم بنفسه. ولا أدري
إن كان مسدسه الذي زعم أنه انتحر
به هو ذات المسدس الذي قتل به
المئات من ضحاياه في تدمر. لقد
قتل بيديه من أهل حمص في سجن
تدمر ما يربوا على 160 شخصاً.
وقبل أسابيع من مجزرة تدمر
الكبرى في حزيران 1980 بدأ غازي
كنعان بحملة اعتقالات واسعة بين
أبناء المدينة وتحويلهم إلى سجن
تدمر وكأن ثمة أمر مبيت. كان
الأمر المبيت مجزرة سجن تدمر
التي ذهب ضحيتها 814
إسلامياً جلهم من أبناء
مدينة حمص.
عمليات
التمشيط التي تعرضت لها أحياء
حمص الواحدة تلو الأخرى بإشراف
غازي كنعان تتحدث كيف كان ينقض
عناصر غازي على الأطفال الرضع
من أحضان أمهاتهن ويرمونهم
رمياً كيفما اتفق، وكيف كانوا
يرفسون بطون الحوامل المسيحيات
قبل المسلمات، وكيف كانوا
يسرقون البيوت التي يدخلونها.
دخل أحد زملائي المسيحيين إلى
غرفة المدرسين في ثانوية
الفارابي وهو غاضب لا يستطيع
إخفاء انفعاله، فبادره أحد
الزملاء :" أراك متأثراً يا
أستاذ أبو نسيب. رد على الفور ،
كادوا يقتلون الصغير. لقد
اقتحموا البيت، وكانت أم نسيب
تمسك بالصغير بيدها فأخذوه منها
وشلفوه على طول يدهم. سقط الولد
على الأرض ولا ندري ماذا حصل له.
قالوا أنه يمكن أن يكون معه
ارتجاج في الدماغ، هو المستشفى
من مساء البارحة".
ألقي
القبض عام 1980 على طبيب العصبية
اللامع محمد توفيق دراق
السباعي، بعد اغتيال أحد أطباء
العصبية في دمشق المقربين من
حافظ الأسد، وفي اليوم التالي
لاعتقاله جاء أحد أصدقاء غازي
كنعان يستفسر عنه بالنيابة عن
أسرته فقال له غازي: إنسوه واحد
بواحد. وفعلاً فقد صفي هذا
الطبيب المتفوق خلال ليلة
وضحاها في فرع المخابرات
العسكرية على يد غازي كنعان
وفريق المحققين معه ولم تنفع
شهاداته ولا تفوقه ولا مواقفه
الشجاعة في التصدي لدعاة العنف.
لن
أنسى ذلك اليوم الذي تذكرت فيه
أفعال جنكيز خان وهولاكو
ونيرون، إنه يوم المنطقة
الصناعية. في يوم من أيام خريف
عام 1980، ذهبت إلى المنطقة
الصناعية لشراء قطعة غيار، وفي
حوالي الساعة العاشرة والنصف
عزلت المنطقة ولم يعد يسمح لأحد
دخل إليها بالخروج منها. جمعوا
الناس فيها جميعاً ، أصحاب
المحلات وكل الناس الموجودين في
المنطقة وبدأوا يضربونهم ضرباً
مبرحاً بالعصي والكابلات على
الرؤوس والوجوه والأرجل والظهر
والبطن. سالت الدماء وارتفع صوت
الأنين ، كان
غازي كنعان ظاهراً للعيان يوجه
الأوامر، يبتسم هازئاً من أهل
المدينة. استمرت العملية من
الصباح إلى المساء تهشمت خلالها
الرؤوس وتكسرت الأضلاع والأرجل
والأذرع وخر العديد صرعى واعتقل
العشرات. وفي نهاية اليوم وبعد
فك الحصار لم يسمح باستخدام
وسيلة نقل عامة أو خاصة لعودة
الناس إلى بيوتهم على الرغم من
بعد المنطقة الصناعية عن أحياء
حمص السكنية.
اختفى
بفضل غازي كنعان وأعوانه ما
يقدر بألف شخص من أهل حمص، دخلوا
فرعه ولم يعودوا إلى بيوتهم
وأسرهم. لقد سبقوا غازي كنعان
إلى الدار الآخرة ليكونوا
شهوداً على ظلمه وجناياته
وجرائمه، وشهوداً على هذا
النظام الذي لا يقيم لمواطن
قيمة ولا لإنسان حرمة
لم
يحترم غازي كنعان أظلم قانون
وضعه نظامه، قانون التصفية
الجسدية رقم 49، فلقد حاول إعادة
اعتقال كل المنسحبين من الإخوان
لسبب أو لآخر وإبقائهم في
السجون أو قتلهم، ولعل الأستاذ
عزام صافي من الأمثلة الأكثر
جلاء. فقد اعتقل بواسطة فرع أمن
الدولة وخرج مع المنسحبين، لكن
غازي كنعان أعاد اعتقاله واختفى
بعد ذلك كل أثر له في سجون
النظام السوري.
ولن
أنسى كيف فرغ غازي كنعان مدينة
حمص من خيرة علمائها وما تزال،
علماء كان لهم أكبر الفضل في
تلقين أبناء هذه المدينة العلم
النافع والأدب الجم. من ينسى
العالم الموسوعة وصفي المسدي
ودروسه الفياضة في مسجد القاسمي
ومسجد الدالاتي ومسجد أبي
لبادة، ومن ينسى العالم الرباني
عبد الغفار الدروبي ودروسه
المؤثرة في مسجد جورة الشياح،
ومن ينسى العالم الجليل محمد
علي مشعل وجولاته ودورسه في
المسجد النوري الكبير ومسجد
التله، ومن ينسى العالم الصوفي
المؤثر عدنان السقا، ومن ينسى
العالم المدقق رفيق حاكمي، من
ينسى العالم عبد الكافي الأبرش
والعالم عدنان الأبرش (رحمه
الله) ومن ينسى عشرات العلماء
الشباب... كل
هؤلاء وسواهم أمرهم غازي كنعان
بمغادرة سوريا من أجل تجفيف
منابع العلم ومنابع الأدب
والمعرفة والسلوك، ولا يزال
معظمهم خارج البلاد.
ولا
أنسى أخس أنواع الابتزاز التي
كان لها النصيب الكبير في شخصية
غازي كنعان وسياساته مع أهل حمص.
بعض محلات الألبسة النسائية
الشهيرة في حمص التي كانت
تستورد أحدث الموديلات
الباريسية بدون رقيب ولا جمارك
كان لها قصة مع نساء المدينة.
هذه القصة التي تمثل الخسة
وانعدام الشرف تتمثل في وضع
كاميرات تصوير خفيه في غرف
القياس، فكانت تصور السيدات شبه
عرايا. هذه الكاميرات لم تكن تخص
أصحاب المحلات بل كان صاحبها
غازي كنعان. اكتشفت هذه القصة
عندما ابتز غازي كنعان أحد
المواطنين في عرضه وجاء الرجل
مغضباً إلى زوجته يريد
معاقبتها، وحلفت له يميناً
مغلظاً بأنها لم تظهر جزءاً من
جسدها أمام مخلوق قط، لكنها
تذكرت أنها في وقت قريب مضى قاست
فستانا في محلات (ح) المعروفة.
ذهب الرجل إلى صاحب المحلات
وتوعده وتحت الضغط أقر بأن غرف
القياس مجهزة بكاميرات تخص فرع
المخابرات العسكرية.
أما
جولاته وصولاته في الفساد
المالي فلقد أثرى غازي كنعان من
أهل المدينة. كان شريكا لكثير من
المحلات التجارية والشركات
والمخابز بدون مقابل إلا السماح
لهم بالحصول على مواد مهربة
لتنشيط أعمالهم. ولم يكن يقبل
بنسبة تقل عن النصف. اعتقل أحد
الرجال عام 1979 للاشتباه بأنه من
الإخوان المسلمين، وبعد أسبوع
من التعذيب الشديد لم يكن له من
غازي كنعان مخرج إلا أحد شركائه
الدسمين.
هذه
ملاحظات أولية هل تصل إلى ضمائر
شارل أيوب وسامي الخطيب وسواهم
ممن يكتبون عن إيجابية غازي
كنعان في التعامل مع إخوان حمص
في بداية الثمانينيات. وأقول
لهؤلاء إن كانوا يريدون إخفاء
الحقائق والمظالم فإن ثمة مخزون
لا يمكن طمسه في شوارع حمص
وازقتها تتحدث عن غازي
وممارساته. ولا تخلو أسرة حمصية
إلا وفقدت أباً أو ابناً أو أخاً
أو قريباً أو صديقاً، اختطفه
غازي كنعان ولم يعد. لا يمكن
لأحد أن يطمس ما فعله غازي كنعان
ولو جاؤوا بألف رواية مزورة
فثقل الجناية أكبر من كل
المرثيات.
*معتقل
سابق من مدينة حمص
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|