بــوش
بين
الديــن والسيـاســة
الدكتور
محمد أحمد النابلسي
"مشكلتنا مع
الرئيس الأميركي هي أنه يظن
نفسه المسيح … " عبارة سخرية
أطلقها كليمانصو بحق الرئيس
ولسن إبان التحضيرات لعقد
معاهدة فرساي. فقد أصر ولسن على
لعب دور رسولي خلال الحرب
العالمية الأولى وبعدها. وفي
التفاصيل أن ولسن انتخب تحت
شعار عدم مشاركة أميركا في
الحرب ليعود فيتورط فيها. وفي
تبرير ورطته يقول ولسن :"... إن
الشبان الأميركيين الذين قتلوا
في الحرب هم طليعة حرب صليبية
جديدة...". وانسجاماً مع هذا
السياق الديني أطلق ولسن مبادءه
الأربعة عشر ومعها وعوده
الوردية للشعب الألماني. ودعوته
لإنشاء "عصبة الأمم". وكلها
لم تجد طريقها للتنفيذ كما
طرحها ولسن. بل أن ولسن تحول إلى
الهذيان الديني عندما راح يسوق
لمعاهدة فرساي التي تعاكس كل
طروحاته الرسولية. فالمهم في
مثل هذا الهذيان هو الحفاظ على
الوضعية الرسولية وليس تحقيق
الأهداف النبيلة. وهذا ما حاول
ولسن فعله بتوحدة مع المسيح
وبلعبه دور "المسيح المنتظر".
وانتهى ولسن فريسة لاضطراب عصبي
خطير متابعاً هذيانه، وهو يعرف
في الطب النفسي باسم "هذيان
الموسوية" (Délire Mosaique)، وكان فرويد قد درس شخصية ولسن
دراسة تحليلية وخلص إلى جملة
نتائج نشرها في كتابه "التحليل
النفسي للرئيس ولسن"، الذي
ترجمناه إلى العربية ونشره مركز
الدراسات النفسية.
الملفت في الأمر هو
درجة التشابه بين ولسن وبين بوش
الابن. والأهم اشتراكهما في
هذيان الموسوية وتوابعه
المسيحانية. فقد أعلن بوش حربه
في أفغانستان على أنها حرب
صليبية. ولما ثار العالم
الإسلامي على هذا اللفظ تمت
ترجمته بصورة محرفة تفتح أبواب
الجدل. لكن هذا لم يمنع بوش من
متابعة هذيانه الموسوي. فهو قسم
العالم إلى أشرار وأخيار ينتمون
إلى محور خير أو محور شر ولا
وجود لمحاور أخرى !.
إن رئيس أكبر دولة
في العالم يريد من الجميع أن
يختاروا بين أن يكونوا من
أتباعه أو من أعدائه. فهو لا
يعترف بالأصدقاء. حتى أنه آذى
أصدقاءه الافتراضيين أكثر من
أعدائه. فقد ألحق بوش الأذى
الكبير بالاقتصاد الأوروبي عبر
مخالفاته لقوانين العولمة
وإضعاف الدولار ورفع أسعار
النفط وشق الصف الأوروبي تجاه
قضايا عديدة منها حرب العراق،
وبذلك قوّض بوش الاتحاد
الأوروبي. وكذلك فعل بوش مع
أصدقائه العرب فهددهم جميعاً
وطرح تغيير خارطة بلادهم وأنظمة
حكمهم. ومن ثم زرع عراقاً
ملتهباً ومهدداً في قلب المنطقة
العربية.
وها هو بوش أخيراً
يصرح بأن الرب أسر له بأن يحتل
أفغانستان والعراق!؟. أي أن سلوك
بوش السياسي والعسكري سلوك
مرتبط بإرادة الرب !. وهنا عليك
إما أن تؤمن بمسيحانية بوش
فتعتبر حروبه صليبية - ربانية.
وإما ألا تؤمن فتدرك أن الهذيان
الديني يتحكم بهذا الرجل
وبسلوكه.
هنا تصل المسألة
إلى حد تحكم مريض هذياني بمصير
البشرية. فأنت لا تعرف متى يأمره
الرب باستخدام الأسلحة النووية
لإزالة الأشرار من العالم؟!. وهو
قد صرح أن الأشرار هم المسلمون
أولاً فهل تراه يسعى إلى فتوى
مسيحانية لإبادة الإسلام
والمسلمين ؟ !. وهو احتمال يلوح
به بوش من آن لآخر عندما أعلن
جهوزيته شن حربه لاحتلال العراق.
وهو يلوح بهذه الحرب عندما يوجه
تهديداته لدول المنطقة في ظل
تورطه العسكري في العراق. ذلك أن
تهديدات بوش التالية لاحتلال
العراق لا يمكنها أن تكون
تهديدات عسكرية تقليدية. خاصة
عندما يوجه التهديدات إلى بلدان
مثل كوريا وإيران. والحديث بدأ
فعلياً عن ضربات نووية تكتيكية
لتلك البلدان المارقة على
أميركا.
أمام هذه الخطورة
لا بد لنا من مراجعة نفسية –
تحليلية لهذه الحالة الهذيانية
التي تصيب رئيس أقوى دول العالم
وتهدد معظم العالم. فماذا عن
شخصية هذا الرئيس ؟.
قدمت الصحافة
الأميركية ومصادر أخرى معلومات
غنية حول حياة بوش وسوابقه
وأزماته. وهي مواد دسمة لدراسة
شخصيته. كما نشرت عدة محاولات
لتحليل شخصية بوش منها ثلاث
محاولات أميركية تعتمد الطريقة
السلوكية وواحدة عربية للزميل
حسين عبد القادر وواحدة لنا
شخصياً لكنها مختصرة. حيث نعتبر
أن المعلومات المتوافرة لدينا
حول حياة بوش غير كافية لنا
لإتمام تحليلنا. ومهما يكن فإن
هذه الدراسات تتفق على السمات
التالية لشخصية بوش :
1- الشخصية التابعة :
وهي تتبدى في تبعيته لأمه
باربارا أولاً ومن ثم لزوجته
ولطاقم المقربين منه سياسياً
وبخاصة لطاقم العوانس كما
تسميهم النيوزويك.
2- الميول الصوفية :
حيث اعتقاد راسخ لدى بوش بأن
الأذى لا يصيبه لأن الرب إلى
جانبه لا يخذله. وهذا الميل
الصوفي يجعل منه جديراً بالقيام
بأية مغامرة معتقداً بأنه سيخرج
منها سالماً. ولقد ترسخ لديه هذا
الاعتقاد بعد فوزه بالولاية
الثانية.
3- الشخصية الخوافية
– الوسواسية : وهي تبدت خصوصاً
برعب بوش من الاغتيال. وهو يرى
في نومه كوابيس ثقيلة تدور حول
فكرة تعرضه للإغتيال. وتزداد
هذه الكوابيس حدة في فترات
زيادة تعرضه للضغوطات ومنها
ضغوط إصار كاترينا الأخير ومعه
الضغوط العربية مجتمعة.
4- الميول العدوانية
: وهي تتبدى في سلوك بوش الشخصي
عبر روايات المقربين منه. ولكن
كيف يقبل الأميركيون رئيساً
بمثل هذه الميول المغامرة
والدينية المتطرفة والمصاحبة
بهذيان ديني؟.
واقع الأمر أن
الثقافة الأميركية تشجع هذا
النوع من الهذيان، فعلى عكس
الظاهر العلماني فإن للديانة
البروتستانتية أثرها الضاغط في
السياسة الأميركية، ويتبدى هذا
الأثر بالنقاط التالية :
1- بمراجعة قائمة
الرؤساء الأميركيين منذ
الاستقلال ولغاية اليوم
لوجدناهم جميعاً آريين
بروتستانتيين (عدا كينيدي
الكاثوليكي المغتال). والدستور
الأميركي لا ينص على هذه
الحصرية. من هنا نستنتج مقدار
الضغوط البروتستانية للحفاظ
على هذا المنصب البروتستانتي
بدون قانون ملزم.
2- رغم الأهمية التي
يوليها البروتستانت للتوراة
إلا أنهم يظهرون حساسية شديدة
تجاه اليهود. فهم يكرمون اليهود
كضيوف مؤقتين بانتظار عودتهم
إلى أرض إسرائيل. وهم يعارضون
أية مظاهر تكامل يهودي في
الداخل الأميركي. وخاصة مسألة
ترشيح اليهود لمناصب حساسة. من
هنا كان تحول معظم اليهود
الطامحين إلى الديانة
الكاثوليكية.
3- يعتبر الأميركيون
أن دستور الآباء الأوائل (الدستور
الأميركي) هو التوراة الجديدة.
وأن الرئيس الأميركي هو من
الرسل المكلفين حماية هذه
التوراة. لذلك فهم يحاسبون
رؤساءهم بقساواة خلال فترة
حكمهم ويهملوهم بعدها.
4- يوازن الأميركيون
بين أرضهم الأميركية وبين أرض
الميعاد. ويعتبرون أن ثقافتهم
تنطوي على أخلاقيات يجب التبشير
بها وفرضها على العالم بالقوة
إذا أمكن.
5- يجزم الأميركيون
بأن البروتستانتية هي التي
أنقذت القارة الأوروبية
ودفعتها نحو التطور. فقد اعتمدت
أوروبا بما فيها الكاثوليكية
الأخلاقيات والقيم
البروتستانتية لتحقق قفزات
تطورها. عداك عن الإحسان
الأميركي في دعم هذا التطور؟!.
6- إن المحاكمة
الدينية وفق القيم
البروتستانتية تدخل كناخب
رئيسي في اختيار الرئيس
الأميركي وتحديد مواصفاته
والمفاضلة بين المرشحين.
7- إن الرضى
الأميركي على الأمم الأخرى
يرتبط بمدى رعايتها ليهودها،
فهذه الرعاية تمهد وتعجل ظهور
المسيح وفق المعتقد
البروتستانتي. ومن هنا الرضى
الأميركي على الدول العربية
التي تعين وزراء من يهودها.
8- ديمومة انتشار
المذاهب البروتستانتية، وهو
دليل إقبال بدونه تذوب هذه
المذاهب، يضاف إلى ذلك قدرة هذه
المذاهب على إيصال أتباعها إلى
رئاسة أميركا، حيث تمكنت
الطائفة المشيخية مثلاً من
إيصال الرؤساء ولسون وكارتر،
والطائفة الطهرانية من إيصال
بوش الأب والابن وقس عليه.
9- المساحة الواسعة
التي تحتلها الغيبيات في
السياسة الأميركية، حيث تبين
مثلاً أن الرئيس ريغان أطلق
مشروعه "حرب النجوم" بناء
على نصيحة عرافته الخاصة، ويذهل
المرء لمعرفة المساحة التي
يحتلها التنجيم في السياسة
الأميركية.
10- العنصر الديني في
الاستراتيجية الأميركية، حيث
بدأت الممانعة الأميركية
لأوروبا الكاثوليكية ومن بعدها
للشيوعية الملحدة وأخيراً
للإسلام والكونفوشية، في مقابل
سعي أميركي حثيث لفرض الرؤى
البروتستانتية للتسامح تحت
مسمى الحقوق والديمقراطية
وليبيرالية أميركا.
هذه الخصائص
الاجتماعية توضح لنا دوافع قبول
الجمهور الأميركي لأفكار بوش
الدينية بميولها الهذيانية
والمعادية للإسلام. وهي في آن
معاً معادية لليهود (لا نوافق
على مصطلح المسيحية –
الصهيونية) وأيضاً للأميركيين
غير الآريين وإن بجرعات متفاوتة.
وهذه الأفكار العدوانية تضاف
إلى عدوانية سياسة المصالح التي
تعتمدها أميركا في علاقتها مع
الآخرين. مثال ذلك استغلالها
للأقليات حول العالم وزجها في
صراعات مع محيطها ومن ثم التخلي
عنها. وهذا ما حدث تكراراً مع
الأقليات الكردية والآشورية
والمسيحية عامة في منطقتنا.
وهذا ما حدث في لبنان مثلاً حين
انسحب الأميركيون منه أعوام 1958
و 1982 تاركين الأقليات والأصدقاء
في مواجهة صراع أهلي من صناعتهم
الأميركية.
مما تقدم نستخلص أن
الرئيس بوش يخلط الدين بالسياسة
وفق الوصفة الأميركية لكنه يضيف
إليها جنون عظمة يدفعه لتصور
نفسه مسيحاً منتظراً. في حالة
هذيانية أدت إلى تهديد
الاستقرار في معظم العالم. فهو
نقل الحرب على الإرهاب إلى
أنحاء العالم وحوله إلى ساحة
لهذه الحرب العبثية. وهو بذلك
يورط أميركا والعالم بسلسلة
حروب غير محددة النهايات. حيث
الأزمة الراهنة الكبرى
للولايات المتحدة هي أنها غير
قادرة على تحمل أعباء حروب بوش
غير المنتهية. وهي التي افتعل
بوش اثنتين منها لغاية الآن (العراق
وأفغانستان) والبقية تأتي لغاية
نهاية العام القادم (2006) فإذا ما
دخل العام 2007 تحول بوش إلى بطة
عرجاء وعندها سوف يخضع لمحاسبات
عسيرة إن هو لم يتخلص من ورطاته
لغاية ذلك التاريخ. فهل نستطيع
المقاومة في وجه هذيان بوش حتى
ذلك الحين؟. أم أن الوحش سيأكلنا
قبل أن يهوي؟.
*رئيس
المركز العربي للدراسات
المستقبلية
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|