لا
قوائم ولا معلومات ولا أسماء
ولا تعليق
من
أي مسؤول سوري
د.
عمار قربي*
في اليوم الأخير من رمضان كان
الرجال منهمكين في شراء حاجيات
العيد غارقين وسط زحام الحياة
وكانت النساء بدورهن يضعن
اللمسات الأخيرة على ولائم
العيد وملحقاته أو يستعددن
لإعداد الإفطار الأخير من رمضان
هذا العام , وفي الطرف المقابل
كان هناك وفي مختلف القرى
والمدن السورية من يستقبل العيد
دون بهجة , وهم إما اعتادوا على
ذلك منذ سنين وإما يستعدون على
الاعتياد على ذلك , عوائل
المعتقلين السياسيين في سورية -
والأفضل - ذوي معتقلي ما تبقى
لدينا من ضمير , هؤلاء قضوا أيام
رمضان بمعزل عن فلذات أكبادهم
مستعينين على ذلك بالدعاء لهم
ممنين أنفسهم بالإفراج عنهم وسط
شائعات متزايدة تبشر بعفو منتظر
, وكيف لا يأتي هذا العفو وسورية
بحاجة أكثر ما يكون إلى جهود كل
أبنائها, أليست السلطة السورية
من جيّش الإعلام الرسمي الذي
تفتقر سورية لسواه بمقالات
ولافتات وشعارات ومسيرات
مفبركة واعتصامات تركز كلها على
اللحمة الوطنية ووقوف المجتمع ,
كل المجتمع السوري ضد التحديات
الخارجية الداهمة ؟ , الم تتحدث
السلطة على لسان محلليها محدثي
النعمة من أن الوطن في خطر وان
الوطن يشمل الشعب والنظام , وان
المجتمع الدولي لا يفرق بين
سورية المجتمع وسورية السلطة ؟
حيث أن الدولة غائبة عن الساحة
السورية مذ صادرها البعث في
8-3-1963 .
ولكن أليس هؤلاء المعتقلين بما
يمثلون من أفكار وتيارات
يعتقدون بها وأحزاب ينتسبون
إليها وقوى شعبية يمثلونها , من
هذا المجتمع ؟, أليست عائلاتهم
وأقاربهم جزءً من نسيج هذا
المجتمع ؟ ..فإذاً يجب أن يتم
الإفراج عنهم كي تكتمل لوحة
المواجهة القادمة لا ريب .
في الرابعة من عصر ذاك اليوم
انقلبت الرتابة إلى أمل وانقلب
انتظار مدفع الإفطار إلى ترقب ,
فقد كان خبراً صغيراً على شريط
التلفاز السوري مفاده الإفراج
عن( 190 ) معتقل كفيل بإحداث كل ذلك
الهيجان .
هيجان لم يطل أسر المعتقلين فقط ,بل
طال الصحافيين والناشطين وكل
المترقبين ,فقط أربعة اسطر في
وكالة الأنباء السورية "سانا"
حددت مصير 190 عائلة !! .
ومن وقتها استحال هاتفي الجوال
وكذلك الأرضي إلى أداة تواصل
مستمر ومتلاحق ,حيث لم يهدأ عن
الصراخ ,حتى بزوغ فجر اليوم
التالي , ربما كانت المعلومات
التي أدليت بها مبكرا عن وجود
اسم المحامي محمد رعدون رئيس
المنظمة العربية لحقوق الإنسان
في سورية وكذلك اسم علي العبد
الله الكاتب والناشط في لجان
إحياء المجتمع المدني بين أسماء
المفرج عنهم كان له الأثر
الكبير في ملاحقة هاتفي , وربما
كان بيان الإفراج عن بعض ناشطي
حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي
الذي نشرته قبل يوم هو السبب .
ولكن من المؤكد أن غياب
الشفافية عن الإعلام السوري
الذي تعودنا عليه كان أهم
الأسباب , فلا احد يعرف من هم
المفرج عنهم ولا من أي معتقل ولا
من أي تيار , لا قوائم ولا
معلومات ولا أسماء و لا تعليق من
أي مسؤول سوري , وكانت النتيجة
ضياع فرصة تجميلية لسورية لم
تستثمرها أيضا
كالعادة . ..وأيا كان السبب فإني
شعرت من كثرة المتصلين أن سورية
كلها في المعتقل , فالناس بحاجة
إلى أية معلومة مهما صغرت علها
تنعش أملهم بلقاء حبيب أو أخ أو
أب أو زوج أو صهر أو قريب ...
وباعتبار أن هذه الصفات هي صفات
مذكرة فلن نستغرب إن كان اغلب
المتصلين كانوا من المتصلات .
أم فوزي من حلب تسأل عن زوجها وعن
صهرها المعتقلين منذ سنتين , أما
أم حذيفة فتسأل عن زوج ابنتها
المعتقل منذ سنة , وأبو زهير
يسأل عن ابنه المعتقل منذ عشرين
سنة ويعتذر عن اتصاله في وقت
متأخر, أم احمد تسأل فيا إذا شمل
العفو المحكومين أم لا ,وأخرى
تسأل عن محكومي المحكمة
العسكرية وآخر يسأل عن المحالين
لمحكمة امن الدولة .. الخ ,الأسئلة
كانت من كل التيارات : إخوان
مسلمين ,حزب التحرير الإسلامي ,
معتقلون بتهمة السلفية ,
المسافرين للعراق , شيوعيون, بعث
العراق , المنتسبين للمنظمات
الفلسطينية, أعضاء في أحزاب
كردية مختلفة , معتقلو داريا ,
معتقلو قطنا , معتقلو التل ,معتقلو
ربيع دمشق وذوي حقوقيين وناشطين
مدنيين...الم اشعر أن سورية كلها
في المعتقل ؟ .. اعتذر عن ذكر
أسماء هؤلاء الصريحة لما يشكله
ذلك من إحراج لهم أمام الأجهزة
الأمنية, لأنهم ينكرون علاقتهم
بمنظمات حقوق الإنسان ويتبرؤون
من رجسها!! وهذا طبيعي إن علمنا
انه مع كل بيان نصدره كان هناك
زوار (غلاظ ) يسألون تلك الأسر
عمن اتصل بنا ومن الذي أعطانا
المعلومات التي نقوم بنشرها,
وكنت أجيب هؤلاء , لا قوائم ولا
معلومات ولا أسماء و لا تعليق من
أي مسؤول.
وأتوقف هنا عند حالتين إنسانيتين
: إحداها مع ذوي الناشط رياض
درار ( الحمود ) المعتقل في وقت
سابق من هذا العام بسبب خطبة
ألقاها في عزاء المغفور له محمد
معشوق الخزنوي , حتى تخيلت أن
محافظة دير الزور كلها تسال عنه,
وذلك بعد شيوع أخبار تقول انه
بين المفرج عنهم , ولكن رياض لم
يتصل ولم يصل إلى أهله رغم مضي
ساعات وساعات , أهله يسألون عن
مصدر الخبر , أصحابه يرجحون انه
لم يستطع التحدث بالهاتف , محبوه
يسوغون تأخيره بتعقيدات
الإفراج عنه , آخرون يعتقدون انه
سيفرج عنه من فرع التحقيق وليس
من المعتقل وربما كان هذا سبب
التأخير ...أسباب وتبريرات وحجج كلها
باللهجة الديرية المحببة , ولكن
لا قوائم ولا معلومات ولا أسماء
و لا تعليق من أي مسؤول...ورياض
لم يخرج ولم يكن بين سحب ال 190
محظوظاً .
ثانيها : من بقي من معتقلي ربيع
دمشق , النائبين رياض سيف ومأمون
الحمصي , الدكتور عارف دليلة ,
الأستاذ وليد البني , المحامي
حبيب عيسى , الأستاذ فواز تللو ,
ستة معتقلين ممن أزهروا ربيع
دمشق في بداية هذه الألفية ولكن
, لا قوائم ولا معلومات ولا
أسماء و لا تعليق من أي مسؤول ...ومع
اقتراب منتصف الليل بدأ الأمل
يتلاشى بخروجهم وتسرب الإحباط
إلى أهاليهم , إلا أن فكرة ما
فصلت بين الإفراج عن النائبين
والباقين جعلت الأمل ينتعش من
جديد ,إذ أن الحمصي وسيف قد
انهوا ثلاثة أرباع المدة وتم
رفض طلب إخلاء سبيلهم ولكي
يخرجوا يجب أن يتقدموا بطلب عفو
وهذا مالم يتم , رغم أن الجميع
يعرف أن الإرادة العليا لن
يمنعها قانون عندما تشاء ,إلا أن
فسحة الأمل هي التي رجحت هذه
الفكرة ,لكن لا قوائم ولا
معلومات ولا أسماء و لا تعليق من
أي مسؤول . ومع بزوغ الفجر بقي د.
عارف دليلة الأمل الأخير, فربما
كانت حالته الصحية السيئة دافعا
لحشر اسمه بين ال190 وربما كانت
السنوات العشر لحكمه الجائر
تكون دافعا للإفراج عنه , ولكن
لم يفرج عن أي من معتقلي ربيع
دمشق , لا النائبين ولا الباقين
ولا د. عارف دليلة .
ربما كان هذا العفو يختلف عن غيره
من أن خبر إعلانه جاء في سياق
خطوات تقوم بها السلطة لان
الوطن يتسع للجميع ...لقد كانت
هذه الكلمات التي ما بقيت
ارددها لذوي المعتقلين
هي البلسم الوحيد الشافي
لخيبات الأمل عندهم , "نعم
هناك عفو قريب آخر سيشمل
الباقين , هناك خطة قادمة لتبييض
السجون , ربما كان تنوع
المعتقلات واختلاف انتماءات
المعتقلين السبب في تقسيم
الافراجات على دفعات , الم
تلاحظوا أن الإعلام السوري هذه
المرة لم يذكر انه لم يبق في
سورية معتقلين كعادته وهذا يعني
أن افراجات قادمة لا محالة , ووو
"
ومع أن بعض الأهالي عنفني وشتمني
لان من يخصهم ليس بين المفرج
عنهم وكأنني أنا المسؤول عن
اعتقالهم أو الإفراج عنهم إلا
أن السمة العامة أن هؤلاء كانوا
متوازنين , قانعين بالثمن الذي
يدفعه أحباؤهم , متفهمين لدورهم
,فخورين بهم , واعتقد أن هذا
سيريح نفوس هؤلاء المعتقلين في
زنازينهم .
ولكن ماذا عن المفرج عنهم ؟
تلك مسالة إنسانية أخرى ربما
تكلمت عنها فيما بعد , لكن
اللافت أن اغلبهم ممن كان
محظوظا لتوافر وسائل الاتصال
بالعالم الخارجي في سجنه من صحف
ومذياع , قد عبر لي عن قلقه تجاه
الضغوط على سورية وعن واجب
الدفاع عن الوطن بعيداً عن
الأحقاد وتصفية الحسابات وردود
الفعل ,وذلك بعد أن نصحوني بأن
" اهدي اللعب "
بعضهم فقد وزنه , وبعضهم لم اعرفه
من النظرة الأولى . وممن تحدثت
معه شعرت انه يتكلم من عالم آخر.
احدهم اخبرني انه رأى شكله بعد
مضي تسعة أعوام من الاعتقال حيث
فوجئ بوجهه ينعكس على ميناء
قصاصة أظافر , وآخر حدثني عن
فوائد قشر البصل وما يصنع منه في
المعتقل , أبو بكري سمع انه أصبح
جداً ويريد أن يرى حفيده ....
وبعد:
أتساءل عن الفائدة التي تجنيها
السلطة من بقاء من بقي في
المعتقلات ؟
ألا تدفع السلطة ثمنا باهظا
لبقاء هؤلاء في السجون دون أية
فائدة ؟
أليس إنهاء ملف الاعتقال التعسفي
أول طريق الإصلاح وأول طريق
المصالحة الوطنية وأول طريق
وحدة المجتمع السوري ويشكل
البداية المنطقية للخروج من
المحنة ؟
أتمنى أن ترتاح أم فوزي
وزميلاتها, و أن يصح كلامي لذوي
المعتقلين بحيث يعّيد الجميع مع
أهاليهم في عيد الأضحى القادم.
*كاتب
وناشط سياسي سوري
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|