كيف
لا نحب المعذّب
بقلم:
محمد علي شاهين
أعرف شاباً
جامعيّاً من أسرة كريمة قضى
شطراً من أحلى سنوات عمره في
غيابة السجن على ذمّة التحقيق،
اضطهده زبانية السجن ونكّلوا به
أبشع تنكيل، وأذاقوه مرّ
العذاب، ولم يتركوا كلمة نابية
أو عبارة ساقطة إلاّ وقذفوها في
وجهه، وتجرّأ كبيرهم على البصق
في لحيته، وسبّ دينه، فلمّا
بلغه قرار الإفراج عنه ـ وهو
النبأ الذي يطير له لبّ السجين ـ
بدت على وجهه علامات الأسى
والحزن .
واستغرب كل من حوله
وهم يقدّمون له التهاني
والقبلات متسائلين: ومن يحزن
على فراق هذا العالم المظلم
الأسود الحقود ؟
والغريب في الأمر
أنّه لمّا أزفت ساعة الخلاص أخذ
يجهش بالبكاء وهو يودّع
السجّانين ويقبلهم ويدعو لهم
بالتوفيق وطول العمر، ويطلب
منهم أن يسامحوه .
والأغرب أن يتحوّل
الناس الكرام إلى مرضى بحبّ
المعذّب، وعشق زبانية التعذيب،
وكأنّ عالم الأحرار قد تحوّل
إلى سجن كبير .
وكيف لا نحب
المعذّب وقد ذقنا طعم العصا
ولسع السياط على أيدي زبانيته،
وتجرّعنا الأذى من كأسه الطهور
كأنّه شراب مختلف ألوانه .
كيف لا نحب المعذّب
وقد عشنا الأزمات في زمن السلم
ما لم تعرفه شعوب الأرض في زمن
الحرب .
كيف لا نحبّه وقد
وقفنا في طوابير الخبز والغاز
والإسمنت، وعشنا أزمة
المواصلات، وأزمة السكن، وأزمة
الماء والكهرباء، ودفعنا
الرشوة علناً، وكنّا شهود زور
على أزمة الضمير، والثقة،
وتكافؤ الفرص .
كيف لا نحبّه وقد
أصبحنا أمّة متخلّفة طمس حبّه
إبداعها، وإنجازها، وحرمت نعمة
الحوار الحر، فتحجّرت عقولها،
وجفّت أقلامها، ونضبت حقول
معرفتها وعرفانها .
كيف لا نحبّه وقد
ضاقت علينا أوطاننا بما رحبت،
وضجّ العالم من ظاهرة هجرتنا
السريّة السياسيّة
والاقتصاديّة.
كيف لا نحب المعذّب
وقد طويت صفحات التاريخ على
يديه، فابتدأ التاريخ من حيث
ولد العبقري، وتوقّفت عقارب
الساعة، أمام الزعيم الملهم
الذي لا يجود الزمان بمثله أبد
الآبدين .
لم نوفّر فرصة إلا
وانتهزناها لتحيته والهتاف
باسمه من الأعماق، وعلّقنا
صورته الجميلة فوق رؤوسنا،
لأنّنا نحبّه ونعشقه، ونصبنا
التماثيل له في ساحاتنا الكبرى
التي كان الأحرار يعلّقون فيها
على الخشبة، لأنّ الشنق والرمي
بالرصاص والقتل اليوم يجري في
الزنزانات والسراديب لأنّه
المعذّب الرحيم.
اتهمنا بأنّنا أمّة
أدمنت على الظاهرة
الانقلابيّة، وما علموا أنّنا
أمّة مبتلاة (بساديين) يتلذّذون
بتعذيبنا، وينتشون بحمرة
دمائنا، و(نرجسيين) يعشقون
أنفسهم، ويهيمون بها حباً
ويتغزّلون، ومصابين بحبّ
المعذّب إلى درجة العشق.
حسبوا أنّنا صنعنا
طاغوتنا صناعة وطنيّة، وما
علموا أن من تقذفه الانقلابات
إلى سدّة الحكم ليس بحاجة إلى
قاعدة شعبيّة أو حزبيّة يستند
إليها، أو ماض ناصع يشفع له،
لأنّ ترويض الناس بالعصا هو
الأسلوب المفضّل
لحب المعذّب.
أمّا محطّة الإرسال
التي يسيطر عليها بدبابته قبل
بزوغ الفجر فتتكفّل بغسيل دماغ
المغفّلين أمثالنا، لأنّنا
أمّة تحب الشعر، وتعشق الكلام
المعثول، وتطرب للمارشات
العسكريّة، وتنام على سرير
الوعود كالأطفال، وكأنّ طبخة
الحصى ستنضج غداً .
ومع هذا كلّه لا بدّ
من الاعتراف أنّنا نحبّ عيون
المعذّب .
ولم نزل نخشى على
المعذّب من لفحة البرد، ومن
شعاع القمر، لأنّه منذ اليوم
الأوّل الذي استحوذ علينا
كالمتاع يدّعي الورع والحرص على
المال العام، فإذا مات بكينا
عليه، وحملنا تابوته على
أكفّنا، وكنّا كالمتاع من نصيب
أحد ورثته، وكان النفط
والملايين من نصيب العائلة.
أمّا من أراد
الشفاء من حبّ المعذّب فلا
يحتاج لنصائح بقدر حاجته لمن
يصغي إليه باحترام، وهو لا
يحتاج لطبيب لكنّه اليوم وقد
استفحل المرض بحاجة إلى حكيم،
لأنّه أدمن على حبّ المعذّب .
ألا فليستعد معذبنا
الذي أحببناه وبايعناه لوليمة
الذئب الذي سيلتهمه في البريّة
وحيداً، لأنّ أحداً لن يصدقه
هذه المرّة، لأن المرضى بحبّ
المعذّب قد تحوّلوا إلى مرضى
بكره للمعذّب .
وطوبى للغرباء
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|