براءة
من الشعب والوطن..
الرئيس
الأسد رهينة في القبضة الأمنية
محمد
عبد الله الهدائي
m_a_hidaee@hotmail.com
إن قراءة سريعة
لكلمة الرئيس الأسد، التي
ألقاها على مدرج جامعة دمشق في
العاشر من تشرين الثاني، تظهر
بوضوح أنها هذه الكلمة لا يمكن
أن تصدر، كما كان ينبغي لها،
بمشورة خبراء سياسيين
وقانونيين واقتصاديين وعسكريين
يدركون جيداً حساسية المرحلة
الراهنة وخطورة التداعيات التي
ستواجه سوريا في كافة الأصعدة.
الكلمة "الشاملة"، وهي
تصلح للتداول ضمن حلقة ضيقة من
الحلقات الحزبية، تنسجم أكثر مع
الحملة الإعلامية المحمومة
والموجهة من قبل الأجهزة
الأمنية السورية، التي يبدو
أنها قد باتت تهيمن على جميع
مفاصل السلطة، حتى على القرارات
والمواقف التي تصدر عن رئاسة
الجمهورية!
الفكرة الوحيدة
التي أكدت عليها الكلمة هي أن
سوريا مستهدفة دولة وشعبا، وأن
الضباط الستة المطلوبين
للتحقيق في جريمة اغتيال
الحريري هم رمزاً يمثل السيادة
الوطنية، وعلى هذا المقياس يجب
أن تقدر
المصلحة الوطنية العليا،
وكرامة الشعب. لقد بات من المؤكد
أن سوريا، التي تمر اليوم ربما
بأسوأ أزمة في تاريخها المعاصر،
سوف تكون مسرحا لأحداث يصعب
التكهن بطبيعتها، تتراوح بين
المواجهة الشاملة، ربما
العسكرية، وبين الاستسلام
والانصياع الكامل. على الرغم من
أن الكلمة قد استبعدت هذا
الاحتمال الأخير، إلا أن ذلك
سوف يبقى مرهونا بمدى قدرة
الأجهزة الأمنية في فرض إرادتها
على الدولة، سلطة وجيشا وشعبا.
إن تسليم ضباط
الأمن هو سير نحو الموت المحتم،
هذا ما يفهم من كلمة الرئيس،
وهذا ما لم يحصل طالما أن القرار
بيد المطلوبين الذين قدروا سلفا
أن التحقيق سيدينهم!
وبما أن الرئيس قرر وضع جميع
مقدرات الدولة، كما قرر
المقامرة بمستقبل سوريا،
لمصلحة هؤلاء الحفنة من الضباط
المطلوبين دوليا، فقد بات
بإمكاننا القول بكل أسف وخيبة
بأنه بعد الشعب والوطن، قد سقط
الرئيس الأسد رهينة في قبضة
رجال الأجهزة الأمنية. إذاً،
لتحرير الشعب والوطن من أيدي
الخاطفين، بات من الواجب أولا
تحرير رئيس الجمهورية الذي أصبح
رهينة لا حول له ولا قوة، إذ أنه
يردد، كباقي المسؤولين
والإعلاميين، ما يمليه عليه
أصحاب القرار وأصحاب المصلحة
الحقيقيين.
الحملة الإعلامية
المحمومة التي أطلقها النظام
الأمني وأعوانه في سوريا تحت
شعار الدفاع عن كرامة الشعب وعن
السيادة الوطنية ضد تقرير ميليس
"المسيس" سوف تتصاعد في
الإعلام المسموع والمقروء. ما
كان واضحا منذ البداية، ليس فقط
أن الحملة لم تقتصر على
الإعلاميين، حيث شارك فيها
رسميون ودبلوماسيون
وبرلمانيون، بل أكثر من ذلك،
وهنا تكمن الخطورة، أنها تبنت
نفس الخطاب الشعبوي السمج حتى
عندما كانت تخاطب المجتمع
الدولي في عقر داره، أي في مجلس
الأمن وأروقة الأمم المتحدة.
فالذي يستمع إلى كلمة الشرع
أمام أعضاء مجلس الأمن يظن أنه
يمثل القوة العظمى الوحيدة التي
تستطيع أن تجابه العالم بأسره،
أو أنه يقدم مبررات لاستخدام
"الفيتو" ضد القرار الصادر
بالإجماع. لن يستيقظ الشرع على
حقيقة أنه كان كالأرنب الذي يقف
مستعرضاً عضلاته بين أنياب أسد
مفترس إلا بعد فوات الأوان!
(الصحاف نموذجا حيا)
الفرق بين مخاطبة
الخارج (المجتمع الدولي)
ومخاطبة الداخل (الشعب) بالنسبة
للأنظمة الاستبدادية والأمنية
"الحكيمة" (التي يكتب لها
الاستمرار)، كالفرق بين الأرنب
الذي يقف بين فكي أسد مفترس،
وبين مجرم محترف يضع مسدسه على
رأس رهينته ليأمر وينهى بتعجرف
وسماجة وباللهجة التي تحقق أكبر
قدر ممكن من التخويف والترويع
والابتزاز لرهينته. في الحالة
الأولى تدرك الأنظمة
الاستبدادية أن مصيرها يتوقف
على دعم خارجي كي تستمر على
هيمنتها الداخلية، وعادة ما
يتحقق هذا الدعم من خلال
التنازلات والمتاجرة بمصالح
الشعب الرهينة-الضحية. وفي
الحالة الثانية تحتاج هذه
الأنظمة إلى أنياب قوانين
الطوارئ والمحاكم الاستثنائية
لترهب بها الشعب
(الرهينة-الضحية) وتروع كل من
تسول له نفسه بالاعتراض أو
الاستنكار.
هذه هي باختصار
القصة التي تلخص حقيقة الأنظمة
الاستبدادية: أسد عليّ (أي
الشعب) وأرنب أمام أعدائي!
ولكن يبدو أن
العيار الذي أصاب رأس النظام
الاستبدادي في سوريا أطار صوابه
فلم يعد يدرك أين عليه أن يأخذ
دور الأرنب، وأين عليه أن
يستعرض عضلاته كالأسد. لذلك بدا
التخبط واضحاً على تصريحات
المسؤولين المتناقضة. فتارة
يصرح النظام بأنه يريد التعاون
الكامل مع لجنة ميليس بدون
شروط، وتارة يريد ضمانات
قانونية! وربما يقصدون
بالضمانات القانونية هي التعهد
بعدم المساس برجال الأمن حتى
وإن ثبتت إدانتهم... تارة يهاجم
أمريكا ويتهمها باستهداف
الموقف السوري ودورها
"القومجي"، وتارة يعلن أنه
مستعد لتنفيذ طلبات أمريكا
بالكامل!!! حتى أن المسؤولين
السوريين أصيبوا بالإعياء (كما
بدا واضحا على وجه الرئيس الأسد)
من كثرة الإعلان بأنهم يريدون
فقط أن يعرفوا طلبات الست
أمريكا، فجميع الطلبات التي
يسمعونها منهم من خلال الإعلام
قد نفذت على أكمل وجه... والحقيقة
أنهم ماضون على هذا الطريق،
طريق التنازلات وتنفيذ الأوامر
والتعليمات (التي يتسلمونها من
تحت الطاولة)، منذ زمن غير قريب.
فحدود إسرائيل على جبهة الجولان
آمنة وهادئة منذ فترة طويلة،
ودخول لبنان كان، كما الخروج
منها، تنفيذا لأوامر خارجية،
مكاتب الفلسطينيين في سوريا
أغلقت، والحدود مع العراق يجري
العمل على تأمينها هرولة دون أي
تقصير، فماذا يريدون منا أيضاً
كي ننفذ لهم؟ يتساءل المسؤول
السوري بين الحين والآخر دون
خجل!
إن الدفاع عن
الموقف السوري المتخبط، وعن
أخطائه وعثراته الكثيرة
والخطيرة، أصبح في غاية
الصعوبة. ومع ذلك فليس من
المستغرب أن نجد أبواق السلطة،
من أقلام مأجورة وأصوات مأسورة،
تحاول التكلف في اختلاق
المبررات وتقديم المسوغات
لجميع التناقضات والتخبطات في
السياسة الداخلية والخارجية
لهذا النظام الآيل، غير مأسوف
عليه، إلى سقوط ذريع.
من ناحية الموقف من
تقرير ميليس نجد المبررات تطهى
على نار لا تعرف الهدوء، بل تصل
إلى درجة الغليان. وأهم
المسوغات التي تبرر عدم تعاون
السلطة مع التقرير هي أنه يمس
السيادة الوطنية، ويوجه إهانة
كبيرة إلى الشعب السوري. ولكن
أين هو بالتحديد مكمن الإهانة
والمساس بالسيادة؟ هنا تنكشف
اللعبة السخيفة والمسرحية
السمجة، إنه في طلب استجواب
ضباط المخابرات
"الأبرياء"، ليس فقط من دم
الحريري، بل أيضا من إذلال
وإهانة الشعب السوري!!! المفارقة
العجيبة أن مجرد استجواب هؤلاء
الجلادين الذين ساموا الشعب سوء
العذاب هو إهانة للشعب..وليس رد
اعتبار له ولكرامته المكلومة!
عندما نطالب بتسليم
هؤلاء الجلادين إلى لجنة
التحقيق، فلا يعني أننا نسعى
إلى مجرد الانتقام والتشفي، كما
يحلوا للبعض أن يفسر ذلك. كما
أنه ليس فقط لإظهار الحقيقة خلف
جريمة اغتيال الحريري المنكرة.
مع أن المطلبين لا يعيبان
أصحابهما، إذ من حق كل من ذاق
طعم الذل والقهر والهوان على
أيدي هؤلاء الجلادين، ومن حق
المطالبين بدم الحريري، أن يروا
تحقيق العدل في المجرمين
والقتلة، إلا أن هناك هدف أهم من
هذا وذاك، وهو إنقاذ وطن وشعب
بأكمله من خطورة ما يمكن أن
يتعرض له فيما لو أصر هؤلاء على
الاحتماء بالوطن والشعب كرهينة
لحماية مصالحهم وأرواحهم التي
هي، ولا شك، أغلى عندهم من كل
شيء.
لذلك يجب أن يعلن
الجميع براءة سوريا وبراءة
شعبها، ليس من جريمة اغتيال
الحريري كما تحاول هذه السلطة
الآثمة التسويق والترويج له عبر
تضليل الشعب والرأي العربي
والدولي، بل إن البراءة هي من
هؤلاء الجلادين الذي اختطفوا
الوطن والشعب وأخيرا الرئيس
بنفسه رهينة، فهم يوجهون على
رأس الشعب فوهة قوانين الطوارئ
والأحكام العرفية الجائرة،
ومحاكم أمن الدولة
الاستثنائية، ولا نستبعد الآن
أنهم يوجهون أسلحتهم على رأس
رئيس الجمهورية لكي يخنع
لأرادتهم...
النظام السوري
وأبواقه هم الذين يتهمون سوريا
وشعبها، ثم ينتدبون أنفسهم
لمهمة الدفاع عن رهينة يحتمون
خلفها لإخفاء انتهاكاتهم التي
لن ينساها لهم هذا الشعب الأسير.
إن هذا النظام يدرك هذه الحقيقة
جيدا، لذلك يصر على توجيه فوهة
سلاحه "المخابراتي" الجائر
على رؤوس الشعب ليضمن إسكاته
إلى الأبد. من هنا فكما أن هذا
النظام ينظر إلى مطالب الشعب
برفع حالة الطوارئ على أنها
تهديد لوجوده (تماما كما ينظر
المجرم المحترف إلى من يطلب منه
التخلي عن سلاحه وإطلاق
رهينته)، فهو أيضا ينظر إلى طلب
التحقيق مع رجال الأمن على أنه
الموت المحتم! فهل نحتاج المزيد
من القرائن لنكشف حقيقة هذا
النظام؟
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|