استراتيجية
بوش
للنصر
الكامل في العراق
بقلم
: الدكتور محمد بسام يوسف
حين كان البيت الأبيض يُعِدّ استراتيجيته
لتحقيق النصر الكامل في العراق
منذ أيام.. كانت فضائح أقبية
التعذيب في (الجادرية) و(تلعفر)
تنهمر على رؤوس العالَمين
والعراقيين، الذين أعادتهم
الديمقراطية الأميركية إلى
عصور ما قبل التاريخ.. كما كانت
أخبار الرقص الذي يمارسه جنود
البيت الأبيض في بلدة (حديثة)
العراقية وما حولها.. تخدش مسامع
كل إنسانٍ يملك ذرةً من ضميرٍ
حي، لأن أولئك الجنود كانوا
يرقصون على أشلاء جثث الرجال
والأطفال والنساء، الذين
أبادوهم بتنفيذ سياسة الأرض
المحروقة التي بلغت أوجها خلال
شهر رمضان المبارك الفائت، وكان
جنود بوش يحتسون الشاي والخمور،
على أنقاض كل المظاهر الحضارية
العمرانية في تلك المنطقة، بعد
أن هدّدوا أهلها بالإبادة
الكاملة، وبتهديم كل بيوتهم
ومرافقهم فوق رؤوسهم !..
ضمن أحدث الأجواء شديدة السواد في العراق،
أمنياً واقتصادياً ومدنياً
وعسكرياً.. أطلق الرئيس
الأميركي (بوش الصغير)
استراتيجيته لتحقيق النصر
الساحق الكامل في العراق، على
الرغم من أنه كان قد أعلن نصره
المزعوم هذا منذ أكثر من سنتين
ونصف السنة.. مراتٍ عدة، بدأت مع
احتلال بغداد في التاسع من
نيسان عام 2003م !..
استراتيجية بوش الجديدة، تتضمن ثلاثة
محاور : سياسيةً، واقتصاديةً،
وأمنية !..
*
*
*
على الصعيد السياسي، أصرّ الرئيس
الأميركي، أنه سيحقق
الديمقراطية، وسيبني مجتمعاً
عراقياً حُراً يتمتع بمؤسساتٍ
ديمقراطية !.. وكأن بوش قد نسي
خطواته الديمقراطية جداً، التي
تتفاعل ثمارها على الأرض
العراقية في كل ساعةٍ ويومٍ
وليلة، فمن مجلس (بريمر)
التسلّطيّ المعيّن، إلى حكومة (علاوي)
الدكتاتورية المؤقتة المعيّنة،
إلى الانتخابات المهزلة التي
أتت بحكومةٍ طائفيةٍ حاقدة،
أشرف شخصٍ فيها هو الفارسي (باقر
صولاغ) وزير الداخلية، الذي جعل
الشعب العراقي يترحّم على أيام
النظام الدكتاتوري الصدّامي..
بسبب ما ارتكبه من جرائم يَندى
لها الجبين، ومن انتهاكاتٍ
لحقوق الإنسان لم تقع مثيلاتها
إلا في أيام (هولاكو).. وذلك على
يد قواته الطائفية الغادرة،
المستورَدة من تشكيلات ما يسمى
بالحرس الثوري الإيرانيّ
الفارسيّ !.. وقبل كل ذلك، يبدو
أنّ (بوش الصغير) المولع
بالديمقراطية.. قد نسي أنه اجتاح
العراق المستقل العضو في الأمم
المتحدة.. اجتاحه واعتدى عليه
واحتله، بعمليةٍ دكتاتوريةٍ
سافرة، تجاوز فيها كل القوانين
الدولية، وانتهكَ قرارات
المجتمع الدولي ودساتيره،
واستهتر بمعارضة مجلس الأمن
الدولي لمهاجمة العراق
واحتلاله !..
الديمقراطية هي انتخابات حرة نزيهة، وحُكم
تعدّدي برلماني بعيد عن
الطائفية والمحسوبيات، واحترام
لحقوق الإنسان بشكلٍ كامل،
ورفاهية للشعب.. وكل هذه الأمور
وغيرها كانت في العراق معكوسةً
تماماً :
فالانتخابات
مهزلة وتزوير فاضح لم يقع مثيل
له حتى في ظل الأنظمة
الاستبدادية.. والحكومة طائفية
حاقدة قاتلة مجرمة، وحقوق
الإنسان معدومة عناوينها : سجن (أبو
غريب) و(بوكا) و(الجادرية)
والمعتقلات السرّية الطائفية،
و(غوانتانامو)، والسجون السرّية
الأميركية في بلاد العالَم،
والمخططات العدوانية لاغتيال
الكلمة الحرة ولقصف القنوات
الفضائية التي تجرؤ على قول بعض
الحقيقة، والقتل المبرمَج
المنظم على الهوية، والسلب
والنهب الذي تمارسه عصابات
الحكومة الطائفية نفسها،
والاغتيالات الطائفية،
والعمليات العسكرية التي
تستهدف الآمنين وتستخدِم
سياسات الأرض المحروقة، والقصف
والتدمير وانتهاك الحرمات
والمقدسات، وارتكاب كل ما من
شأنه أن يجعل احترام الأميركيين
وحكومتهم المعيّنة لحقوق
الإنسان العراقي.. أضخم أكذوبةٍ
في التاريخ !..
أما رفاهية الشعب، فقد أصبحت نكتةً من نكات
هذا القرن في العراق، ومضرب
المثل للاحتيال الأميركي
الفاضح.. فخلال سنتين من عمر
الاحتلال والتسلّط، تراجع
العراق اقتصادياً ومدنياً إلى
مصافّ الدول شديدة التخلف،
فالنفط تراجع إنتاجه بدرجاتٍ
كبيرة، وما يُنتَج منه تذهب
عوائده لجيوب المحتلّين
وأذنابهم من لصوص الحكومة
وأعوانها وطائفتها، إلى درجة
أنّ وزراء حكوميين في العراق
الجديد قد مارسوا الفساد،
واستطاعوا أن يضربوا أرقاماً
قياسيةً فيه، بعد انكشاف
سرقاتهم بمليارات الدولارات
خلال مدةٍ وجيزةٍ جداً من
حُكمهم وتسلّطهم، والعراق الذي
يحتوي على ثاني أكبر احتياطيٍ
للنفط في العالم، تحوّل شعبه
إلى أفقر شعبٍ في الأرض، يعاني
من انقطاع الكهرباء والماء
والمشتقات النفطية، وفقدان
الدواء ومستلزمات الحياة
الحديثة الأساسية، حتى مياه
الشرب نالها فساد الديمقراطية
المزعومة، فأصبحت مقطوعةً
وملوّثةً تحمل الأمراض إلى
أبناء العراق، فضلاً عن الأمراض
التي ينشرها المحتل الأميركي
بأسلحته المحرَّمة والكيميائية
والفوسفورية واليورانيوم
المنضَّب وغير ذلك، وازدادت
أعداد العاطلين عن العمل إلى
أرقامٍ فلكيةٍ، وازداد الفقراء
أضعافاً مضاعفة، حتى أنّ بعض
الأسر العراقية ليس لها مورد
لتعيش منه، إلا ما يجنيه
أطفالها من حاويات القمامة
ومخلّفات الأسر التي أمرعت من
المال الحرام، في ظل الاحتلال
والحكومات الكرتونية
الاستبدادية الطائفية التي
حملها على ظهور دباباته إلى
البلاد !..
*
*
*
على الصعيد الأمنيّ، يزعم سيد البيت لأبيض
أنه سيحقق الأمن للعراق، بعد
تدريب الأعداد الكافية من عملاء
أميركة، ليحلّوا محلّ القوات
الغازية المحتلة.. وكأن هؤلاء
العملاء المستوردين، سيكونون
أفضل حالاً وحنكةً وقوةً من
الجيش الأقوى في العالم، الذي
تهاوت أسطورته، وانكشفت
حقيقته، وظهر ضعفه، أمام
مجموعاتٍ مؤمنةٍ من أهل الديار
والوطن والأرض، الذين يؤدِّبون
المحتل وأعوانه في كل دقيقة،
ويبثّون في صفوفهم الرعب
والخوف، ويسبّبون لهم الأمراض
النفسية المعقَّدة.. فالجيش
المحتل القادم لتحقيق
الديمقراطية الأميركية.. أصبح
مع زبانيته من التشكيلات
الأمنية العراقية الطائفية
المستوردة من الخارج خاصةً من
إيران.. أصبح أكبر خطرٍ على
الأمن في العراق.. والجندي
الأميركي، فضلاً عن رفيقه
الفارسي الذي يحمل جنسيةً
عراقيةً مزوّرة، أثبت أنه لص
محترف، يداهم البيوت الآمنة
ويسرق كل ما تقع عليه يده أو
عينه منها، ويضطهد النساء،
ويختطف الأطفال، ويقصف البيوت
والمستشفيات والمساجد، ويدمّر
المرافق العامة، ويداهم
المدارس والجامعات، ويعتقل
الناس في الشوارع العامة ودور
التعليم، وينتهك كرامتهم في
بيوتهم، ويطلق النار عشوائياً
على خَلْقِ الله، ويملأ السجون
القديمة بالأبرياء، ويبني
سجوناً جديدةً لتتسع لضحاياه
الذين تجاوز عددهم عشرات الآلاف..
أما تشكيلات الفيالق الغادرة من
الشرطة والأمن وعملاء وزارة
الداخلية الطائفية التي صنعها
الاحتلال.. فليس لها من عملٍ إلا
بث الرعب في المدن والبلدات،
ومداهمة البيوت، والقتل على
الهوية، والسطو على ممتلكات
الناس ومَحالّهم التجارية،
وزعزعة الأمن بالتفجيرات
والاغتيالات الطائفية، وارتكاب
المجازر الجماعية، وممارسة
صنوف التعذيب والإذلال
المختلفة، والاعتداء على الناس..
حتى الحكومة العميلة
وتشكيلاتها ومرافقها مع مقرّات
البعثات الدبلوماسية.. أصبحت
غير آمنةٍ محصورةً في منطقةٍ
تسمى بالمنطقة الخضراء، لا
تتجاوز مساحتها بضعة كيلو
متراتٍ مربعة، لا يستطيع أي
مسؤولٍ فيها أن يغادرها، إلا
خِلسةً أو تخفياً أو بحمايةٍ
ضخمةٍ تؤمّنها قوات الاحتلال..
فالأمن في العراق أصبح ذكرى
ومهزلةً مثل مهزلة الديمقراطية
الأميركية، ومثل مهازل
الانتخابات وصناديق الاقتراع
الأميركية الصنع في العراق،
ومثل مهازل أميركة الكثيرة التي
لا نهاية لها !..
*
*
*
أما على الصعيد الاقتصاديّ، فيزعم (بوش
الصغير) أنه سيعيد إعمار العراق
وبناء اقتصاده، وتحقيق
الرفاهية لشعبه !.. ونسي الرئيس
الأميركي أنه هو الذي دمّر
العراق باحتلاله وإطلاق جيشه
فيه، ليعيث فساداً وتدميراً
وانتهاكاً وتقتيلاً وممارسةً
لأبشع أشكال اللصوصية، كما نسي
أنّ ثروات العراق ينهبها المحتل
الأميركي على مدار الساعة، بما
فيها النفط المتدفق من بعض
الحقول النفطية بلا حسابٍ ولا
رقيب.. وربما نسي أيضاً أنه لم
يشنّ عدوانه على العراق ويحتله
ويدمّره.. إلا للسطو على نفطه
وثرواته، ولزعزعة أمنه وتشريد
شعبه، خاصةً بعد أن تهاوت كل
المبرّرات التي ابتدعها بوش مع
لصوص إدارته الأميركية لاحتلال
العراق.. فقد كان اقتصاد العراق
قبل عدوان بوش وجيشه عليه..
متيناً قوياً نامياً، أما اليوم
في ظل الاحتلال وديمقراطيته
المزعومة، فقد أصبح اقتصاداً
منهاراً مفكَّكاً يدعو إلى
الرثاء !.. وإنّ أي عاقلٍ في هذا
العالَم يعلم تماماً، أنّ
الهمجيّ الذي يُدمِّر، لا يمكن
له أن يُعمِّر، لأن المحتلّ
المدمِّر فاقد لكل عوامل الحرص
والتحضّر والأخلاق السويّة
والمدنية.. وحتى للمشاعر
الإنسانية الطبيعية !..
*
*
*
يزعم بوش أنه سينتصر في العراق، وأنّ هذا
النصر مصيري وحتمي بالنسبة
لأميركة، لأن العراق أصبح
مركزاً للإرهاب العالميّ !..
ظاناً أنّ الناس في العراق
والأرض فاقدون لذاكرتهم، أو
أنهم مصابون مثله بأمراض
النسيان المزمن، فالحقائق
الجارية على الأرض تقول : إنّ
أميركة وأذنابها هم الذين صنعوا
الإرهاب في العراق، ووفّروا
أدواته ومستلزماته ورجاله
وأسلحته.. أما المقاومة الأصيلة
العراقية التي يواجهها
الإرهابيون القادمون من وراء
البحار، فهي منسجمة تماماً مع
الفطرة البشرية التي لا يفهمها
بوش وزبانيته، ومنسجمة مع كل
قوانين الأرض والسماء، التي
تحثّ على جهاد المحتل ومقاومته
بشتى الأسلحة والسبل والوسائل..
وإنّ الإرهاب المزعوم الذي
قَدِم بوش وجيشه بزعم القضاء
عليه في العراق، سيمتدّ بسبب
عدوانه الغاشم الظالم بعيداً،
ليصل إلى موطئ قدميه في البيت
الأبيض، بجريرة أفعاله وعدوانه
وانتهاكاته الغريبة عن أية
تقاليد إنسانية.. وذلك كما وصل
إلى الحليفتين لندن ومدريد،
اللتين كانتا العمود الفقري
للاحتلال والعدوان منذ بداياته
!..
نعلم يقيناً، أنّ استراتيجية بوش وإدارته،
التي أعلنها يوم أمسٍ في
الثلاثين من تشرين الثاني.. ليست
إلا سَبراً لعقدة النقص التي
يعاني منها الأميركيون، بقيادة
إدارتهم المتطرّفة وزعيمهم
المهووس بمقولات الإرهاب، لذلك
فقد أطلقوا على هذه
الاستراتيجية الهوليودية اسم : (استراتيجية
النصر الكامل في العراق)، وراح
بوش يُشرّق ويُغرّب، مشدّداً
على أنه لا يقبل إلا النصر
الساحق الكامل !.. ونعتقد أنّ كل
هذه الخطوات والحركات، ليست إلا
للتغطية على الفشل الذريع
للإدارة الأميركية، وعلى
الهزيمة المنكَرة التي مُنِيَت
بها، وقد بدأت علاماتها
وأعراضها تتسرّب إلى المواطن
الأميركي، الذي أخفى بوش (الديمقراطي
حتى العظم) وإدارته المولعة
بتحقيق الحرية للشعوب.. أخفوا
عنه كل ما اقترفوه في العراق، من
أمورٍ أغرقت أميركة في أوحاله،
وساقتهم إلى حَتفهم وهزيمتهم
المؤكَّدة، التي ستكون مدوّية،
لن ينفع معها حتى الهرب
الأميركي الكبير المتوقّع من
بلاد الرافدين !.. وعندئذٍ لن
تنفعهم شعوذة السيستاني، ولا
خطوات الجامعة العربية
المشبوهة، ولا دجل عميلهم (علاوي)
الذي يجهّزونه لاستلام الحكم في
العراق، ولا لصوصية كذّابهم
الأشِر (الجلبي)، ولا غدر (الجعفري)
وزبانيته وأقرانه من فُرْس (الحكيم)
ومجوس إيران، ولا تواطؤ الحليف
البريطاني وبقية الحلفاء
الصغار !..
نوقن أنه سيتحقق النصر كاملاً وساحقاً، لكن
ليس لأميركة الظالمة، بل
للمجاهدين العراقيين الذين
يقاومون المحتل الأميركي
الغاشم وعملاءه وأعوانه
الحاقدين، وللشعب العراقيّ
المظلوم المعتدى عليه.. لأن
أميركة قوة محتلة، وليس من سنن
الكون أن ينتصر محتلٌ غاشم،
مهما ادعى وزعم وتدثّر بمقولات
الحرية المزعومة والديمقراطية
الكاذبة واحترام حقوق الإنسان،
فاحتلال الدول وإخضاع الشعوب
هما أول انتهاكٍ فاضحٍ
للديمقراطية وحقوق الإنسان..
وعلى مرّ التاريخ، لم يُكتَب
لاحتلالٍ نصر أو استمرار، خاصةً
في بلاد العرب والمسلمين، وعلى
الخصوص في بلاد الرافدين !..
قبل أن يَهذي (بوش الصغير) بأحاديث الانتصار
الكامل، عليه أن يقرأ التاريخ،
ويستوعب دروسه، وأن ينهل العبرة
من الطغاة والسفّاحين الذين
سبقوه وقدِموا لاحتلال هذه
البلاد العربية الإسلامية،
أولهم الهمجيّ السفّاح: (هولاكو)
الذي غيّبه التاريخ فضاع جيشه
العرمرم في بلاد الرافدين،
وأصبح ذكرى وعبرة.. وآخرهم سيكون
بإذن الله، هذا الذي يُمَنّي
نفسه -جهلاً ومكابرةً فارغةً-
باستراتيجيات النصر الكامل في
العراق !..
(بوش الصغير) يُحضِّر شعبه وأصدقاءه
وحلفاءه.. للهزيمة الكبرى التي
بدأت بوادرها تُؤرقه وتُقلقه،
وللسقوط المدوّي لأميركة من على
عرش القوّة العظمى الأولى
الوحيدة في العالَم، لكن كل
خطواته ومخطَّطاته لن تنفَعَه،
ولن تُنقِذَه من الحساب الذي
يليق بالطغاة المعتدين على
الشعوب والأوطان والكرامة
الإنسانية، لا في الدنيا ولا في
الآخرة !..
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|