حول
حسنات
"الإرهاب
الأصغر"!
لؤي
عبد الباقي/ملبورن
باستثناء القلة ممن يمارسونه
ويبررون غاياته وأهدافه، فإننا
لا نجد من يجرؤ على الحديث عن
حسنات وإيجابيات "الإرهاب
الأصغر" أو "الجديد" في
عالم مليء بالقهر والطغيان
والمظالم، حيث مازال الاستبداد
والاحتلال يجدان من يضفي عليهما
طابع الشرعية السياسية
والأخلاقية والقانونية، على
الرغم من أنهما يفوقان "الإرهاب
الأصغر" بشاعة وانتهاكاً
لحقوق وحرمات الشعوب. من هذا
المنطلق، فإن استخدام مصطلح "الإرهاب
الأصغر" أو "الجديد"، في
هذه المقالة، جاء ليميز القتل
الذي تمارسه المجموعات السرية
المسلحة، وهو إرهابٌ جديد
ومحدود نسبياً، من القتل الذي
تمارسه الدول الاستعمارية
والنظم القمعية الاستبدادية،
وهو إرهابٌ شامل وقديم قدم
تاريخ المجتمعات الإنسانية.
فإرهاب الدول، الاستبدادية
والاستعمارية، هو الأكبر من حيث
حجم وإمكانات من يقوم به، ومن
حيث عدد الأرواح التي يحصدها
والشعوب التي يفتك بها، وهو
أيضاً قديم من حيث وجوده
واستمراريته الزمنية، التي قد
تستغرق عشرات، بل ومئات السنين
في بعض الأحيان.
لا شك في أن قتل الأرواح البريئة
التي عصمها الله تعالى أمرٌ
مدان بكافة اللغات، وهو مرفوض
في جميع القيم والمعتقدات
السماوية والبشرية، بغض النظر
عن الشكل والكيفية، وعمن يمارس
هذا القتل، أو يخطط له ويشجعه.
ومما لا شك فيه، أيضاً، أن قتل
نفس واحدة بغير وجه حق لا يختلف
عند الله عن قتل الناس جميعاً.
هذا من حيث المبدأ، ومن ناحية
نوع وماهية الانتهاك لحرمة
الروح البشرية. أما من حيث
معالجة الظواهر التي تشكل خطرا
على الأرواح والمجتمعات
والأمم، فإنه من المنطق أن يأخذ
كل خطر أو تهديد حجمه الحقيقي من
الاهتمام الذي يهدف إلى معالجته
وتجنبه.
منذ أن حدثت هجمات الحادي عشر من
أيلول، والتي استهدفت جبروت
أقوى دولة في العالم، قامت
الدنيا ولم تقعد حتى الآن. فمن
سلسلة الحروب والمغامرات
العسكرية التي شنتها الجيوش
الأمريكية على أفغانستان، ومن
بعدها العراق، إلى انتهاكات
غوانتانامو وأبو غريب، وغيرها
من السجون السرية التي تديرها
أنظمة التبعية، والتي تعيد إلى
الذاكرة، بالنسبة لمن أكرمه
الله بسرعة النسيان، معتقلات
الأنظمة القمعية والاستبدادية
التي عانينا ومازلنا نعاني من
ويلاتها، ويبدو أننا سنعاني
منها إلى أجل غير مسمى. لم يتوقف
الأمر عند هذا الحد الهائل من
الصخب والهيجان الشرس، بل إن
جميع دول العالم سارعت إلى
التجمعات في شتى المحافل
الدولية، وشاركت في عقد القمم
والمؤتمرات، وفي توقيع
الاتفاقيات، إضافة إلى ما قامت
به مختلف المنظمات الغير
حكومية، والمؤسسات الثقافية
والأكاديمية والدينية، من
ندوات وحلقات وأبحاث علمية، كل
ذلك بهدف معالجة ظاهرة "الإرهاب
الجديد"، الذي اجتاح وباؤه
المجتمعات الديمقراطية
الغربية، فأرّقَ الساسة وصانعي
القرار لديها، وقضّ مضاجع
الآمنين فيها.
من حق الشعوب والأمم والدول،
الكبرى والصغرى، أن تثور
وتستنفر عندما تشعر بالمخاطر
تتهدد أمنها ومستقبلها، ومن حق
القوى العظمى أن تستعين بقوى
التبعية على تحقيق مصالحها
وتحصين أمن وسلامة شعوبها. ولكن
ليس من حقها أن تطلب من الشعوب
القابعة تحت طغيان الاحتلال أو
قهر الاستبداد منذ عشرات السنين
أن تتباكى على أمن تلك الدول
والمجتمعات، وخاصة عندما ترى
هذه الشعوب المستضعفة
والمضطهدة الدور الفعال الذي
تلعبه تلك الدول العظمى في
تكريس الاستبداد والاحتلال،
وعندما تشاهد تجاوب العالم،
المتسم بالبرود والخجل، مع
قضاياها المصيرية، ومع آلامها
وآمالها.
لو أننا أجرينا مقارنة سريعة بين
عدد الأرواح التي تزهق بسبب "الإرهاب
الأصغر"، أي على أيدي
المجموعات الصغيرة المسلحة،
وبين عدد الأرواح التي تذهب
ضحايا "الإرهاب الأكبر"،
أي إرهاب حروب الدول
الاستعمارية والممارسات
القمعية للأنظمة الاستبدادية،
لوجدنا أن حجم انتهاكات "الإرهاب
الجديد" لا يعادل قطرةً في
محيط لجيّ متلاطم، أو حبة رملٍ
في صحراء مترامية. كما أننا لو
أجرينا مقارنة أخرى بين الحجم
الإعلامي والاهتمام الدولي
حيال الأرواح التي تذهب ضحية
الاحتلال، وبين الاهتمام
والثوران الذي يصيب العالم
عندما تقوم عملية تستهدف
أرواحاً متميزة عن غيرها من
البشر، كالأرواح الأوروبية أو
الأمريكية، حتى ولو كانت
العملية خارج الغرب، كعمليات
بالي في أندونيسيا أو شرم الشيخ
في مصر، نجد الفوارق جلية
والتمييز واضحاً بين دماء رخيصة
ودماء ثمينة.
إذا ما كان كشف الحقائق من
الحسنات المفيدة، ورب ضارة
نافعة، فهذه، إذاً، أولى حسنات
"الإرهاب الجديد"، حيث أنه
يميط اللثام لنا عن حقيقة
العنصرية التي مازالت كامنة
ومستترة، ويكشف زيف العالم "المتحضر"
المتخفي خلف ستار الشعارات
الجميلة البراقة، من مساواة
وحقوق إنسانية كونية واحدة...
المسألة الثانية، أو الحقيقة
الثانية التي يسهم في كشفها "الإرهاب
الجديد"، بشكل غير مباشر،
تتعلق بتحديد مفهوم الإرهاب،
وهي ترتبط أيضاً بالمسألة
العنصرية، من ناحية، وبالمصالح
الغربية، من ناحية ثانية. ففي كل
مؤتمر دولي تبرز مشكلة تحديد
مفهوم "الإرهاب"، فيختلف
المؤتمرون فيما إذا كان الإرهاب
هو فقط القتل الذي تمارسه
مجموعات غير شرعية أو غير معترف
بها قانونيا ودوليا، أم أنه
يشمل أيضاً القتل الذي تمارسه
الدول ذات السيادة المعترف بها
دوليا. رغم بساطة المشكلة في
جوهرها، ولكنها معقدة في شكلها
لدرجة أنها تفسد الكثير من
المؤتمرات الدولية وتعرقل
اتخاذ القرارات فيها. من حيث
الجوهر، فإن تحديد مفهوم
الإرهاب لا يجب أن يشكل عائقا أو
معضلة، فليس هناك أبسط من إدانة
قتل الأبرياء بكافة أشكاله، إلا
أن الذين يتعلقون بالشكل،
فيصرون على ربط الإرهاب بشكل
واحد من أشكال القتل دون
الأشكال الأخرى، يخفون حقيقة
كامنة في نفوسهم يخجلون من
الجهر بها، وهي أنهم يريدون أن
يشرعوا لقتلٍ دون آخر، كما
يريدون صون حرمة دم دون غيره من
الدماء. ليس هناك من تفسير آخر
يمكن أن يوضح لنا السبب الحقيقي
الذي يجعل من تحديد المفهوم
عائقا أمام اتخاذ القرارات سوى
أن القتل الذي يحقق مصالح الدول
المهيمنة يجب أن يبقى مسكوتا
عنه، وبالتالي فهو مشروع ومبرر،
أما غيره من أشكال القتل فهو
وحده المدان والمرفوض!
الحسنة الثالثة من حسنات "الإرهاب
الجديد"، وربما الأهم، تتعلق
بفك التحالف بين الاستعمار
والاستبداد، وإفساد تلك
العلاقة الودية بينهما،
وبالتالي التخفيف من الرعاية
التي كانت توليها الدول الكبرى للأنظمة
الاستبدادية. ويعود الفضل في
ذلك إلى إشكالية تحديد أسباب
الإرهاب، فكلا الطرفين، من
أقطاب الاستبداد وأقطاب
الاستعمار، يتهم الآخر بأنه
السبب الرئيس في ازدياد وتفاقم
ظاهرة الإرهاب، وخاصة عندما
تتعارض المصالح الاستعمارية مع
الأنظمة الاستبدادية. من الجلي
الواضح أن كلا الطرفين محقان في
هذه الاتهامات، إذ لا شك أن
الإرهاب الجديد لم يظهر إلا كرد
فعل على المظالم والانتهاكات
التي يمارسها الطغيان، سواء كان
على شكل الاستعمار أو في صورة
الاستبداد الذي، بدوره، لا يخدم
سوى مصالح الاستعمار، وأنانيات
الطغاة المحليين.
لقد أجريت دراسات كثيرة في مختلف
المراكز البحثية، وخاصة في
الدول الغربية، بهدف تحديد
أسباب ازدياد ظاهرة الإرهاب،
وتوصلت معظم تلك الدراسات إلى
أن الاستبداد هو أحد أهم أسباب
الميل إلى العنف والإرهاب لدى
الجماعات والأفراد الذين
يتعرضون للقمع والاضطهاد.
وبناءً على تلك الدراسات قدمت
توصيات إلى صانعي القرار في
الدول الغربية، تؤكد على ضرورة
التوقف عن دعم الأنظمة
الاستبدادية. مرة أخرى تظهر لنا
بجلاء حقيقة أنه حتى قرار
التوقف عن دعم الاستبداد، وهو
قرار إيجابي مع أنه لم ينفذ إلا
بشكل انتقائي ومحدود، لم يكن
بدافع إنساني أو لنشر
الديمقراطية وحقوق الإنسان، بل
فقط لأنه اتضح أن هناك مصلحة
غربية في ذلك.
قد يزعم البعض، من أنصار تبرير
الاستبداد أو الاستعمار، سواء
بحسن أو بسوء نية، بأن خطاباً من
هذا النوع من شأنه أن يعطي
تبريراً للإرهاب والعنف، حيث
يسلط الضوء على بعض الحسنات
التي يتسبب بها الإرهاب، سواء
بشكل مقصود أم لا، وهذه بدون شك
قراءة متحيزة، أو ساذجة، لا
تريد أن تعترف ببشاعة ما تعانيه
الشعوب المقهورة من تعسف
الاستبداد أو طغيان الاستعمار،
ولكن الشرفاء، وخاصة منهم ألئك
الذي ذاقوا مرارة هذه المظالم
والانتهاكات، يدركون جيداً
أنها صرخة حق في عالم طغت فيه
شرور الهيمنة والتسلط، وفتكت به
أنياب الأنانية الجشعة، فلعلّ
هذه الصرخة تجد أصداءً بين
أصحاب العقول والضمائر، الذين
يبحثون بجدية عن مخرج من هذه
الكوابيس والمخاطر المحدقة
بمصائر الشعوب والأمم، والتي لن
يسلم منها مجتمع غربي أو شرقي في
زمن انفتاح الفضاءات وتغول
العولمة المتوحشة.
آن للعالم أن يدرك أنه لا مجال
لمعالجة أسباب "الإرهاب
الأصغر" ما لم تعالج أسباب
"الإرهاب الأكبر"، فطالما
بقي الطغيان والظلم والقهر هو
اللغة السائدة، فستبقى
احتمالات الردود والانفعال
مفتوحة على كافة الأصعدة.
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|