ويَسألونَكَ
عن المقابر الجماعية
قُل
: سورية كلها مقبرة جماعية
بقلم
: الدكتور محمد بسام يوسف
حديث المجازر والمقابر الجماعية في سورية..
ليس ذا شجونٍ فحسب، بل هو حديث
من نوعٍ خاص، يمتاز بأعظم ما لدى
الإنسان من ألمٍ وأسىً وحزنٍ
وأسف، فالمقابر الجماعية في
سورية ليست جسديةً وحسب، بل هي
متعدّدة الأشكال والأصناف،
عُمرها بعُمْرِ حزب البعث
المتسلّط.. في السلطة، بدأت منذ
أكثر من أربعين عاماً ولم تنتهِ
حتى الآن، فهي مستمرة باستمرار
الجَهَلَة الجائرين، الذين
يستبدّون بكل شيءٍ في البلاد،
ويطبعون بصماتهم النكراء فوق
الأرض وتحتها.. على ظهرها وفي
باطنها !..
ليست المقبرة الجماعية المكتشَفَة في (عنجر)
اللبنانية.. أول شاهدٍ على
ممارسات النظام الفئويّ الذي
يحكم سورية، ويمتدّ شرّه إلى
خارج حدودها.. ولن تكون المقبرة
الأخيرة التي تُكتَشَف، طالما
أنّ صرخات أبناء شعبنا في سورية
ولبنان التي يُطلقونها منذ
أربعة عقودٍ.. قد بدأت تجد
آذاناً صاغيةً شُفِيت لتوّها من
الصمم الدوليّ المفتعَل، الذي
كان الأداة الفعالة لتأمين
الغطاء المناسب للنظام الحاكم،
ليستمرّ في إجرامه وعَسَفه
وتجبّره.. أمّا وقد رُفِعَ
الغطاء، وانتهت مدة صلاحية
النظام، وقرّر أربابه التخلّص
منه.. فنأمل أن تمتدّ الاكتشافات
المذهلة إلى باطن التاريخ
والأرضِ في سورية، لتظهر
للعالَم كله، حقيقةُ حكامها
الجائرين، وطبيعة الاستبداد
فيها، وأنموذج الحكم البعثيّ
القاتل المتخلّف، الذي تضيع في
ثنايا سجاياه ولؤمه.. محاكمُ
التفتيش، وما انتشر في العصور
الوسطى الظلامية من قهرٍ وإجرام
!..
لَعلّنا في حديث الشجون هذا، نلفت إلى ما
ردّده جَهَلَة النظام الأحادي
البعثيّ، بعد اكتشاف مقبرة (عنجر)
بجوار المقر الرئيسي السابق
للمخابرات السورية في لبنان منذ
أيام.. ليختلط في التفاتتنا
البكاء بالضحك، على طبيعة تلك
الثلّة الحاكمة وحقيقتها !.. فقد
خرج علينا أحد المسئولين
السوريين ليُخبرنا، بأنّ تلك
المقبرة كانت حصيلة قتال الإخوة
الفلسطينيين المنشقّين عن فتح
مع إخوتهم الفتحاويين !.. ثم طلع
علينا مسؤول بعثي ثانٍ،
ليُتحِفنا بأنّ المقبرة كانت
إحدى إفرازات الصراع، بين
القوات اللبنانية وقوات العماد
ميشيل عون في عام 1991م !.. أما الذي
لم يخبرانا به المسؤولان
العبقريان ، فهو هوية تلك
اليد الخفية التي كانت تُحرِّك
الشقيق الفلسطيني على شقيقه،
وتُحرِّض ابن البلد اللبنانيّ
ضد أخيه، بافتراض أننا صدّقنا
روايتهما الساذجتَيْن
البعيدتَيْن عن الحقيقة.. ومَن
يدري، فقد يطلع علينا عبقري
بعثي آخر، ليُخبرنا الخبر
اليقين، بأنّ مقبرة عنجر، إنما
كانت حصيلة قتال الأشقاء العرب
في معركة بدرٍ الكبرى أو غزوة
أُحُد، بين صحابة رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وإخوانهم كفار
قريش !..
لعل التلاعب بالحقيقة وإخفاءها والتمويه
عليها والمراوغة للحؤول دون
ظهورها.. لعل ذلك في نهجِ النظام
البعثيّ الفئويّ الأحاديّ.. هو
المقبرة الأولى في سورية البعث،
طوال عشرات السنين من تاريخه
السلطويّ الأسود، فالحقيقة في
شآم البعث لها مجازر ومقابر !..
في سورية، كل جانبٍ من جوانب الحياة له
مجازر، وكل المجازر لها مقابر،
وكل المقابر يتستّر عليها نظام
الحُكم الآثم، بغطاءٍ دوليٍّ
وإرهابٍ مخابراتيٍّ داخليّ،
ويُبرّرها الحكام الشموليونّ،
بضرورة السير على النهج الثوريّ
المستمَدّ من مناهج الثورات
الحمراء السوفييتية الآفلة،
لتصفية أعداء الثورة وخصومها،
الذين يتحرّكون ويتآمرون، حسب
مزاعم البعثيين، لينالوا من
صمود سورية البعث وتصدّيها
للهجمات الإمبريالية التآمرية
المزعومة.. وكل تلك المجازر
ومقابرها لها قوانين ودساتير،
صُنِعَت خصّيصاً للاستمرار في
الاستبداد، وممارسة الباطل
والعُهر السياسي والفساد
المتعدد الأشكال، ولم يَعُد
مُستَغرباً أن يكون الناطق بهذه
الحقيقة، هو الضابط البعثيّ (حافظ
الأسد)، حين أطلقها من ثكنة (الشرفة)
في حماة عام 1964م : (سنُصفّي
خصومَنا جسدياً)، وذلك قبل
انقضاضه على كرسيّ الحكم بست
سنوات !..
كان (نزار قباني) يتغنّى بدمشق، ويصفها أجمل
وصفٍ تتلهّف له القلوب،
وتستوعبه العقول، وتستنفر له كل
الأحاسيس المرهَفَة، حين قال :
قمرٌ
دمشقيٌ يُسافرُ في دمي
وبلابلٌ .. وسنابلٌ ..
وقِبَابُ
الفُلُّ
يبدأ من دمشقَ بياضَهُ
وبِعِطرِها تتعطّرُ الأطيـابُ
إلى أن يقول :
والماءُ
يبدأُ من دمشقَ .. فحيثُما
أسندتَ رأسكَ ، جَدولٌ
ينسابُ
ولم يخطر في بال القباني يومها، أن يأتيَ
يومٌ على الشام، لُيصَحِّح
البعث مقولته الشعرية
المتألّقة إلى : (.. حيثُما أسندتَ رأسكَ ،
مقبرةٌ ترتابُ) !.. مع أنّ الشاعر
الكبير يستدركُ في القصيدة
إياها، ليصف الحال، والحال هي
دائماً مستمدَّة من لعنة البعث
على هذا الشعب السوريّ المنكوب :
من أينَ
يأتي الشِّعرُ .. حيَن نَهارُنا
قَمعٌ ، وحينَ مساؤنا
إرهابُ
سَرَقوا
أصابِعَنا وعِطرَ حُروفِنــا
فبأيِّ شيءٍ يَكتبُ
الكُتّابُ ؟!..
ثم يختم نزار وصفه لطبيعة الحال السورية،
بكلامه الجامع :
والحُكمُ
شُرطيٌّ يسيرُ وراءَنا
سِرّاً .. فنكهةُ خُبزِنا
استجوابُ !..
هي ذي القضية إذن، حُكمٌ بوليسيٌ متجبِّر،
يتحكم بالبلاد والعباد،
ويتدخّل في كل شؤونهم العامة
والخاصة، ليصوغَها على قوالب
البعث المتسلّط، وعلى نُمرة
قالب الفئة الحاكمة، التي
اغتصبت السلطة في صبيحة الثامن
من آذار لعام 1963م.. حُكمٌ
بوليسيٌ لم يصنع لنا إلا
المجازر والمقابر، التي ملأت
كلَّ مكانٍ وزاويةٍ في الوطن
الحبيب، ووقف أربابها إلى
جوارها أو فوقها، يتراقصون على
أشلائنا، ويَسكرون بدمائنا،
ويُعَربِدون على قِيَمنا وأسسِ
الحياة الفاضلةِ في نفوسنا !..
في سورية، مجازر من نوعٍ فريد، وكل المجازر
فيها لها مقابر !.. فلسِلك (التعليم)
مجزرة، راح ضحيتها مئات
المعلّمين وأساتذة الجامعات
غير البعثيين، قُبِروا أحياء في
غَيابة الإهمال والإقصاء وضياع
لقمة العَيش.. ولسِلك (القضاء)
مجازره، وضحاياها مئات القضاة
الأكفياء، الذين دُفِنوا في
غياهبِ الحياة، وحوربوا بكل
الوسائل الوضيعة.. و(للنقابات
المهنية) مجازر ومقابر، بمرسومٍ
جمهوريٍ دكتاتوري أُطلِقَ
عنانه بتاريخ : (8/4/1980م).. و(للدستور)
مجزرة ومقبرة، شُيِّدَ على
جنباتها دستور البعث الفئويّ
الأسديّ، الضامن لاستمرار
التسلّط والاستبداد والحُكم
الأحاديّ.. و(للقوانين المدنية
والقضائية) مجازر ومقابر، بُنيَ
على أنقاضها قانون الطوارئ
والأحكام العُرفية والقانون
القاتل رقم (49) لعام 1980م.. و(للمحاكم
المدنية) مجازر ومقابر، أقيمت
على أنقاضها محاكم أمن الدولة
الاستثنائية والمحاكم العسكرية
الميدانية.. و(للمجتمع المدني)
ومؤسساته مجازر ومقابر، حَلّت
محلّها تشكيلات البعث ومنظماته
الشوهاء وبصماته المشوَّهة.. و(للمدارس
الشرعية) مجازر ومقابر، دُفِنَت
فيها القِيَم الإسلامية
الخالصة، لتشغل مكانها قِيَمُ
البعث الكارثية.. و(للحجاب
الإسلامي) مجازر ومقابر،
دُفِنَت فيها الفضيلة والعِفَة
والطُهر.. و(للطفل السوريّ)
نصيبه من المجازر والمقابر، حيث
دُفِنَت فيها براءته وفطرته
الربانية السليمة، فرُبِّيَ في
منظمة طلائع البعث رغم أنف
أهله، على قِيَمِ البعث القمعيّ
البوليسيّ، فحُرِّض الولد على
أبيه، وحُرِّضَت البنتُ على
أمها، والشقيق على شقيقه، وابن
العشيرة على شيخه، والتلميذ على
معلّمه، والجارُ على جاره،
والصديق على صديقه.. و(للوحدة
والحرية) مجزرة.. فمقبرة، فصارتا
بفعل الجزّار البعثيّ بعيدتَيْ
المنال بل أبعد من (دَرْب
التبّان).. و(للاقتصاد) مجزرة
ومقبرة، قام عليها فاسدو البعث
ووصوليّوهم.. فدُفِن فيها كل
قرشٍ حلال، وكل خُلُقٍ وطنيٍ
طاهرٍ كريم.. و(للسياسة) مجزرة
ومقبرة، سُجِّيَ فيها كل إخلاصٍ
للوطن والشعب، وحَل محله
البهلوانيات السياسية
التواطؤية، واللّعب على جراح
الوطن، من أجل الحفاظ على كرسيّ
الحُكم.. و(للأمن والأمان) مجازر
ومقابر لا تُحصى، دُفِنَ فيها
استقرار المواطن والوطن،
وحَلّت محله البلطجة
المخابراتية والقمع والقلق
والرعب والقهر والخوف.. و(لأرض
الوطن) مجزرة ومقبرة، دُفِنَ
فيها الجولان المحتل، ونام
الدفّانون البعثيون قريري
العيون، يحمون العدوَّ
الصهيونيّ.. ويحميهم، ويشترون
كراسيّهم بالانخراط في خرافة (التوازن
الاستراتيجي) تارةً، ومتاهة (الخيار
الاستراتيجي) تاراتٍ وتارات !..
في سورية، مجازر لا تُعَدّ، ومقابر لا
تُحصى، ولعل أهونها المجازر
الجسدية التي راح ضحيتها عشرات
الآلاف من أبناء الوطن السوري
الأبرياء، في تدمر وحماة وجسر
الشغور وحلب وحمص واللاذقية
وإدلب ودمشق والقامشلي ودير
الزور، وفي كل السجون
والمعتقلات البعثية الفئوية
الأسدية، المنتشرة في طول الوطن
وعَرضه !..
الحديث عن مجازر البعث ومقابره الجماعية..
طويل ذو شجونٍ وشجون، سنوجزه ما
استطعنا في مقالاتٍ قادمةٍ بإذن
الله، وسنقدّم كل ما قلناه وما
سنقوله هديةً، إلى أولئك
الحُجّاج الذين يتوافدون هذه
الأيام على كعبة البعث الطائفي
في دمشق، من قيادات الأحزاب
العربية والإسلامية، ليتنافسوا
على التواطؤ مع سفّاحي شعبنا،
وليتشدّقوا بالصمود المزعوم
لربهم نظام سورية، أمام الهجمة
الأميركية الصهيونية، التي كان
هو صانعها ومُخرِجها وسائسها
والسائر في ركابها، ليحمي بعض
مجرميه الذين اقترفوا كل
محرَّم، وارتكبوا كل جريمةٍ بحق
الوطن السوري واللبناني
وشعبهما.. فهنيئاً لكل أولئكَ
الثورجيين المتضامنين مع
السفّاحين، الذين لا يهمّهم أمر
حتى لو دُمِّر الوطن كله على
رؤوس أبنائه.. فما يهمّهم وحسب،
هو أن يُحمى سفّاحو النظام
وجلاوزته المجرمون، ويُحمى عرش
البعث البغيض !..
هنيئاً لكل حُجَّاج كعبة البعث، ونخصّ منهم
الحجاج تحت اسم الإسلام، ونقول
لهم مذكّرين بما قلناه آنفاً،
وبما سنقوله لاحقاً، عن مجازر
النظام التي يندى لها الجبين،
ومقابره التي لم يُرتَكَب مثيلٌ
لها في التاريخ، ونهجه القمعيّ،
وطبيعة ابتزازه الرخيص، نقول
لأولئك الحُجَّاج جميعاً :
(.. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ
يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ
وَلاَ يَحْقِرُهُ .. كُلُّ
الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ
حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ
وَعِرْضُهُ) (رواه مسلم).
(لا
تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ
حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ
أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ
إِخْوَانَهُمْ أَوْ
عَشِيرَتَهُمْ..) (المجادلة:22).
فافعلوا ما شئتم أيها القوم المخدوعون،
وحجّوا ما قدرتم إلى كعبة
البعث، وتنافسوا على التملّق
والتشدّق بالباطل أمام كاميرات
البعث.. لكن اعلموا جيداً، أنّ
التاريخ لا يرحم، وأنّ شعبنا لا
ينسى، ولن تؤثّر مجزرة جديدة
ومقبرة للحق والحقيقة تشاركون
فيها.. لن تؤثر على إصرار هذا
الشعب المضطهَد بكل حزمٍ وقوّة،
لانتزاع حقوقه المشروعة كاملة،
في الحرية والتحرّر من استبداد
البعث وباطله وظلمه وعدوانه،
مهما حاول الأرباب وعبيدهم
تزوير الحقائق، والضحك على ذقون
المغفَّلين، الطامعين بدقيقة
ظهورٍ أمام كاميرات القنوات
الفضائية للنظام الجائر
المستبدّ !..
(.. وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي
ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً
لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ
لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ
نَسْفاً) (طـه: من الآية97)
وللحديث بقية بإذن الله عز وجل، ويا لها من
بقية !..
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|