مجـزرة
طريق سـريحين
خالد الأحمد*
يقول فلاسفة
التاريخ : الهدف من دراسة
التاريخ ليس اجترار الآلام ،
ونبش الماضي بروائحه المتعفنة ،
وإنما هو أخذ العبرة من الماضي ،
لنستفيد منها في الحاضر ،
وعندما أتحدث عن المذابح
الجماعية التي مارسها نظام حافظ
الأسـد في سوريا ، لا أقصد منها
سوى أن نعتبر من الماضي المؤلم ،
وأن نتخذ كافة الاجراءات
والاحتياطات كي لايعود هذا
الماضي ، ونجتث الأسباب المؤدية
لهذا الماضي المروع من جذورها ،
وأهم تلك الجذور الحكم الفردي
الديكتاتوري ، الذي استخدم
الجيش ( جيش الشعب ) كما قالوا
عنه ، استخدم جيش الشعب ليقتل
الشعب بدلاً من أن يحميه ، يقتل
الشعب بالأموال التي حرم الشعب
أطفاله من كفايته من الخبز
والطعام والماء والكهرباء ....
واشترى أسلحة لجيش الشعب كي
يحميه من إسرائيل ، وكي يحرر
الجولان الذي تحتله إسرائيل منذ
عام (1967م) ، وإذ بهذا الجيش يقتل
بها الشعب نفسـه . وكي لانظلم
الجيش فقد فرغ هذا الجيش من
الشرفاء المخلصين الذين تطوعوا
فيه لتحرير الجولان ، وأبعدوا
عن مفاصل القرار في الجيش ،
وكدسوا في [ الأركان ] ينتظرون
إحالتهم إلى التقاعد بعد رتبة
العميد ، أو كدسـوا في الشؤون
الإدارية والصحية للقوات
المسلحة ، كما سجن الكثير منهم ،
وأعرف ضابطاً منهم لايهمه في
الحياة سوى اتقان السلاح الذي
يعمل فيه ، وهو الدبابات ، وكان
متفوقاً في ميدان عمله ، لذلك
أسندت له مهمة مدرب مادة
التكتيك في دورة ضباط كذا ، وقد
أبلى بلاء حسناً في عام (1973م)
وكان قائد سرية دبابات ، وفيما
بعد وفي عام (1981) تقريبا اعتقل
ووضع في السجن حوالي أحد عشر
عاماً ، ثم يفرج عنه ويحال إلى
التقاعد .
أو نقلوا إلى
الوزارات المدنية ، ليتسلموا
أمين مستودع الأخشاب في مؤسسة
كذا ... وغيرها . وترك في قيادات
الجيش أزلام حافظ الأسد ، الذين
باعوا ضمائرهم للدولار الذي
أغدقه عليهم حافظ الأسد ، من
أموال الشعب ، ومن عائدات النفط
التي لم تكن تدخل الخزينة
العامة للدولة ، ومن ملايين
الدولارات التي كان يحصل عليها
من الدول العربية ، ليبقى
صامداً أمام إسرائيل .
في عام 1982م كانت
مجزرة حمـاة الكبرى ، التي خطط
لها نظام الأقلية في سوريا منذ
عدة سنوات ، فقد نقل عن حافظ
الأسـد قولـه في أحد مؤتمرات
الحزب : ( ... أما الإخوان
المسلمون فلاينفع معهم إلا
التصفية الجسدية ) ، كما نقل عن
شقيقه وساعده الأيمن في الحكم
يومذاك رفعت الأسـد قولـه : ( ..
سأجعل المؤرخين يكتبون : كانت
هنا مدينة تسمى حماة ..) ...
وهذا الغضب والحقد
على حماة سـببه أن هذه المدينة
محافظة على دينها ، ترك فيها
الشيخ محمد الحامد يرحمه الله ،
وتلامذته أثراً طيباً في
الالتزام بالإسلام ، والسلوك
الإسلامي للرجال والنسـاء ، وقد
كانت الفتيـات تخشـى أن تخرج
سـافرة في الشـارع الحموي ، لأن
الرجال في الشـارع سوف يكلمون
والدها حالاً ، ينصحونه فإن لم
يستجب وبخـــوه ، وكانت أي
فتـاة يـزين لها الشيطان أن
تخرج سـافرة تخاف إن شاهدها
الشيخ محمد الحامد يرحمه الله
الذي سيكلم والدها في الحال ،
وكانت مساجد المدينة تعـج بدروس
العلماء ، يحضرها الطلاب
والشباب والكبار ، وتوجد دروس
خاصة للنساء .
كل ذلك جعل حمـاة
مدينة محافظـة على إسلامها ،
لاتقبل أن تعيش السافرات
المتبرجات بين أهلها ، ولاتقبل
أن يسـكن فيها الفاسدون
المفسدون المتحللون من دينهـم
، ولهذا السبب كانت مدن
سـوريا تعج بهجرة الريـف إليها
، ويشكل أهالي الريف أحياء
بكاملها في حمص ودمشق خاصة ، أما
حماة فكانت هجرة الريف لهـا
محدودة جداً لهذا السبب ، وكانت
مقصورة على فئات معينة من
المواطنين ، وفئات أخرى يستحيل
عليها العيش في حماة ، لأن
الشـارع الحموي لايقبل فيـه مثل
ذلك السلوك الذي تسلكه تلك
الفئات .
وهذه البيئـة
المحافظـة كانت مركزاً للإخوان
المسلمين ، وقبل تأسيس جماعة
الإخوان المسلمين على مستوى
سوريا عام (1945م) ، عندما اتحدت
خمس جمعيات دينيـة من شـتى مـدن
سوريا على يـد الشيخ مصطفى
السباعي لتكون جماعة الإخوان
المسلمين في سوريا ، قبل عام
(1945م)كانت في حماة جمعية اسمها (
جمعية الإخوان المسلمين ) ، شكلت
بمعرفة الشيخ محمد الحامد يرحمه
الله الذي عرف الإمام حسن
البنـا في مصـر ، وكان زميلاً
للشيخ مصطفى السباعي يرحمهم
الله جميعاً . وخلال الخمسينات
والستينات نمت جماعة الإخوان
المسلمين في حماة ، وبـرز في
مدينة حمـاة بضع دعـاة قـادة
منهم الشيخ سعيد حـوى يرحمه
الله وغيره ، وكانوا من
المدرسين فكان لهم أثر طيب في
الشباب والبنات .
لهذه الأسباب
وغيرها صارتدمير حماة هـدفـاً
استراتيجياً عند نظام الأقلية
الذي قاده حافظ وشقيقه رفعت .
وقد تعهدوا للصهيونية العالمية
بتدمير الحركة الإسلامية ،
واجتثاثها من الجذور ، كما صرح
حافظ الأسد نفسه
عام (1973م) بعد أن اعتقلت
السلطة عدداً من مدرسي مدينة
حماة ، وذهب وفد يرأسه الشيخ
الشقفة يرحمه الله ( وهو ليس من
تنظيم الإخوان ) ، ليشفع لهم عند
الرئيس حافظ الأسد الذي واجه
الوفد بغضب وقال : لأقطعن اليد
التي لم يستطع عبدالناصر أن
يقطعها .
ومنذ الستينات صاروا يخططون
لتدمير هذه المدينة ، كما ظهر
واضحاً في مجزرة حماة الكبرى
عام (1982) .
قـريـة سـريحيـن :
تقع قرية سريحين
شرق مدينة حماة على بعد خمسة
كيلو مترات فقط ، وفي منتصف هذا
الطريق وقعت واحدة من أبشع
مجازر حماة الجماعية ، التي لم
تعرف التفصيلات الكثيرة عنها ،
لأن القتل الجماعي استحر فيها ،
وما نجا إلا قليلون كأصابع اليد
، قدر لهم أن يكونوا شهادة حية
على ذبح أناس ملأوا إحدى عشرة
شاحنة طوتهم الأرض الطهور في
طريق سريحين ، يقول ( أبو حيان
الحموي ) أحد الناجين من إحدى
هذه المجازر :
كنت ضمن أعداد
كبيرة ملأت إحدى عشرة شاحنة
بازدحام شديد ، كدسنا فيها
كالغنم ، حتى كادت تتقطع
أنفاسنا ، وسيق بنا إلى سـريحين
، حيث أمرنا بالنزول فنزلنا ،
وكان أول مارأينا مناظر تشيب
لها الولدان ، مئات الأحذية
المتناثرة على الأرض ، وأدرك
الجميع أنها تعني مقتل مئات
المواطنين من أبناء بلدتنا ،
وأننا على الموت مقبلون .
فتشنا بعد ذلك ،
وأخذت منا الأموال التي معنا ،
وجردنا من ساعاتنا ، ثم أمرتنا
عناصر السلطة بالتقدم نحو
الخندق العميق الذي يمتد أمامنا
إلى مسافة طويلة ، وأمر قـسم منا
بالنزول إلى خندق مجاور ،
وعرفنا الهدف وهو أن نموت في
أسفل الخندق فتطمرنا الجرافات
بالتراب ، وبعضنا بين الحياة
والموت .
وعندما تقدمت إلى
موقعي أمام الخندق ، رأيت الجثث
المتراكمة على بعضها البعض ،
يلطخها الدم الحار ، وكان
مشهداً رهيباً لم أستطع تحمله
فأغمضت عيني ، وتحاملت على نفسي
خشية الوقوع على الأرض ، وانطلق
لساني يردد سراً في قلبي شهادة
أن لاإله إلا الله ، وأن محمداً
رسول الله ، وصرت أتذكر بعض آيات
من كتاب الله عزوجل أصبر بها
نفسي .
وحدث ماكان متوقعاً
، انهال الرصاص الغزير علينا ،
وهوى الجميع إلى الخنادق مضرجين
بدمائهم ، أما القسم الذي أنزل
إلى الخنادق فقد أطلقت عليهم
النار داخله .
ويضيف الراوي أبو
حيان الحموي الذي نجا بقدر الله
:
كانت إصاباتي خفيفة
، ومن نعم الله عليّ أنهم لم
يطمرونا بالتراب حالاً ، بل
ذهبوا مسرعين ، لمهمة جديدة ،
وتركونا نلفظ أنفاسنا في
الأخدود ، وقدر
الله لي أن أنجو بأن صبرت حتى
خلا المكان من الجزارين ، وهربت
متحاملاً على جراحي وأنقذني
الله من ذلك المصير ، حيث يموت
الجريح تحت الجثث الأخرى .
وبمعالجات بلدية ،
قدر الله لي الشـفاء ، ولم أجرؤ
على مراجعة المستشفى للعلاج ،
لأن أزلام السلطة هناك يجهزون
على كل من يتقدم ويطلب العلاج من
المستشفى . كما فعلوا بالأستاذ
فائز عاجوقة يرحمه الله ، الذي
أصيب بعدة طلقات في مذبحة جنوب
الملعب البلدي ، ولما أسعف إلأى
المشفى الوطني للعلاج ، أجهز
عليه هناك ، وقيل بقرت بطنه
وأخرجت كبده يرحمه الله .
وقدر الله لي أن
أعيش لاأرتجف كلما سمعت اسم
سريحين ، ومازلت أصـر أن أتجنب
المرور من ذلك الطريق ، لأنني
أتصور أنني سيغمى عليّ لو مررت
من ذلك المكان الذي شاهدت فيه
الجثث ينزف منها الدم الحار في
قاع الخندق .
وقد عرف من أسماء
الشهداء في هذه المجزرة :
الشهيد ممدوح
الوتار – الشهيد محمد علواني –
الشهيد معن علواني – الشهيد
محمد حلاق – الشهيد منير عدي –
الشهيد عدنان زوزا – الشهيد عبد
الغني ترو – الشهيد جبار عبد
الغني ترو – الشهيد عبد الله
خالد عدي – الشهيد منذ عثمان
المصري . وكثيرون غيرهم . يرحمهم
الله تعالى .
*كاتب
سوري يعيش في المنفى
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|