"محلك
سر" ... نهج بعثي بامتياز
الطاهر
إبراهيم*
في
النصف الأول من خمسينيات القرن
العشرين، حيث لم تكن معظم قرى
سورية تمتلك جهاز راديو واحد،
لغلاء تلك الأجهزة ولضيق ذات
اليد. وعندما كان يحل شهر رمضان،
حيث كان الراديو ضروريا للإفطار
عند سماع أذان المغرب، كان لا بد
من وجود ما ينوب عنه، وكان أرخص
وسيلة هو "الروزنامة" التي
يسجل في أوراقها بشكل يومي زمن
الأذان للأوقات الخمسة.
وكثيرا
ما كنت أقطع الورقة اليومية،
وأقرأ ما كان يدوّن على وجهها
الخلفي من نصائح ترشد ربات
البيوت إلى أنواع من الأطعمة،
يمكن أن تجعلها على مائدة
الإفطار في ذلك اليوم. وربما كنت
أجد في أحد الأيام مكتوبا على
ورقة الروزنامة الجملة التالية:
"كلوا مما تبقى من طعام
البارحة".
تذكرت
هذه الجملة يوم السبت 11 شباط
الجاري وأنا أستمع إلى
الفضائيات تستعرض أسماء
الوزراء الذين دخلوا وزارة
"محمد ناجي عطري" في
التعديل الوزاري الجديد الذي
أعلن عليه في نفس اليوم. وكان
المعلقون يتوقفون عند بعض
الأسماء خصوصا الذين
"أزمنوا" في مناصبهم
الحكومية، وكأن البلد خلت من
الرجال، فأصبحت أسماؤهم تتكرر
في كل وزارة جديدة، وكأنها
"اللازمة" في الأناشيد
الوطنية.
ولعل
اسم وزير الخارجية "فاروق
الشرع" قد حظي بحصة الأسد من
تعليق المحللين عندما كانوا
يشيرون إلى أنه أمضى أكثر من
عقدين من الزمن في منصب وزير
الخارجية ، قبل أن يصبح نائبا
للرئيس في التعديل الأخير.
لم
أتمالك نفسي -وأنا أتابع جردة
أسماء الوزراء في الوزارة
الجديدة- أن أتمتم من دون
انتباه: "كلوا مما تبقى من
طعام البارحة". ثم عدت إلى
نفسي لأقول وأنا في كامل وعيي:
ولم العجب؟ أليس هذا هو الحال
منذ أكثر من أربعين عاما؟ ألم
نمض مع الرئيس الراحل حافظ
الأسد أكثر من ثلاثة عقود، ثم
ألزمونا من بعد موته أن جعلوه في
شعاراتهم "معنا إلى الأبد يا
حافظ الأسد"؟ وهذا الرئيس
بشار ما يزال شابا في مقتبل
العمر، وربما نقضي مع هذا
الطعام أياما طويلة لا يدري
مداها إلا الله.
في
الدول المتقدمة قد يجدد ،عن
طريق صناديق الاقتراع، للحزب
الحاكم مرة أو أكثر. فإذا ما فشل
الحزب الحاكم في الانتخابات،
تنحى جانبا ليتقدم الحزب الذي
حصل على الأغلبية وليشكل
الوزارة الجديدة.
أمافي
سورية فليس هناك أحزاب تتنافس
ولا انتخابات تجرى. فما يحصل هو
تغيير وجوه أعضاء ما يسمى
"مجلس الشعب" كل أربع
سنوات، بتعيين ثلثي أعضائه من
قبل القيادة القطرية لحزب
البعث، وينتخب الثلث الباقي من
مستقلين يرضى عنهم أمناء فروع
الحزب في المحافظات من خلال
"بازار" تختلف الصفقة فيه
حسب كل مرشح.
في
دول العالم ،التي تحترم نفسها،
تخضع حكوماتها لرقابة صارمة،
تفرضها القوانين. وهذه القوانين
ينبغي أن تكون وفق أحكام
الدستور. وربما سنت الأغلبية في
مجلس النواب قانونا، فإذا طعنت
الأقلية في شرعيته أحيل إلى
المحكمة العليا، التي تنظر فيه
وقد ترده إذا تبين أنه مخالف
للدستور.
أما
عند البعثيين في سورية فإن
قانون الطوارئ هو السائد. وقد
يظن البعض أن الطوارئ لها
قوانين منضبطة بمواد وفقرات.
والحقيقة أن تصرفات أجهزة الأمن
التي تخرق القانون وحتى الدستور
،من خلال صلاحيات تستمدها من
رئيس الجمهورية، هي التي تحدد
مواد الطوارئ. ما يعني أن هناك
نسخا عدة من قانون طوارئ، تتعدد
بتعدد أجهزة الأمن. يظهر ذلك
واضحا عندما يطلق جهاز أمن سراح
معتقل، فيعيد جهاز آخر اعتقاله.
وفي
دول العالم التي تنبثق حكوماتها
عن الشعوب، ربما استقال وزير
إذا أخطأ، وقد يكون الخطأ
صغيرا، كما حصل مع وزير
الداخلية البريطاني السابق
الذي ساعد صديقته في استقدام
خادم لها، فقدم استقالته.
أما
عندنا في بلادنا السعيدة سورية،
فإن الوزير ترتفع مرتبته كلما
ازداد فشله، مثلما حصل مع
"فاروق الشرع" الذي تسببت
سياساته الخاطئة بصدور عدة
قرارات إدانة بحق سورية من مجلس
الأمن. ومع ذلك تمت ترقيته إلى
نائب للرئيس. وما يزال السوريون
يتذكرون هزيمة حزيران عام 1967
.وبدلا من تنحية من تسبب بهذه
الهزيمة تمت ترقية وزير الدفاع
حافظ أسد إلى سدة الرئاسة في عام
1970 .
في دول
العالم يتم اختيار موظفي الدولة
الكبار والوزراء في الأحزاب
الحاكمة حسب معيار الكفاءة
والسمعة الطيبة. فإذا اختل هذا
المعيار مع أحد الوزراء ،خصوصا
إذا تعلق الأمر في النواحي
المالية،فإن الوزير يسارع إلى
تقديم استقالته،كما حصل مع
وزيرين في حكومة "طوني
بلير" الأولى. فقد استدان
وزير المالية مبلغا من وزير آخر
ومن ماله الخاص، فلما انكشف
الأمر، قدم الوزيران
استقالتيهما من الوزارة، لآن ما
حصل قد يؤثر على نزاهة أحدهما أو
كليهما في العمل الحكومي.
أما في
سورية الحبيبة، فقد عين "محمد
مصطفى ميرو" محافظا في
"الحسكة" ثم في "حلب"،
وقد نواترت أخبار السرقات
والرشاوي التي كانت تصب في جيب
المحافظ، يدفعها موظف يعين في
وظيفة جديدة أو ينقل إلى مركز
"مربح!". وكانت النتيجة أن
رُقّي المحافظ العتيد إلى مرتبة
رئيس وزراء في آخر عهد الرئيس
"حافظ أسد". وقد انكشف حجم
الأموال التي "لهفها" ميرو
عندما أعلن عن إفلاس شركة
"الديري" القابضة. فقد تبين
أن حصة "ميرو" فيها كانت
فقط مليار ليرة سورية (50 مليون
دولار) .
ولعل
"ميرو" ،إذاما قورن بغيره
من مليارديرات النظام السوري،
يعتبر من "صغار الكسبة"
(صغار الكسبة إحدى طبقات
المجتمع حسب تصنيف البعثيين في
ستينيات القرن العشرين، ومنها
انبثق كثير من أباطرة النهب
المنظم). ويكفي أن يعرف القارئ
أن "رفعت أسد"،عم الرئيس
بشار أسد، وأولاده يملكون
مليارات الدولار، مع أنه انفصل
عن النظام منذ عام 1984 .أما عمه
جميل أسد فمات عن ستة مليارات
دولار.
وإذا
ما عدنا إلى التغيير الوزاري
الجديد، فيمكننا أن نؤكد أن
المواطن السوري لا يهتم بها،
لأن الوزراء يتغيرون وحال
المواطن تسوء مع كل تغيير،خصوصا
إذا جاء التغيير بوزراء جدد. لأن
هؤلاء سيبدؤون رحلة الألف مليون
كما فعل "ميرو" من قبل. وهذه
الرحلة لا بد أن تمر في طريقها
على جيوب المواطنين السوريين.
مما
لاشك فيه أن الوضع في سورية أصبح
متوترا وقابلا للانفجار في أي
لحظة يحصل فيها اضطراب في أي
ناحية من نواحي الدولة،
السياسية أو الاقتصادية أو
الاجتماعية. وقد بدأت بوادر ذلك
تتمثل في أن النظام بدأ يفقد
ثقته ،ليس في أعوانه الهامشيين،
بل في أعمدة النظام الذين خدموه
لمدد طويلة. فإضافة إلى انشقاق
نائب الرئيس "عبد الحليم
خدام" ومقتل
وزير الداخلية السابق
"غازي كنعان"، ذكرت
الأنباء الواردة من دمشق أن
رئيس الوزراء السابق "محمد
مصطفى ميرو" ممنوع من
السفر،على خلاف في سبب المنع.
ولا
يكمن سوء الأحوال بتغيير وزراء
أو منع آخرين من السفر، وإنما
بالوضع المستعصي على التحسن رغم
تغير الوجوه. لأن أولوية النظام
السوري ليست رفع سوية المعيشة
أو تحسين وضعه الدفاعي تجاه
إسرائيل التي يزعم أنها عدوه
اللدود، بل تكمن أولويته بمنع
أي تحد له من خصومه الداخليين
الكثر.
وفي
وقت تجد الشعب السوري كله
متضررا من بقاء النظام في
الحكم، فإن نظام البعث لا يحرك
ساكنا لاحتواء النقمة، بل إنه
ما يزاول يراوح في نفس الموقع
منذ جاء إلى الحكم. فهو يسير
كالمرضى الذين يسيرون على
"سير" متحرك، ولكن في اتجاه
معاكس. فيسيرون الأميال الطويلة
وهم في أماكنهم: "محلك سر".
*كاتب
سوري
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|