ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأحد 19/02/2006


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

إصدارات

 

 

    ـ مجتمع الشريعة

 

 

   ـ أبحاث    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


 

بعد انتصارها المدوي وأسبابه وتحدياته:

جدلية الديني والسياسي في فكر حماس..

إشكالية التفاوض والاعتراف بإسرائيل كأنموذجين

أسامة أبو ارشيد*

الآن وقد تلاشى غبار التكهنات حول طبيعة وأحجام النسب التي ستحققها كل من حركتي حماس وفتح في الانتخابات التشريعية الثانية منذ قيام السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994. وبعد أن أثبتت حماس أنها فعلا تمثل حالة في الشارع الفلسطيني لا مجرد "الفصيل الثاني"، كما كان الكثير من مراكز الدراسات الفلسطينية الممولة من الغرب أو المحسوبة على فتح أو السلطة أو قريبة منهما تحاول إيهام الجميع من خلال استطلاعات للرأي، كانت في قمة الفجاجة، وهي تقدم شعبية حماس إلى أشهر مضت على أنها ما بين 14-18%، بعد فتح التي تحتل موقعا في الأربعينيات، متغاضية بذلك عن كل المعطيات المناقضة لهذه النتائج من مثل الانتخابات الطلابية والنقابية والتي كانت تحصل فيها حماس على نسب متقدمة، متجاوزة تحالفات لفتح والفصائل الوطنية واليسارية مجتمعة في أحيان كثيرة. هذه الاستطلاعات التي بقيت على انحيازها حتى إغلاق صناديق الاقتراع وإعلان النتائج المدوية.

بعد كل هذا وذاك، وبعد حجم النفوذ الذي اتضح أن حماس تتمتع به شعبيا من خلال صناديق الاقتراع، حان الأوان للإجابة على بعض الأسئلة الصعبة، إن لم تكن المحرجة والبنيوية، لا من قبل حماس وحدها، وإنما من قبل جميع فصائل وقوى الشعب الفلسطيني، وخصوصا حركة فتح، والتي لا زالت عمليا تحتل-رغم الهزيمة الساحقة-مفاصل القوة الحقيقية، على الأقل، إلى الآن، في الفضاء الفلسطيني، سواء أكان ذلك، أولا، عبر تغلغلها في أجهزة الأمن والوزارات والوكالات الفلسطينية، أم، ثانيا، عبر سيطرتها على منظمة التحرير الفلسطينية، والتي تذكرتها فجأة، ويبدوا أنها الآن في وارد إعادة تفعيل دورها، لموازنة نفوذ حماس في السلطة، بعد أن كانت من قبل-أي فتح-أدخلتها غرفة العناية المركزة، تحينا لفرصة إعلان وفاتها في سياق صراعات فتح الداخلية، ومعادلة إقليمية ودولية داعمة لمثل هكذا قرار منتظر، أم ثالثا، عبر علاقاتها واتصالاتها الدولية، وهي العلاقات التي وصلت إلى حد الدعم المكشوف من قبل الإدارة الأمريكية تمويليا لحركة فتح في الانتخابات، بمبلغ مليوني دولار أعلن عنها، أم، رابعا، عبر تهديد الشعب الفلسطيني وبدون رتوش ولا مواربة من قبل إسرائيل والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بل وبعض الدول العربية، من مغبة انتخاب حماس (بما ظُنَّ أنه يصب في مصلحة فتح) وانعكاسات ذلك على أمور معيشتهم اليومية ومستقبل دولتهم العتيدة "الافتراضية". 

هذه الورقة تسعى إلى مناقشة بعض اسقاطات الديني والسياسي لدى حركة حماس، خصوصا وأنها تعيش حاليا مخاضات التحول-إن كتب لمسيرة هذا التحول أن تستمر-من موقع المعارضة الناقدة إلى موقع المسؤولية بجسامتها، حتى وإن لم تتسلمها فعليا، ولكنها ستحاسب عليها. ولكن قبل ذلك فإننا سنلقي نظرة سريعة على أسباب هذا الفوز الكبير لحماس، وخلفياته وبعض التحديات التي ينبغي أن تتعاطى معها.

مقدمة لابد منها

كما سبقت الإشارة فإن فوز حماس لم يأت دون مقدمات، أو خارج السياق، فكل التحليلات كانت تتوقع منافسة ساخنة بين فتح وحماس، وإن كانت معظم التحليلات كانت تتوقع فوزا صعبا وبأغلبية ضئيلة لفتح على حركة حماس. إذن، المفاجئة لم تكن في قوة حماس، وإنما في حجم ومقدار هذه القوة، والتي أعطت لحماس قرابة 58% (76 مرشحا+4 دعمتهم)، ولفتح 32,6% (43 مرشحا).

هذا الفوز لم تكن تتوقعه حماس نفسها. ليس بالضرورة لأنها تشك بتمتعها بمثل هذه الشعبية، فكما سبق وأن قلنا فإن إرهاصات مثل هذه الشعبية كانت حاضرة من قبل، وإنما لأنها، ربما قد تكون راهنت على حصول تزوير، أو تأثر الفلسطينيين ببعض التهديدات الصريحة والمبطنة من مغبة انتخاب حماس. إلا أن الذي حدث كان هو العكس تماما، حيث بدا أن الفلسطينيين وكأنهم قبلوا التحدي. أيضا يبدو أن فتح نفسها أخذت بهول الصدمة، فهي رغم إقرارها بصعوبة المنافسة هذه المرة، وقبولها قبل الإعلان الرسمي عن نتائج الانتخابات بفقدان أغلبيتها المطلقة التي حصلت عليها في انتخابات 1996 عندما ترشحت ضد نفسها، أي بغياب معادلها الشعبي، حماس، إلا أنها كانت واثقة من أنها ستفوز بأغلبية ولو ضئيلة، تؤهلها لتشكيل الحكومة الفلسطينية وحدها، أو عبر إشراك بعض القوائم الوطنية العلمانية الأخرى معها عبر تحالف، واستبعاد حماس. وكانت فتح مرتاحة لهذا الخيار ومثل هذا السيناريو، وهو ما تجلى بوضوح عبر تصريحات قيادييها الواثقة والآملة. أيضا، يبدو أن حماس كانت تتوقع مثل هذا السيناريو، وكانت تهيأ نفسها للعب دور المعارضة القوية والفعالة، وصاحبة الصوت العالي والمسموع عبر حجمها في التشريعي، الذي كانت تأمل بأن يؤهلها لمستوى الكتلة المانعة. بل أبعد من ذلك، فقد كان هذا السيناريو هو السيناريو المتوقع أمريكيا وأوروبيا وإسرائيليا. ولذلك، وعكس ما يقال، فقد كانت أمريكا أكثر حماسة من السلطة الفلسطينية وحركة فتح لإجراء الانتخابات، وذلك لأنها رأت-كسبب ضمن أسباب أخرى-في اشتراك حماس فيها، فرصة سانحة لجر حماس إلى ساحة العمل السياسي، والإطلاع على حقيقة التحديات ومعايشتها مباشرة بدلا من النظر إليها من بعيد، على أمل أن يدفع ذلك حماس إلى مزيد من "التسيس" و "العقلانية"، كما تراهما الولايات المتحدة. ولعله من المفيد في هذا السياق، للتدليل على ذلك، الإشارة إلى أن الولايات المتحدة هي من ضغطت على رئيس السلطة محمود عباس (أبو مازن) لإجراء الانتخابات في موعدها المحدد هذه المرة، بعد أن كان أجلها عن موعدها الأول في تموز/يوليو 2005، فيما يعتقد أنها خطوة جاءت لإعطاء فتح فرصة لترتيب أوراقها في مواجهة حماس. كما أن الولايات المتحدة هي من ضغطت على إسرائيل للسماح بإجراء هذه الانتخابات وسهلت اتفاقا حول انتخاب الفلسطينيين في القدس رغم اشتراك حماس فيها، في ذات الوقت الذي كانت تحذر فيه من مغبة انتخاب حماس. ثم تحول التحذير إلى مغبة إشراكها في الحكومة الفلسطينية، وقامت في سبيل إحداث التوازن ما بين "جرِّ رجل" حماس سياسيا وضمان عدم فوزها بنسبة كبيرة أو أغلبية، بالضغط على إسرائيل للسماح للأسير مروان البرغوثي، رئيس قائمة فتح الموحدة بإجراء مقابلتين تلفزيونيتين مع قناتي الجزيرة والعربية لتعزيز فرص فتح في مواجهة حماس، فضلا، طبعا, عن الدعم المالي المباشر للسلطة وحركة فتح والتي كانت بمثابة "قبلة الموت" لها. إلا أن الرياح لم تجر بما تشتهي السفن، وكان فوز حماس المدوي.

يخطأ الكثير هنا في إحالة فوز حماس إلى فساد سلطة فتح، ورغبة الناس بالتغيير فحسب. فالبعض يتحدث بعد ظهور النتائج عن أن حماس انتصرت بسبب تشرذم فتح، أي أنه لفهم فوز حماس، فإنه ينبغي أن ننظر في واقع فتح السيئ أولا. إلا أن ما يتم إهماله في السياق التحليلي في هذا الإطار، أن حركة حماس قدمت الكثير من التضحيات عبر سني عطائها، وأصبحت هي الممثل الحقيقي في وعي الجماهير الفلسطينية لروحية المشروع الوطني  الفلسطيني منذ انطلاقتها أواخر عام 1987، في حين كانت فتح، رائدة المشروع الوطني الفلسطيني آنذاك، تعيش مرحلة مخاض عسر، بل حتى انقلاب على مبرر وجودها، المتمثل بتحرير فلسطين من بحرها إلى نهرها، وذلك عبر التعاطي مع المبادرات الدولية وإعلانها الاستعداد لخوض غمار العملية التفاوضية التي تمخضت عن اتفاق أوسلو، والذي بقي يراوح مكانه لسبع سنوات متواصلة (13/9/ 1993-28/9/2000)، أي منذ توقيع اتفاق أوسلو وحتى تاريخ تفجر انتفاضة الأقصى، وهي المدة التي لم تشهد خلالها قيام الدولة الفلسطينية العتيدة في الضفة الغربية وقطاع غزة، كما كان مفترضا أن تقوم بعد خمس سنوات من توقيع الاتفاق. هذه الفترة، شهدت، علاوة على التعنت الإسرائيلي ومواصلة العدوان، فسادا كبيرا من جانب فتح وتغولا من سلطتها على أبناء الشعب الفلسطيني. فقد تحول ثوار الأمس، في الوعي الجمعي الفلسطيني، إلى سوط إسرائيلي ضد ثوار اليوم. وفي حين كانت فتح، تعيِّر الإخوان المسلمين يوميا، وهي التنظيم الأم الذي انبثقت منه هي وحماس، بغيابهم عن ساحة العمل الوطني المقاوم خلال عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، تحولت "فتح الثورة" إلى سلطة قمع لإخوان اليوم (حماس)، التي أرادت أن تملأ الفراغ الذي أحدثه قرار فتح بالانسحاب من ساحة العمل الوطني المقاوم. ولم يكن الوعي الشعبي الفلسطيني غافلا عن هذه المعادلة الجديدة، وإن كان أيضا قد أيد إعطاء فتح فرصة لفعل شيء، على أساس الالتزام بالحد الأدنى من الثوابت الوطنية الفلسطينية، إلا أنه في ذات الوقت لم يدن حماس أو حركة الجهاد الإسلامي المصرتين على استكمال مشروع المقاومة. ولكن ما الذي حسم الأمر لصالح حماس شعبيا إذن؟

الذي حسمها تمثل في عوامل عدة، ولنبدأ من العامل الذي انتهينا عنده. حيث أن تفهم الشعب الفلسطيني لقرار فتح في المراحل الأولى للعملية السلمية، مع تفهمه في ذات الوقت لرؤية حماس بضرورة المقاومة، حسم موقفه ضد مسلكية فتح، وليس بالضرورة ضد رؤيتها السياسية، بعد أن استخدمت فتح العنف عبر السلطة ضد معارضيها، وخصوصا ضد حماس. وقتها ولأن الشعب الفلسطيني لم يكن قد أدان أيا من الطرفين في رؤيته وموقفه، فإنه قد أدان فتح لممارساتها. وفي الوقت الذي كانت فيه فتح عبر السلطة الفلسطينية تقمع بحماس، كانت إسرائيل تصعد عدوانها على الشعب الفلسطيني وعلى حماس، والسلطة تقف عاجزة عن حمايتهم. وفي الوقت الذي كانت فيه السلطة الفلسطينية تصعد مع حماس بذريعة حماية المشروع الوطني، كانت قيادات فتح والسلطة تعيش حياة مترفة وراقية في مقابل الغالبية العظمى من الفلسطينيين المسحوقة. ولم يكن الفلسطينيون عميانا وهم يرون قادة حماس يعيشون كما يعيش أي مواطن فلسطيني عادي، ومؤسسات الحركة الخيرية والاجتماعية والتعليمية تقدم العون للمحتاجين دون فساد أو محسوبية أو استرزاق، وبنظافة يد شهد بها الأعداء قبل الأصدقاء، في الوقت الذي كانت فيه مؤسسات فتح والسلطة تتحول إلى مشاريع استثمارية واسترزاقية لأشخاص وعائلات معينة.

 أبعد من هذا وذاك، فقد تورطت فتح بتجاوز كل الخطوط الحمراء التي كان من شأنها أن تقود إلى حرب أهلية فلسطينية-فلسطينية، لو لم يكن دائما فرس الرهان تعقل حماس وكظمها للغيظ. ولعل في تجربة الانتخابات البلدية الأخيرة، خير مثال على ذلك. فقد ألغت سلطة فتح بعض انتخابات دوائر غزة، لأن حماس فازت فيها بأغلبية كاسحة، وأجلت انتخابات الخليل إلى أجل غير مسمى خوفا من فوز ساحق لحماس. وهي الأمور التي قابلتها حماس بضبط للنفس وتعقل يحسبان لها.

بكلمات أخرى، إذا أرادت فتح ومن يقدمون أنفسهم كمحللين سياسيين خبراء في الشأن الفلسطيني، معرفة سر شعبية حماس ونجاحها المدوي، فما عليهم إلا أن يقارنوا بين حركة حماس التي خسرت رمزيها الأولين الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، وقبلهما وبعدهما قيادات أخرى سياسية وعسكرية، ولم يفت ذلك بعضدها وقوتها، بل وكانت تزداد قوة وشعبية وتماسكا رغم حجم الضربات القاسية جدا بحقها وعظم الخسارة، وهو ما يستدل عليه من سرعة التوارث في الأجيال داخل مستويات الحركة، في حين أن فتح تحولت في أواخر حياة الزعيم الرئيس الفلسطيني السابق وزعيم حركة فتح ومؤسسها ياسر عرفات إلى مرتع للابتزازات الداخلية والانشقاقات، وانتهت بعد وفاته إلى أن تكون "شركاء متشاكسين" ومعبرة عن حالة الفلتان الأمني. لقد أثبت سرعة الاستيعاب والملائمة والتعويض داخل حماس بعد كل ضربة ظُنَّ أنها قاسمة بحقها، شبابية الحركة وسعة قاعدتها الشعبية، في حين أثبت تشرذم فتح بعد عرفات، شيخوخة الحركة وهرمها وتآكل قاعدتها الشعبية. ولمن أراد أن يفهم حقا أكثر، فلينظر إلى كيف تعاملت فتح مع هزيمتها في الانتخابات التشريعية وحرقها لبعض سيارات المجلس التشريعي حتى لا تستفيد منها حماس-وكأن هذه الممتلكات ليست للشعب الفلسطيني-وإطلاق الرصاص وتصريحات التهديد والوعيد، بما في ذلك تلك البذيئة أخلاقيا التي صدرت من قادة لفتح من أمثال أبو علي شاهين ومحمد دحلان وتناقلتها وسائل الإعلام، في مقابل أسلوب تعامل حماس السلمي مع إلغاء نتائج انتخابات بلدية رفح البلدية التي فازت فيها، وألغتها السلطة بحجة التزوير.

إن من يمعن النظر سيصل إلى بعض جوانب حقيقة هذا "الزلزال" الانتخابي، وهي الخيوط التي التقطها أبناء الشعب الفلسطيني، في حين تغيب أو تُغَيَّبُ قسرا في بعض التحليلات السياسية.

حماس والتحديات

السطور السابقة، مهمة في تقديري لفهم "الزلزال" الذي أحدثه فوز حماس. وللعلم فإن حجم هذا "الزلزال" سيكون له تداعياته المحلية والإقليمية والدولية، وعلى مستويات عدة، ليس هذا المكان المناسب لطرحها كلها وبالتفصيل. لقد وصل صوت "الزلزال" إلى مسامع العالم، وقطعا ستصله أيضا تداعياته، ولعل أهمها، أن الإسلام في مرحلة تصاعد في المنطقة، وإن حرب أمريكا على "الإرهاب" دفعت بالإسلام، كإيديولوجيا مقاومة، إلى الواجهة، وذلك لتماهي حرب أمريكا على "الإرهاب"، في منظور الشعوب المسلمة، بالحرب على الإسلام نفسه، هذا إذا لم يكن هذا التماهي قائما وحاضرا أيضا في تصور صانع القرار الأمريكي، وهي قضية تحتاج إلى دراسة بحد ذاتها.

مرة أخرى، عندما قدمت بتحليل خلفيات فوز حماس الكبير هذا، فقد قصدت أمرين. الأول، التأكيد على أن حجم الفوز يمثل حجم شعبية حماس فعلا، لا حجم أزمة فتح، كما يذهب العديد من المحللين. والثاني، وهو الأهم أنه مع فوز بهذا الحجم، فإن حماس وقعت في مصيدة حقيقية مكونة من عدد من الأسئلة الشائكة التي ينبغي أن تجيب عليها الآن، حيث لم يعد يجدي التهرب منها. ويبدو أن حماس لم تكن متهيئة للتعاطي معها في هذه المرحلة، حيث يبدو أنها كانت-كما سبق القول-قد هيأت نفسها للمعارضة، لتجد نفسها فجأة في الطريق إلى الحكومة لا إلى السلطة الفعلية بالضرورة، بسبب وجود صلاحيات واسعة لمؤسسة الرئاسة. إلا أن حركة فتح، وسواء أكان ذلك لاعتبارات انتقامية أم سياسية، تسعى الآن لأن تعطي انطباعا بأن حماس في السلطة، وبأنها ستشكل الحكومة وحدها، لأن فتح لن تقبل بتشكيل ائتلاف حكومي معها، كما تدل على ذلك تصريحات قيادييها. وبهذا تحشر فتح حماسا في زاوية ضيقة. حيث ينبغي على حماس أن تجيب الآن على الكثير من الأسئلة المحرجة من مثل: كيف ستؤمن حماس مصادر تمويل للاقتصاد الفلسطيني شبه المنهار في ظل التهديدات الأمريكية والغربية بقطع المساعدات عن السلطة الفلسطينية في حال تشكيل حماس للحكومة القادمة؟ وكيف ستتعاطى حماس مع ملف العملية السلمية وهي التي بنت موقفها منذ أكثر من ثمانية عشر عاما، هو عمر الحركة، على رفض مثل هذه العملية؟ وكيف ستتمكن من تسيير الشؤون المعيشية لشعب يتداخل اقتصاده عضويا مع اقتصاد الدولة العبرية والتي لا تقبل بالتعاطي مع حكومة تقودها حماس أو حتى تشارك فيها؟ وما الذي سيكون عليه موقف حماس وهي في موقع المسؤولية من عمليات عسكرية فلسطينية ضد أهداف إسرائيلية؟ هل ستتدخل لمنع مثل هذه العمليات لتجنب رد فعل إسرائيلي عنيف وتضع نفسها في خانة الإدانة من جماهيرها نفسها التي انتخبتها، أم أنها ستبارك وتعضد مواقف المصرين على المقاومة بما يعنيه ذلك من تداعيات كبرى على الفلسطينيين وحماس؟ وهل ستستغرق حماس نفسها وجهودها بالتركيز على الجوانب الاجتماعية والأخلاقية وتهمل الجوانب السياسية والاقتصادية والمعاشية للفلسطينيين؟ وهو خطأ قاتل لو وقعت فيه.

هذه حزمة من جملة أكبر من التحديات التي ستطالب حماس في موقع المسؤولية بصياغة رؤية واضحة اتجاهها، ولن يسعف حماس اليوم ما كان يسعفها يوم كانت خارج دائرة المسؤولية المباشرة، سواء أكانت كاملة أم منتقصة. وإن لم يعن ذلك أيضا أنه سيكون من الحكمة بالنسبة لحماس سياسيا تقديم إجابات قطعية، ففي اللعبة السياسية تبقى التصريحات المواربة والمواقف الضبابية الخيار الأسلم سياسيا، ولكنها ليست الأسهل بالضرورة. ولا يستبعد في هذا السياق أن تسعى فتح، عبر جناحها العسكري، كتائب شهداء الأقصى للتصعيد مع إسرائيل نكاية بحماس، ولا يستبعد ذات الموقف من حركة الجهاد الإسلامي، لأنها قد تشعر بأنها قد تركت وحيدة خارج حالة الإجماع الفلسطيني، خصوصا بعد مشاركة شقيقتها الكبرى (حماس) فيه. ومع ذلك أقول، إنه من الخطأ الكبير الحديث عن فشل مبكر لحماس، فحماس حركة تتمتع بمرونة عالية وموائمة سريعة تفاجئنا دائما، وتأتي بحلول إبداعية دون أن تقدم تنازلات جوهرية، على الأقل على مستوى إيديولوجيتها.     

الديني والسياسي في فكر حماس: إشكالية التفاوض أنموذجا

لعله من نافلة الكلام، القول أن حماس حركة إسلامية، وبأنها امتداد فكري وتنظيمي لمدرسة الإخوان المسلمين، وهي المدرسة التي لا ترى فواصل في تفكيرها بين الديني والسياسي. فالإسلام بالنسبة للإخوان المسلمين، ولحركة حماس كذلك، يؤطر كل مناحي الحياة بكل تفاصيلها.

وحسب الإمام حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، التنظيم الأم لحماس، فإن "الإسلام معنى شامل ينتظم شئون الحياة جميعًا، ويفتي في كل شأن منها، ويضع له نظامًا محكمًا دقيقًا، ولا يقف مكتوفًا أمام المشكلات الحيوية والنظم التي لابد منها لإصلاح الناس. فَهِمَ بعض الناس خطأً أن الإسلام مقصور على ضروب من العبادات أو أوضاع من الروحانية، وحصروا أنفسهم وأفهامهم في هذه الدوائر الضيقة من دوائر الفهم المحصور". ويؤمن الإخوان كذلك، حسب البنا أيضا، بأن "الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا؛ فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون، أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنًى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء". وفي هذا السياق نجد أن حماس تستعير ذات الفهم. ففي المادة الأولى من ميثاقها، تؤكد حماس على مفهوم شمولية الإسلام، حيث أن "الإسلام منهجها، منه تستمد أفكارها ومفاهيمها وتصوراتها عن الكون والحياة والإنسان، وإليه تحتكم في كل تصرفاتها، ومنه تستلهم ترشيد خطاها".

ولما كان إطار تفكير الحركة ومضامينه ومقارباته دينيا، فإن ذلك انعكس أول ما انعكس على مقاربتها للقضية الفلسطينية. ففي المادة الحادية عشرة من ميثاقها، ترى الحركة بـ "أن أرض فلسطين أرض وقف إسلامي على أجيال المسلمين إلى يوم القيامة، لا يصح التفريط بها أو بجزء منها أو التنازل عنها أو عن جزء منها، ولا تملك ذلك دولة عربية أو كل الدول العربية، ولا يملك ذلك ملك أو رئيس، أو كل الملوك والرؤساء، ولا تملك ذلك منظمة أو كل المنظمات سواء كانت فلسطينية أو عربية، لأن فلسطين أرض وقف إسلامي على الأجيال الإسلامية إلى يوم القيامة". وبناء على ذلك، وحسب المادة الثالثة عشرة من ذات الميثاق تؤكد حماس على تعارض: "المبادرات، وما يسمى بالحلول السلمية والمؤتمرات الدولية لحل القضية الفلسطينية مع عقيدة حركة المقاومة الإسلامية، فالتفريط في أي جزء من فلسطين تفريط في جزء من الدين". ومن ثمَّ وتأسيسا على ذلك فإنه، وحسب ذات المادة: "لا حل للقضية الفلسطينية إلا بالجهاد، أما المبادرات والطروحات والمؤتمرات الدولية، فمضيعة للوقت، وعبث من العبث، والشعب الفلسطيني أكرم من أن يعبث بمستقبله، وحقه ومصيره". وحسب بيان حماس في (7-12-1993)، الصادر بمناسبة الذكرى السابعة للانتفاضة الفلسطينية الأولى، فإن "الجهاد هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، وبأن القوة هي لغة التفاهم الوحيدة مع العدو".

هذا كان طرح حماس وهي في صفوف "الإدانة" لمن كان يتولى مقاليد الأمور، وهي هنا فتح تحديدا، تحت غطاء منظمة التحرير الفلسطينية، فماذا عن طرح حماس بعد أن أصبحت إعلاميا وشعبيا، وربما عمليا في موقع المسؤولية؟

في الحقيقة فإن ثمة بونا شاسعا ما بين النص المطلق شرعا، وما بين إسقاطاته النسبية. كما أن ثمة فارقا ما بين ما ينبغي أن يكون عليه الحال، وما هو كائن عليه فعلا. وهاتان قضيتان ينبغي أن تعيد حماس النظر في مقاربتهما-على أساس أن مرجعيتها إسلامية-بعد تغير وضعها القانوني والسياسي من معارضة إلى مسؤولة. ولكن كيف تتم إعادة النظر فيما يحسب أنه نص شرعي إسلامي؟

هنا مرة أخرى لابد من العودة إلى المعطى الأول الذي قدمنا به في هذا السياق وهو أن النص الشرعي مطلق فعلا، ولكن إسقاطه ليس مطلقا ولا هو معصوم، بل هو نسبي، يحتمل الخطأ والصواب، ويتكيف مع الواقع وتحدياته. إن النص الشرعي إسلاميا، ليس معطى جامدا في فضاء متحرك، بل هو معطى ديناميكي، يستجيب للتحديات العملية عبر آلية الإسقاط، لا عبر التشكيك في معصومية النص وإطلاقيته. ولذلك، فقد يكون صحيحا من ناحية شرعية أن فلسطين أرض وقف إسلامي، وبأنه يحرم التنازل عن أي شبر منها إسلاميا، ولكن آلية إسقاط هاتين القاعدتين في فضاء الواقع القائم، قضية أخرى تحتاج إلى مرونة وتفهم لتحدياته. مرة أخرى، هذا لا يعني تنازلا عن نص شرعي، بقدر ما أنه يعني نسبية الإسقاط من النص المطلق على الواقع ومرونته، في أفق تغير شروط الواقع القائم.

وقبل أن نستطرد في هذا السياق، فإن ثمة ملاحظة هامة ينبغي التنبيه عليها هنا. ألا وهي أن أكبر خطأ ارتكبه الإسلاميون في الماضي-وبدءوا يتعافون منه الآن-هو هذا الخلط غير الدقيق ما بين إطلاقية ومعصومية النص، وهي القضية المتفق عليها إسلاميا، و "إطلاقية" ومعصومية إسقاطه، وهي القضية محل الخلاف، والتي قادت إلى تقييد وتكبيل مرونة الحركات الإسلامية في كثير من الحالات. بحيث أضحت مراجعة أي حركة إسلامية لفهمها في سياق آليات الإسقاط من النص على الواقع، أمرا مستهجنا، من كلا أنصارها ومناوئيها، على أساس أنها تخلت عن مبدأ اعتقادي عندها، على الرغم من أنه في حقيقته مسألة اجتهادية في آليات وطرائق الإسقاط. ولذلك فعادة ما تجد الحركة الإسلامية نفسها في مثل هذه الحالات في وضع لا تحسد عليه، خصوصا أمام قواعدها وأنصارها، وذلك لأنها ربتهم في الأصل على الاقتناع بقدسية إسقاط النص وفهمه، كما كانت تراه يوما، كدرجة اقتناعهم بقدسية النص نفسه. بمعنى آخر فهي قد رسخت في أذهانهم تماهي الاثنين، وهاهي اليوم عند أول اصطدام بجدار الواقع تنقلب على هذا القيد الذي كبلت بها نفسها، وهي الآن أمام خيارين أحلاهما مرُّ: فإما التضحية بقواعدها وأنصارها، وإما الإصرار على استكمال طريق ثبت لديها أنه بلا نهاية، ولكنها لا تستطيع التصريح بذلك.

وحماس اليوم تجد نفسها على مفترق الأزمة هذا. فهي قد رسخت في أذهان قواعدها ومناصريها، حرمة الاعتراف بوجود إسرائيل القطعية، وحرمة التفاوض معها. ولكنها لم تلبث بعد حين أن بدأت تدرك حجم تعقيدات الواقع أمام جمود إسقاطاتها. فكان أن بدأ الحديث الموارب منذ منتصف عقد التسعينيات من القرن الماضي، عن إمكانية قبول هدنة زمنية مؤقتة مع إسرائيل، على أساس الانسحاب من الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو ما يعني الاعتراف ضمنيا بوجود إسرائيل على الأراضي المحتلة عام 1948، لفترة من الزمن تحددها الهدنة، عادة ما تطرح على أنها عشر سنوات قابلة للتجديد، استلهاما للتجربة النبوية الشريفة في صلح الحديبية. وحتى عندما طرح الدكتور موسى أبو مرزوق في (19-4-1994)، ما سمي بالمبادرة السياسية لحركة حماس، وحينها كان رئيس المكتب السياسي للحركة، والتي قامت على أسس أربعة يستحيل أن تعترف بها إسرائيل، تشترط الانسحاب الكامل من الضفة الغربية من قطاع غزة والضفة الغربية والقدس دون قيد أو شرط؛ وتفكيك وإزالة المستوطنات وترحيل المستوطنين من الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس؛ وتعويض الشعب الفلسطيني عن الخسائر والضحايا الناجمة عن الاحتلال؛ وإجراء انتخابات تشريعية حرة ونزيهة للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج لانتخاب قيادته وممثليه الحقيقيين المناط بهم تحديد الوجهة المستقبلية للقضية... عندما طرحت هذه المبادرة والتي رفضتها إسرائيل ثارت الدنيا ولم تقعد، واضطرت حماس إلى إصدار بيان توضيحي بعد يومين فقط من المبادرة (21-4-2005) تأكد فيه على "مواصلة الجهاد والعمليات العسكرية ضد العدو المحتل.. حتى تحرير كامل أرضنا الفلسطينية المغتصبة من البحر إلى النهر"، من دون أن تشير إلى قرارات الشرعية الدولية، التي تعتبر الضفة الغربية وقطاع غزة وشرقي القدس أراض محتلة، وهي التي ألمح لها أبو مرزوق في مبادرته الأولى. وبدل ذلك شدد بيان حماس التوضيحي: "لم تتضمن التصريحات والبيانات المذكورة ما حاول البعض الترويج له، من أن في ذلك اعترافا من حركة حماس، بالكيان الصهيوني الغاصب، أو الموافقة على قرار مجلس الأمن رقم 242، أو التنازل عن برنامج حركة حماس وثوابتها الإسلامية الأصيلة، باعتبار فلسطين أرضا إسلامية، لا يجوز التنازل عنها أو التفريط بها أو المساومة عليها". لا شك أن أنصار حماس ومحبيها وقواعدها هي من اضطرت الحركة إلى إعادة تغيير مفردات خطابها السياسي الواقعي، فهي ربتهم أصلا على ذلك. وعلى الرغم من أن المبادرة لقيت بعض الترحيب المتحفظ من وزير الخارجية الأمريكي حينئذ، وارن كريستوفر، وبعض المسؤولين الإسرائيليين، إلا أن هذه المبادرة دفنت، في لحظة كانت فيها حماس حديث العالم لحجم الألم الذي سببته لإسرائيل ردا على مذبحة الحرم الإبراهيمي، عبر عمليات ردها العنيفة عليها. أي أنها كانت في موقع قوي لعقد صفقة سياسية، ربما كانت ممكنة، دون أن يعني ذلك الجزم بهكذا أمر. 

صحيح أن خطاب الهدنة تبلور بشكل أوضح في خطاب الحركة بعد ذلك، وذلك بعد دخول الشيخ أحمد ياسين برمزيته ومصداقيته على هذا الخط، خصوصا تصريحه المشهور في (9-1-2004) الذي قال فيه إن حركته تقبل إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وفق حدود 1967، مقابل هدنة مع إسرائيل، دون أن يوضح إلى متى قد تستمر هذه الهدنة. وكذلك تصريحات الدكتور عبد العزيز الرنتيسي لوكالة رويترز للأنباء في (25-1-2004) أن "حماس توصلت إلى نتيجة مفادها أنه من الصعب تحرير كل الأراضي الفلسطينية في هذه المرحلة؛ ولذلك فهي تقبل تحريرًا تدريجيًّا". موضحا أن "حماس تقترح هدنة تستمر 10 سنوات مقابل انسحاب إسرائيل، وإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية بما في ذلك القدس وقطاع غزة... إن الهدنة يمكن أن تستمر 10 سنوات، ولكنها لن تزيد عن 10 سنوات". لكن الرنتيسي قال: "إن أي اقتراح جديد من هذا القبيل لا يعني أن حماس اعترفت بإسرائيل أو نهاية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني". واعتبر أن المناقشات داخل حماس بشأن قبول دولة في الضفة الغربية وغزة فقط ليست جديدة، لكنه أوضح أن الحركة اتخذت قرارا بشأن ذلك. وفعلا، فقد قدمت حماس هدنتين والتزمت بهما، واحدة خلال رئاسة أبو مازن لرئاسة الوزراء في (29-6-2003) وتحللت منها بعد أقل من شهرين، وتحديدا في (21-8-2003)، وذلك بسبب اغتيال إسرائيل للقيادي البارز في حماس، المهندس إسماعيل أبو شنب. والثانية التي لا زالت تلتزم بها منذ أواخر عام 2004، على الرغم من أن مدتها الزمنية قد انتهت مع نهاية العام الماضي، وعلى الرغم من أن إسرائيل لم تدع طريقة إلا وجربتها لاستفزاز حماس وجرها إلى رد فعل، بما في ذلك من اغتيالات واعتقالات، إلا أن الحركة وبصبر تحسد عليه، فوتت على إسرائيل كل هذه الفرص والمحاولات، وذلك لأن نفس حماس أطول من نفس غيرها من الفصائل والسلطة، بل وحتى إسرائيل. فحماس كانت تنظر إلى حصد الشرعية السياسية بعد الشرعية النضالية التي حققتها عبر بندقيتها وعملياتها، والشرعية الشعبية التي عمدتها بدماء قادتها وتضحياتها والانتخابات البلدية، وأخيرا الشرعية السياسية، التي صدمت بها الجميع من خلال صناديق اقتراع المجلس التشريعي. فكان أن حازت حماس العز من كل أطرافه، نتيجة الحكمة والمرونة اللتان تتمتع بها قيادتها. إذن، حماس مرنة أكثر مما يظن خصومها، ولكن أرضية تعزيز هذه المرونة بحاجة إلى إعادة نظر من قبل حماس، وذلك في أفق إعطاءها دفقا جديدا، ومزيدا من المرونة. بمعنى أن مرونة حماس نابعة من صبرها لنيل أهداف أعلى وأسمى من مجرد عملية انتقامية أو الانجرار إلى رد فعل آني، ولكن تأسيس المرونة على أرضية دينية، على أساس أنها حركة إسلامية، سيكون أجدى وأمضى أثرا للحركة، وذلك حتى لا تبقى أسيرة أفهام خاطئة وإسقاطات جامدة ليس لها من القدسية غير التلقين الخاطئ، على الأقل كما يرى صاحب هذه السطور.

في هذا السياق، تبرز قضية التفاوض مع إسرائيل، والتي يعتبرها ميثاق الحركة خطا أحمر، إلا أن تصريحات قيادات الحركة الآن تبدوا أكثر مرونة، إلى الحد الذي يعلن فيه الدكتور محمود الزهار أحد أرفع قيادي حماس وفي مؤتمر صحفي عقده بغزة يوم الاثنين (23-1-2006) أن: "المفاوضات ليست حراما.. ولكن الجريمة السياسية هي عندما نجلس مع الإسرائيليين ونخرج بابتسامات عريضة، ونقول للفلسطينيين إن هناك تقدما، والحقيقة غير ذلك". مضيفا: "المفاوضات هي وسيلة.. إذا كان لدى إسرائيل ما يمكن أن تقدمه في موضوع وقف الاعتداءات.. في موضوع الانسحاب.. في موضوع إطلاق سراح المعتقلين.. فهنا يمكن إيجاد ألف وسيلة". وساق الزهار مثالا على ذلك بالحديث عن الاتصالات غير المباشرة بين حزب الله اللبناني وإسرائيل من خلال وسطاء ألمان من أجل إطلاق سراح اللبنانيين المحتجزين في السجون الإسرائيلية. أما الشيخ محمد أبو طير النائب الناجح عن حماس في القدس، وفي تصريحات نشرتها صحيفة هآرتس الإسرائيلية في منتصف الشهر الجاري، فيعلن استعداد الحركة للتفاوض مع إسرائيل، وتحقيق نتائج أفضل في التفاوض من غيرها. ويذهب رئيس المكتب السياسي للحركة، السيد خالد مشعل في ذات الاتجاه في مقابلة مع قناة العربية في (25-1-2006)، عبر مسائلة الفائدة المرجوة من المفاوضات لو جرت، والتي لا يرى لها أفقا أو فائدة. ولكننا لم نسمع من قيادي بارز لحماس في موقع المسؤولية رفضا لمنطق التفاوض على أساس حرمة الأمر شرعا، وهذا بحد ذاته تقدم ينبغي أن يلتقط ويسجل في سياق قراءة فكر ومسلكية حماس السياسية.

ولكن مرة أخرى، وعودة إلى المربع الأول، لماذا لا تأسس حماس لهذه المرونة على أرضية دينية بما أنها حركة إسلامية؟ ولماذا لا تبدأ من الآن في تغيير آليات ومفردات تفكير قواعدها ومناصريها في قضية النص وإطلاقيته والإسقاط ونسبيته؟ فهذا سيعطي للحركة مرونة أكبر في التعاطي مع التحديات القائمة. المطروح هنا ليس التخلي عن الشعارات، والتشكيك في النص، ولكن إعادة تكييف فهمه وإسقاطه على واقع صعب ومعقد، وشروطه لا تسير في مصلحة الحركة، ولا حتى القضية الفلسطينية في المرحلة الراهنة.

الخبرة النبوية والتاريخية الإسلامية

إن الخبرة النبوية والتاريخية الإسلامية تقدم لحماس مثل هذا المخرج، ومثل هذه الأرضية الشرعية. فخبرة صلح الحديبية فيها الكثير من الدروس والعبر. لقد سار رسول الله صلى الله عليه وسلم بحوالي ألف وأربعمائة من أصحابه في السنة السادسة هجرية، بنية العمرة، ومنعتهم قريش من الوصول إلى الكعبة وتأدية العمرة وكاد يقع قتال كبير، كان من المحتمل أن ينهزم المسلمون فيه، أو تنهزم قريش. فموازين القوى لم تكن بالضرورة مائلة للمسلمين، ولكنها أيضا لم تكن مائلة بشكل صارخ لقريش في ذلك الوقت. ومع ذلك رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوقع مع قريش صلح الحديبية، على ما فيه من أمور رأى فيها الصحابة من تنازلات كبيرة، من مثل عودتهم عن البيت في ذلك العام والعمرة في العام التالي، ورد المسلمين من يأتيهم من قريش مسلما، في حين لا ترد قريش من يأتيها من المسلمين مرتدا. في تلك الأثناء يصل الصحابي الجليل أبو جندل رضي الله عنه معسكر المسلمين هاربا من أذى قريش وتعذيبهم، ويصر ممثل قريش في المفاوضات، سهيل بن عمرو، على أن يسلمه رسول الله له، ويسلمه رسول الله له كارها بعد أن أخذ العهد على أن لا يعذبوه، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ينظر ولا يكاد يصدق ما يرى ويسمع. ولفهم حجم الصدمة وأثرها على الصحابة، فلنتدبر في هذه التساؤلات التي يطرحها عمر رضي الله عنه، ونقاشه مع المصطفى صلى الله عليه وسلم، والصحابي الجليل أبو بكر رضي الله عنه، حسبما جاء في صحيح الإمام البخاري: "قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِ الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟..{وفي رواية: "قال عمر: لقد دخلني أمر عظيم, وراجعت النبي صلى الله عليه وسلم مراجعة ما راجعته مثلها قط".. وفي رواية: "كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله, فلما رأوا الصلح دخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون"}- قَالَ: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي. قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى. فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قَالَ: قُلْتُ لَا. قَالَ فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ. قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِ الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟--قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ.. فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ. قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى. أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ..". قَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا..{في رواية "فقال عمر: اتهموا الرأي على الدين, فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي, وما ألوم عن الحق". وفي رواية: "وكان عمر يقول مازلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ, مخافة كلامي الذي تكلمت به"}. ويواجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تحديا آخر في هذه المسألة وهو يأمر الصحابة رضوان الله عليهم بالنحر ثم الحلق، ولا يتحرك منهم أحد رغم تكرار الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك ثلاث مرات، ولم ينزلوا على أمره إلا بعد نصيحة أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، للرسول بأن ينحر ويحلق هو أولا "فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا"، كما جاء في رواية البخاري.

قد يقول البعض هاهنا، بأن رسول الله مأمور من الله عز وجل ومسدد بعلمه، وهذا أمر لا يجادل فيه مسلم مؤمن بهذا الدين، وقد يقول بعض آخر بأنه قد كان ثمة توازن للقوى لا اختلال صارخ في موازينه، وهذا أيضا صحيح، بمعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفاوض من موقع ضعف. ولكن هذا لا ينفي أبدا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تصرف أيضا كقائد سياسي راعى مصالح رسالته وأمته، ونحن أمرنا بأن نتخذ الرسول قدوة لا مبلغا فقط. وإذا كان في الحديبية توازن للقوى، فإن غزوة الخندق لم يكن فيها ذلك التوازن. حيث كانت الغلبة العددية والمادية لقريش وحلفائها من الأحزاب. مرة أخرى، أنا لا أتحدث هنا عن ميزان القوى عندما تتدخل الإرادة الإلهية، وذلك حتى لا يسيء البعض الفهم، وإنما أتحدث عن ميزان القوى المادية بين الطرفين. والدليل على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طال الحصار على المسلمين في الخندق، رأى أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف-رئيسي غطفان-على ثلث ثمار المدينة وينصرفا بقومهما. وجرت المفاوضة على ذلك. واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدين: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، رضي الله عنهما، فقالا: إن كان الله أمرك: فسمعا وطاعة. وإن كان شيئا تحب أن تصنعه صنعناه. وإن كان شيئا تصنعه لنا، فلا. لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا. أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا؟ والله لا نعطيهم إلا السيف. فصوب رأيهما. وقال "إنما هو شيء أصنعه لكم، لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة". فالشاهد هنا، أنه لم يكن أمرا من الله، ولكنها السياسة والتفاوض والكياسة، حتى وإن تضمن الأمر خسارة آنية لمصلحة أكبر. فالرسول كما كان مبلغا ورسولا، كان قائدا سياسيا وإماما، واللتان هما جزء من الديني بحد ذاتهما. وفي هذه الواقعة العبرة الأكبر.

 وفي التجربة التاريخية الإسلامية، يبرز صلح الرملة الذي وقعه صلاح الدين الأيوبي مع ملك إنجلترا وزعيم الحملة الصليبية الثانية ريتشارد (قلب الأسد). فصحيح أن صلاح الدين قد هزم الصليبيين في معركة قاصمة في حطين مهدت له الطريق لتحرير القدس، إلا أن ذلك لم يعن نهاية الصليبيين، الذين جاءهم المدد من أوروبا عبر المدن الساحلية الفلسطينية، أين كانت ثمة بقايا وحصون لهم. وبعد حروب كثيرة تناوب فيها صلاح الدين وريتشارد النصر والهزيمة، وبعد أن ضجر جند المسلمين من كثرة الحروب، وبدأت بعض بوادر الخلاف تدب في صفوفهم-كما يسجل المؤرخ المسلم الذي عايش تلك الأحداث عن قرب وصاحب كتاب الكامل في التاريخ، ابن الأثير-في ذات الوقت الذي فشل فيه ريتشارد في إعادة احتلال القدس بعد أن حاصرها ووصول أنباء له من إنجلترا عن استيلاء شقيقه على الملك، اضطر القائدان إلى توقيع الصلح الذي نص على أن يسود السلام بين الفريقين ثلاث سنوات وثلاثة أشهر. وأن يكون للصليبيين المنطقة الساحلية من صور إلى يافا، بما فيها قيسارية وحيفا وأرسوف، وتبقى صيدا وبيروت وجبيل للمسلمين. وتكون عسقلان مدينة غير مسلحة في أيدي المسلمين. وتكون اللد والرملة مناصفة بين المسلمين والصليبيين. وتبقى القدس في أيدي المسلمين على أن يكون للمسيحيين حرية الحج إلى بيت المقدس دون مطالبتهم بأية ضريبة. "وأعلن صلاح الدين أن الصلح قد انتظم، فمن شاء من بلادهم أن يدخل بلادنا فليفعل ومن شاء من بلادنا أن يدخل بلادهم فليفعل". والشاهد هنا أن صلاح الدين قد قبل الاعتراف المؤقت بسلطة الصليبيين على بعض مدن الساحل الفلسطيني، ولمدة مؤقتة، ولم يناقش أحد في شرعية الصلح.

خلاصات واقتراحات

إن ما تسعى هذه السطور إلى الخلوص إليه يتمثل بثلاث نقاط رئيسية:

أولا: إن ما تقترحه هذه السطور ليس إلغاء الشعارات ولكن إعادة تكييفها في ضوء الواقع، وذلك عبر نزع القدسية عن التفسير والإسقاط والتي هي من نصيب النص الشرعي فحسب. فلا يمكن لحماس أبدا أن تجزم بحرمة التفاوض شرعا مع إسرائيل في ظل شروط معينة وبناء على مدة زمنية محددة. ويبدو أن حماس قد وصلت هذه المرحلة من النضج، كما أوضحنا سابقا، ولكنها لم تحسم تأسيس هذه الرؤية على أرضية شرعية من السهل استلهامها من التجربة النبوية والإسلامية التاريخية. 

ثانيا: في قضية الاعتراف بإسرائيل، والتي تعتبرها حماس خطا أحمر، ينبغي إعادة النظر فيها على أسس شرعية وسياسية مصلحية. فثمة تجربة صلح الرملة والذي اعترف فيه صلاح الدين بحكم الصليبيين للساحل الفلسطيني لمدة محددة. حماس تطرح اليوم "هدنة" محددة زمنيا، ولكن في عالم اليوم، توجد اتفاقيات ومعاهدات، وحماس ترفض أي صيغة للعلاقة مع إسرائيل أبعد من الهدنة. طبعا تخوف حماس مرده إلى أن ذلك سيقود إلى قضية الاعتراف بوجود إسرائيل. ولكن حماس تملك ورقة قانونية قوية تخرجها من الحرج، وهي أن تعترف اعترافا طبيعيا بإسرائيل، وهو الاعتراف بالوجود، وهو الاعتراف المتعارف عليه دوليا وتتبادله الدول في العادة، ويمكن سحبه وإلغائه وتعديله، في حين أن الاعتراف بحق الوجود، والذي تطالب به إسرائيل والولايات المتحدة، لا يمكن إلغائه وسحبه ولا حتى تعديله، أي أنه أبدي. إن هذا سيعطي لحماس ورقة لتفاوض عليها، كما سيعطي للولايات المتحدة وإسرائيل ورقة لتبني عليها آمالا بإمكانية "ترويض" حماس، أو التهدئة معها لحين، والأمر حينها للعبة المفاوضات، ومهارة كل طرف وطبيعة الأوراق التفاوضية التي يستطيع أن يضعها على طاولة المفاوضات. والأمر الذي ينبغي أن يكون واضحا هنا، هو أن لعبة السياسة لا تخضع للحق والعدل وإنما لشيء واحد هو: ميزان القوى. ومن ثمَّ فإن قبول حماس بقرارات الشرعية الدولية، أو على الأقل الإحالة لها مواربة، كما فعلت كثيرا من قبل، والتي تنص (أي هذه القرارات)، على الاعتراف بإسرائيل، لا بحق وجودها، سيمثل إحراجا لإسرائيل والغرب، خصوصا أوروبا في هذا السياق. فحماس تطالب بتطبيق الشرعية الدولية التي يتباكى عليها الجميع دون أن يلتزموا بها. وقرارات الشرعية الدولية هنا، تنص على دولة فلسطينية في كامل الضفة الغربية وقطاع غزة، بما في ذلك شرقي القدس، وتفكيك وترحيل المستوطنين من كل الأراضي المحتلة عام 1967، وتعويض اللاجئين، وهو ما قبلته حماس في تصريحات كثيرة، ويبقى بعد ذلك قضية الاعتراف بإسرائيل، والتي يمكن لحماس، مرة أخرى، عبر لغة مواربة، تجاوزها ضمنا. فهي قد قبلت بقرارات الشرعية الدولية، فبذلك هي فعليا اعترفت بإسرائيل، وفي ذات الوقت لا تجاهر بذلك وتبقي أمل التحرير لدى أنصارها دون خرق التهدئة ولا التصعيد العسكري، وبذلك تهدأ من روع قواعدها. أي أن حماس عبر صيغة إبداعية قادرة على أن تتعاطى مع طرفي النقيض في هذا السياق، وهي عمليا تفعل ذلك، من خلال تصريحات ومبادرات الهدنة السابقة، ولكنها تنكمش أمام الغرب عندما يصل الأمر إلى مسألة الاعتراف أو التفاوض مباشرة مع إسرائيل. وقد تخشى حماس هنا توجيه الاتهام لها بأنها قبلت بما كانت تعيبه على فتح وياسر عرفات، وما قبلوا به في اتفاقات أوسلو، ولكن حماس تملك فعليا ردا على ذلك لو أرادت. فمنظمة التحرير قبلت بحق إسرائيل في الوجود، وليس بوجودها فقط، كما يظهر ذلك جليا في رسائل الاعتراف المتبادلة بين المنظمة وحكومة إسرائيل في (9-9-1993)، وجاء في رسالة المنظمة "تعترف م. ت. ف بحق دولة إسرائيل بالوجود بسلام وأمن"، وهي الصيغة القانونية الأعلى في الاعتراف المتبادل بين الدول، ويندر التعامل به، هذا إن وجد أصلا، لأنه يرتب التزامات تاريخية ودينية ومستقبلية، تؤكد في السياق الفلسطيني المزاعم التاريخية والدينية لليهود في فلسطين، وهذا أمر يرفضه المسلمون. في حين أن الصيغة المطروحة أو المطلوبة من حماس هو اعتراف بالأمر الواقع، كما تنص على ذلك قرارات الشرعية الدولية. وهو الأمر الذي لا يرتب التزامات دينية وتاريخية ومستقبلية.

ثالثا: صحيح أن حماس اكتسحت الانتخابات لبعدها عن الفساد وعدم تخليها عن روحية المشروع الوطني الفلسطيني وآماله، إلا أن ذلك لا يعني أن غالبية الفلسطينيين لا تريد من حماس أن تفاوض إسرائيل، بل هم لا يريدون ذلك المستوى من التفاوض الذي سلكته فتح. ولذلك فإن ما قاله قيادي حماس في القدس أبو طير، بأنهم أقدر على التفاوض مع إسرائيل، قد يكون أمرا يريده الكثير من الفلسطينيين ويتوقعونه من حماس، وذلك عبر توظيف أوراق القوة التي يملكها الشعب الفلسطيني على طاولة المفاوضات، لا نزعها جملة واحدة، كما فعل طاقم منظمة التحرير المفاوض. وذلك بذات القدر الذي يتوقعون منها (أي حماس) مستوى إدارة أفضل وتحسين لأوضاعهم المعيشية والأمنية والاقتصادية... الخ.

إن هذه الورقة لا تهدف أبدا إلى إقناع حماس على أن تسلك طريق المفاوضات والصلح، بقدر ما تهدف إلى إعادة تحرير المسائل وإخراج العمل السياسي الاجتهادي من دائرة التقديس والتحصين. إنها تهدف إلى لفت نظر الإسلاميين، وخصوصا حماس، بأنهم عادة ما يبنون الأسوار حول أنفسهم بحجة القداسة والطهارة، ثمّ ما يلبثوا أن يجدوا أنفسهم محاصرين داخل تلك الأسوار، فلا هم يقدرون على البقاء داخلها حتى لا تعزلهم عن عالم أفسح خارجها وأعقد، ولا هم يقدرون على نقبها، حتى لا يعيروا بذلك وينتقص منهم. إنها مجرد اقتراح أن تعيد حماس النظر في هذه القضايا وتخرج من دائرة المطلق إلى دائرة النسبية، مع إبقاء حلم التحرير والإعداد من أجله، هذا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا فعله صلاح الدين. حماس نفسها تقول إن هذه معركة أجيال فلماذا تصر على حسمها الآن، وهي تعلم أن شروط ذلك غير متحققة!؟

إذا كانت حماس تريد أن تحقق مكسبا للقضية آنيا ومرحليا، فلعل التوجه نحو توجيه دفة الأمور سياسيا قد يكون طريقا إلى ذلك. إن لم تفاوض حماس فإن حركة فتح ستفاوض، والذي ستتشدد فيه حماس ستتساهل فيه فتح. إن حماس أمام خيارين: خيار الطهارة السياسية.. وخيار القيادة السياسية. فإن اختارت الأولى، فإن غيرها سيتولى تنجيس يديه في أمر سيكون له تداعياته على الجميع بما في ذلك حماس، وإن اختارت الثانية فإنها اللعبة السياسية ومهارة التفاوض وتحقيق أفضل الشروط في ظل واقع صعب. ولن يحدث ذلك كله، قبل تحقق أمرين، وهما: أن تحرر حماس المسألة شرعيا، وأن تتجاوز تعييرات الشامتين من مهزومي فتح، الذي لم ولن يكون أدائهم أفضل. إنها دعوة للثقة بالنفس... ودعوة للتفكر في الأمر.. وفحصه... مع ضرورة التأكيد على عدم تقديم أي تنازلات مجانية. والمعيار ينبغي أن يكون محصورا في التساؤل التالي: أفي ذلك مصلحة للقضية أم لا؟ لا في محاولات إثبات حرمة هذا التوجه من عدمه، إلا إذا كان في ذلك نص قاطع صريح لا يحتمل التأويل. إن تصريحات قادة حماس اليوم تجاوزت قضية تقديس الإسقاط والتفسير ومماهاتهما بالنص.. أليس هذا ما نفهمه من الدكتور الزهار نفسه من أن التفاوض بحد ذاته ليس حراما.. "ولكن الجريمة هي الجلوس مع الإسرائيليين والخروج بابتسامات عريضة، وللقول للفلسطينيين إن هناك تقدما، والحقيقة غير ذلك!؟". إن ما يعطي لحماس ميزة ومصداقية خاصة، فيما لو قررت السير في هذا الطريق، أنها حركة إسلامية تستند في مرجعيتها للقرآن والسنة، وهي ذات مصداقية عالية، لا يشك فيها، ومن ثمّ فإن تنازلها عن ثوابتها ولونها أمر مستبعد، لأنها أول من يعلم أنها إن فعلت ذلك فإن حماسا أخرى سترثها.

وكلمة أخيرة موجهة لجميع الأطراف، لا تستقلوا بحماس ولا تهونوا من ذكائها ومرونتها.. فحماس أبانت عبر سني عمرها الثمانية عشر عن إبداع سياسي كبير، وعن موائمة مع متطلبات المرحلة منقطعة النظير، وهي قادرة على أن تدير المرحلة رغم كل التحديات، وذلك إن اختارت السير في هذا الطريق. وتذكروا فإن حماس امتداد لمدرسة عريقة من ناحية الموائمة ما بين الثوابت والمرونة في التعاطي معها.. اقرءوا تاريخ الإخوان المسلمين لتصلوا إلى هذه النتيجة. والله من وراء القصد وهو يهدي إلى سواء السبيل.

*كاتب ومحلل سياسي مقيم في واشنطن

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ