ماذا
تعرف عن ميسلون ؟
الدكتور
خالد الاحمد*
مازلت أذكر عندما
كنت مدرساً للفلسفة ، في منطقة
يتغلب فيها الفكر الماركسي
يومذاك ، وكان عليّ أن أقرأ كل
ماكتبه الأستاذ روجيه جارودي ،
رئيس المكتب السياسي للحزب
الشيوعي الفرنسي يومذاك ، الذي
انشق عن الماركسية اللينينية
السوفياتية ، وشـق طريق
الاشتراكية القومية ، ولا أنس
أن أشكر وزارة الثقافة والارشاد
القومي السورية ( البعثية )
يومذاك التي ترجمت كل ماكتبه
الجارودي ، للقارئ العربي لأن
حزب البعث كان يقف في صف
الاشتراكية العربية وليس
الماركسية اللينينية ، كنت
تواقـاً بشغف الشاب لقراءة ذلك
الفكر كي أصارع الفكر الماركسي
اللينيني القوي في تلك المنطقة
، وللتاريخ أقول أن ( الطلاب
البعثيين العلويين ) وقفوا معي
في صراعي ضد الماركسية يومذاك ...
وتوقفت كثيراً عند جملة قالها
الجارودي ، وكنت أكررها يومياً
تقريبا ً وهي :
يقول الجارودي [ كان
كارل ماركس واقعاً تحت تأثير (
فيورباخ ) الألماني الملحد ،
عندما قال كلمته المشهورة :
الدين أفيون الشعوب ، ولو عرف
كارل ماركس الإسلام لقال إنه
ثـورة عالميـة ] ...
ومن هذا المنطلق
أريد أن أذكر بعض الأمثلة من
التاريخ تبيـن أن الإسلام ثـورة
إنسانية عالمية ، ثـورة ضد
الظلم والاستبداد واستعباد
الإنسان لأخيه الإنسان ... وقد
ذكرت شيئاً عن الحركة السنوسية
في ليبيا ، وأذكر اليوم شيئاً عن
معركـة ميسـلون .
ميســلون :
المكان بين بيروت
ودمشق ، الزمان ( تموز 1920) ،
والمتحاربان هما الجيش الفرنسي
بمدافعه وفرسانه وضباطه ،
ومجموعة من العلماء المجاهدين ،
ومن فلول الجيش السوري المنحل ،
يقودهم يوسف العظمة وزير الدفاع
السوري يومذاك
فلنستمع للتاريخ :
يقول الاستاذ محمود
شاكر في التاريخ الإسلامي :
اجتمع المؤتمر
السوري يوم (7/3/1920) وقرر إعلان
استقلال سوريا بحدودها
الطبيعية ( سوريا الحالية ،
لبنان ، فلسطين ، الأردن ) ، أي
مانسميها اليوم بلاد الشام ،
والمناداة بفيصل بن الحسين
ملكاً عليها . وفي اليوم التالي
توج فيصل ملكاً في ساحة المرجـة
بدمشق . وشكلت وزارة برئاسة علي
رضا الركابي
.
وعندما سمعت فرنسا
وانكلترا بذلك المؤتمر غضبتا ،
واجتمعتا في (سان ريمو) في (25 /4
/1920) وقررتا :
1ـ وضع سوريا ولبنان
تحت الانتداب الفرنسي . على أن
يكون لبنان منفصلاً عن سوريا .
2- وضع فلسطين
والأردن تحت الانتداب
الانجليزي . مع الالتزام بوعد
بلفور .
وعلى إثر ذلك وجـه
الجنرال ( غورو ) القائد الفرنسي
انذاراً إلى حكومة سوريا يطلب
فيه :
1.
تسليم الخط الحديدي ( رياق ـ
حلب ) للجيش الفرنسي .
2.
قبول الانتداب الفرنسي .
3.
إلغاء التجنيد الاجباري ،
وتسريح الجيش السوري ، وتسليم
عتاده للفرنسيين .
قبل الملك فيصل هذه
الشروط ، وأصدر قراراً بتسريح
الجيش السوري . وأرسل ذلك خطياً
للجنرال غورو ، الذي تجاهل ذلك
وادعى أن الجواب لم يصله وتحرك
ليدخل دمشق بالقوة العسكرية ..
وزحف بالجيش فاحتل ( رياق )
وارتقى أكمة مجدل عنجـر ،
ويتألف جيشه من عشر كتائب مشاة ،
وست كتائب فرسان ، وسبع كتائب
مدفعية ، ويضم مزيجاً من
الفرنسيين ، ومن جنود
المستعمرات الفرنسية
كالصوماليين والجزائريين
وغيرهم .
أما الشعب فقد تحرك
تلقائياً وثـار ، واتهم الحكومة
بالرضوخ ،
وهاجم قلعة دمشق يريد الحصول
على السلاح للمقاومة ، وقامت
المظاهرات في سوريا ، واستقالت
الحكومة ، وشكلت حكومة جديدة
برئاسة هاشم الأتاسي ، كان يوسف
العظمة وزيراً للدفاع فيها ..
فأعلنت نظام التجنيد الاجباري
واستعدت للدفاع عن سوريا .
واتجهت جموع
المتطوعين من دمشق نحو الغرب ،
وانضم إليهم عدد من أفراد الجيش
السوري المسرح ، ومنها كتيبة
مدفعية ، قطعت هذه الجموع
ثلاثين كيلو متراً باتجاه الغرب
، فالتقت بطلائع الجيش الفرنسي
الزاحف نحو الشرق ، وركزت
المدفعية أسلحتها بقيادة ملازم
أول من الجيش السوري المنحل ،
وبدأت تقصف الجيش الفرنسي
فأوقفته عن التقدم ...
ثم لم يكن بد من
انتصار الجيش الفرنسي على
مجموعة من المتطوعين ، والجنود
، استشهد معظمهم ، مع يوسف
العظمة ( وزير الدفاع يومذاك ) ،
بعد أن قرروا أن لايمر العدو إلا
على أجسادهم ، فصمدوا وقابلوا
الجيش الفرنسي بقليل من العتاد
... حتى تمكن الفرنسيون من
الانتصار عليهم ، والدخول إلى
دمشق ، بعد أم مـر على أجسادهم.
ودخل الجنرال غورو دمشق ..
وطلب من الملك فيصل مغادرة
سوريا ففعل ، وغادرها إلى أوربا
([i])....
يوســف العظمــة :
يوسف بن ابراهيم بن
عبد الرحمن العظمة ، ولد في حي
الشاغور بدمشق عام (1884م) الموافق
( 1301هـ) ، ودرس في المدرسة
الحربية في استانبول ، وتخرج
منها ضابطاً عام (1324هـ) الموافق
(1903م) .
وبعث إلى ألمانيا
لمدة سنتين ، وفي الحرب
العالمية الأولى عين رئيساً
لأركان الفرقة العشرين ، ثم
الخامسة والعشرين في بلغاريا ،
ورومانيا ، ورجع بعد الحرب إلى
دمشق ، واختاره الملك فيصل
مرافقاً له ، ثم عين وزيراً
للحربية عام (1920م) . كان يتكلم
العربية والتركية والفرنسية
والألمانية ([ii])...
وكان متديناً
متمسكاً بإسلامه ، مؤدياً
لصلاته ، وصائماً أيام الصوم ،
ومحافظاً على شعائر الإسلام .
وكان يوسف العظمة
يعلم أنه لابد من معركة فاصلة مع
الفرنسيين ، ولم يكن يمنعه من
خوضها معرفته أنه سيخسر المعركة
، واعتقد أن مشي فرنسا على جثث
المقاومة ، واستيلائها على أرض
مخربة مدمرة ، أفضل وأشرف للشعب
السوري ، من فتح أبواب البلاد
للجيش الفرنسي يدخلها ويمشي في
شوارعها مستعلياً متكبراً ([iii]).
كان رحمه الله
مؤمناً أنه مقدم على الموت
لامحـالة ، ولذا قال لساطع
الحصري وهو يودعه قبل انطلاقه
إلى ميسلون : ( إني أترك ابنتي
الوحيدة ليلى أمانة في أعناقكم
)([iv]) .
وفي مساء (23 /7/1920)
قام يوسف العظمة بجولة على
الوحدات المتمركزة في منطقة (
عقبة الطين ) ثم عاد إلى مركز
قيادة الفرقة ، حيث تناول طعام
العشاء مع قائد الفرقة ، ثم
التحف كل منهما ببطانية رغبة في
النوم ، ولكن النوم جافاهما حتى
منتصف الليل ، حيث رقدا حتى
الرابعـة صباحاً ، حيث أديا
صلاة الفجر ثم بدأ الاستعداد
لمعركة ميسلون .
العلمـاء المسلمون
في جيش يوسف العظمة ([v]):
وقد أسرع العلماء
المسلمون للالتحاق في الجيش
دفاعاً عن الوطن ، وحباً في
الشهادة ، وهم كثير منهم :
1- الشيخ عبد القادر
كيوان : خطيب الجامع الأموي
الكبير ، واستشهد في ميسلون .
2- الشيخ كمال أحمد
الخطيب : من حفظة القرآن ومدرس
في الأموي ، وخطيب في مساجد دمشق
، استشهد في ميسلون .
3- الشيخ محمد توفيق
محمد سليم الدرا : مفتي الجيش
الخامس العثماني ، واستشهد ذلك
اليوم .
4- الشيخ ياسين نجيب
عميد آل كيوان : تاجر ورع ، ومن
الخطباء المشهورين ، استشهد
يومذاك يرحمه الله .
ومن الشهداء
العلماء أيضاً :
5- الشيخ سليم الدرا
.
6- الشيخ عمر الصباغ
.
7- الشيخ صادق هلال
8- الشيخ أحمد موصلي
.
9-
الشيخ محمد نوري الحصري
10- الشيخ عبده
الصباغ .
11- الشيخ أحمد القحف
12 – الشيخ عبد الله
الكلاس .
13 – الشيخ محمد
نيروز ( من دوما )
14 – الشيخ أبو
الخير الجابي .
15- الشيخ صلاح الدين
أبو الشامات
16- الشيخ مرزوق
التخيمي .
17- الشيخ أبو صلاح
العرجا
18- الشيخ هاشم
الأغواني
19- الشيخ صالح
الصابوني
20 – الشيخ أبو سليم
عرجا
21- الشيخ مستو
الأغواني
22 – الشيخ عبدو
المرادي
23-الشيخ محمود
قاروط . ....([vi]).
سير المعركـة :
خرج المجاهدون
العلماء بقيادة يوسف العظمة ،
خرجوا للجهاد في سبيل الله ، تحت
راية موجودة الآن في المتحف
الوطني بدمشق ، وهي العلم
العربي من حيث الشكل والألوان :
كتب على اللون
الأسود :
بسم الله الرحمن
الرحيم :
وجاهدوا في سبيل الله
وكتب على اللون
الأبيض :
إن اللــــه معنــا
وكتب على اللون
الأخضر :
إنا فتحنـا لك
فتجـاً مبيـنا ً
وكتب على الوجه
الثاني : على اللون الأسود :
لا إلـــه إلا
اللـه
وعلى اللون الأبيض :
محمــد رســول
اللــه
وعلى اللون الأخضر
:
اللواء الأول مشاة
سنة (1338)......([vii])
تحت هذا العلم
العربي ، وما حمل من شعارات
ومعان ، جاهد المسلمون السوريون
في ميسلون ، وقابلوا الموت ، بل
خرجوا للقاء المـوت ، وهم
يعلمون أن المعركة ( انتحارية )
لأنها غير متكافئة أبداً .
ولكنهم خاضوا المعركة تحت شعار
المحافظة على الشرف والكرامة
مهما كانت النتيجة ، وليعلم
العالم أجمع أن دمشق
عاصمة الأمويين ماكان لمحتل
أن يدخلها إلا على جثث أبنائها
المؤمنين .
ولما سمع فيصل بن
الحسين باستشهاد يوسف العظمة
ومن معه من العلماء قال : ( إني
أحني رأسي احتراماً لجميع هؤلاء
الذين ضحوا بحياتهم في سبيل
الاحتجاج على اعتداء لم يعرف له
التاريخ مثيلاً ) ([viii]).
وهكذا دخل الجنرال (غورو
) قائد القوات الفرنسية دمشق في
أوائل شهر (آب ) 1920م ، وأول
مافعله بعد وصوله ، أنه توجه إلى
ضريح البطل صلاح الدين الأيوبي
، فدخل المقام بكل عنف وتهكم
وعمرته فوق رأسه وقال : ( ها نحن
قد عدنا ياصلاح الدين ..) .
نعم عاد الصليبيون
إلى دمشق ، ولكن بعد أن مشوا على
جسد وزير الدفاع يوسف العظمة ،
وعشرات العلماء المجاهدين
يرحمهم الله تعالى ، وعشرات
الجنود الذين أبوا أن يدخل
العدو وطنهم سوريا وهم على قيد
الحياة ...
وبـعد خمسة عقود أو
أقل بعد استشهاد يوسف العظمة
وزير الدفاع السوري يومذاك ...
ولم يرض أن يدخل العـدو دمشق وهو
على قيـد الحيـاة ... شاء الله
عزوجل أن يزحف الصهاينة على
سوريا ، ويحتلوا الجولان الخصيب
، بمافيه جبل الشيخ الاستراتيجي
في بلاد الشام كلها ... ووزير
الدفاع في دمشق آمن في غرفة
العمليات تحت الأرض .... وُرفِع
بعد ذلك فصار رئيساً للجمهورية
العربية السورية ، ولما حارب
العدو الصهيوني مرة ثانية واحتل
الصهاينة ( 34 ) قرية زيادة على
الجولان ، توج رئيس الجمهورية
ملكاً على سوريا ، لـه ولأولاده
من بعـده ... فسبحان الله العظيم
، ولله في خلقه شؤون ... والحمد
لله الذي لايحمد على مكروه سواه
.
*كاتب
سوري في المنفى
-------------------
[i]
ـ محمود شاكر ، التاريخ
الاسلامي ، ج 10 ، ص 46 .
[ii]
ـ محمود شاكر ، مرجع سابق ، ص 45.
[iii]
ـ محي الدين السفرجلاني ، فاجعة
ميسلون ، ط1 ، مطبعة الترقي ،
دمشق
1966 .
[iv]
ـ احسان الهندي ، معركة ميسلون ،
وزارة الثقافة ، 1967 ، دمشق .
[v]
ـ شوقي أبو خليل ، الاسلام
وحركات التحرر العربية ، ط 4 ، 1985
، دار الفكر ، دمشق ، ص 131 ز
[vi]
ـ شوقي أبو خليل ، ص 133
[vii]
ـ شوقي أبو خليل ، ص 133 .
[viii][viii]
ـ محي الدين السفرجلاني ، فاجعة
ميسلون ، ص 337 .
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|