و
يحكى أن -9-
د/
محمد الحكيم
و يحكى أنه في بلد
كان اسمه سوريا ، و بعد مرض
الرئيس حافظ الأسد و دخوله
المستشفى أواخر عام 1983م ، شكل
لجنة سداسية لتسيير الحكم خلال
فترة غيابه (تشكلت اللجنة من
وزير الخارجية عبد الحليم خدام
و وزير الدفاع مصطفى طلاس و رئيس
الأركان حكمت الشهابي و من
الأمين العام المساعد للبعث عبد
الله الأحمر و الأمين القطري
المساعد للبعث زهير مشارقة ، و
رئيس الوزراء عبد الرؤوف الكسم )
، و هذه اللجنة ( و كل رجالها من
أهل السنة ) ، كانت
واجهة أما الحكم فكان بيد
كبار الضباط
( وهم الحاكم الفعلي وخاصة
العميد رفعت الأسد قائد سرايا
الدفاع ، واللواء علي دوبا رئيس
المخابرات العامة ، واللواء علي
أصلان نائب رئيس الأركان
، واللواء شفيق فياض قائد
الفرقة الأولى، واللواء علي
حيدر قائد الوحدات الخاصة ، و
اللواء محمد الخولي قائد
المخابرات الجوية، وغيرهم من
كبار الضباط العلويين) رأت أن
استبعاد رفعت الأسد من هذه
اللجنة غير صحيح ، لذلك دعوا إلى
اجتماع عاجل للقيادة القطرية ،
لم يتغيب عنه سوى حافظ الأسد
لمرضه ، وأحمد اسكندر أحمد (
وزير الإعلام وكان يومها على
فراش الموت ). وقررت القيادة
القطرية أن تكون هي المشرفة على
البلد والحكم في غياب حافظ
الأسد ، كخطوة تمهيدية لتسليم
السلطة لرفعت الأسـد .
ولما شفي حافظ
الأسد ( ... وعلم بما حدث ، وهو في
فترة النقاهة ، شعر بالسخط
الشديد ، لأن إي انحراف عن
الطاعة الكاملة الخالية من أي
تساؤل كان يثير شكوكه ، فاستدعى
كبار ضباطه ووبخهم على الابتعاد
عن تنفيذ رغباته الصريحة ،
وبذلك فتحوا الباب أمام أخطار
غير متوقعة ، أولم يروا أن دفع
رفعت إلى المقدمة كان خطة
أمريكية ـ سعودية !!؟ ) كما ذكر
باترك سيل في
كتابه الصراع على الشرق الأوسط
الصفحة/690 .
و لذلك بدأ حافظ
الأسد يضع الخطط لإنهاء قوة
أخيه رفعت ، الذي قوي
كثيراً بعد أحداث نهاية
السبعينات و بداية الثمانينات
بين السلطة في سوريا و بين
الإسلاميين، عندما كانت يد رفعت
تطال كل شيء في الدولة وخزينتها
، بأمر أخيه الرئيس ، و ذلك
لتكون اليد القوية التي تبطش
بالإسلاميين و ترهب الشعب ، و
ترتكب المجازر و تدمّر المدن ،
فبينما كان الرئيس يرى أن أخاه
رفعت قد تجاوز الحدود الحمراء
التي رسمها له، و بدأ يطمع
بالسلطة التي كان في رأس الرئيس
تصور مختلف لها ، كان رفعت يرى
أنه الأحق بالرئاسة ، بعد أن كان
السبب الرئيسي لتثبيت سلطة أخيه
، خلال الأحداث الدامية ، التي
قمعها بكل ما أوتي من قوة سلاح و
نفسية مجرم0
و نقلنا في حلقة
سابقة من كتاب مصطفى طلاس "
ثلاثة أشهر هزت سوريا " كيف
رسم رفعت الخطة للوصول إلى
الحكم ، و أنه و بعد السيطرة على
منزل رئيس الجمهورية و مقر
القيادة العامة ، و احتلال مقر
الإذاعة و التلفزيون ، و إعلان
نبأ استلام رفعت مقاليد السلطة
في البلاد، و لإشعار سكان
العاصمة بأن القبضة التي استلمت
الحكم هي قبضة فولاذية
، تقوم المدفعية بقصف دمشق
عشوائياً لإرهاب السكان و قطع
أنفاس الناس بعد ذلك تقوم مفارز
المشاة من سرايا الدفاع بعملية
نهب و سلب للمدينة
المنكوبة ، و قد أبلغ رفعت
ضباطه و جنوده أن المدينة ستكون
حلالاً زلالاً مدة ثلاثة أيام
بلياليها ، و بعدها لا يجوز
أبداً أن يظل فقير واحد في سرايا
الدفاع . و إذا طلب جندي بعدها
مساعدة أو إكرامية ستقطع يده.( و
يذكر حديثاً دار بين رفعت و
مستشاره السياسي محمد حيدر –
نائب سابق لرئيس مجلس الوزراء
للشؤون الاقتصادية - ، و كانا
يمشيان في ضوء القمر بمعسكرات
القابون المطلة على دمشق قال
رفعت : مو حرام وا أسفاه أن تهدم
هذه المدينة الجميلة .. فأجابه
حيدر : والله صحيح حرام و أسافه و
لكن شو طالع بأيدينا غير هيك ).
و يتابع طلاس فيقول : ( كما
أرسل علي عيد قائد " فرسان
البعث " من طرابلس الشام
مفرزة من اللصوص قوامها مئتي
عنصر مع عشرين سيارة متنوعة و هم
محملون ببنادق و مدافع مضادة
للدروع و قنابل يدوية و مسدسات ،
بالاتفاق مع رفعت لتشارك في نهب
محلات المجوهرات عندما تحين
ساعة الصفر لاستباحة المدينة ثم
تهرب بالمسروقات إلى لبنان و
هناك تتم عملية الاقتسام0و
كُلّف اللواء شفيق فياض قائد
الفرقة المدرعة الثالثة في
القطيفة باعتقالهم ، و بعد أن تم
له ذلك قال له طلاس : يجب أن
يعاملوا باحتقار كما يعامل
البدوي الجمل الأجرب، و كما
يعامل الفلاحون الكلاب الشاردة.
فقال فياض : لا توصي حريصاً ، فهم
موضوعون في العناية الثورية
المشددة ، و سينالون عقاباً و
ضرباً شديداً على مؤخراتهم بعد
رشهم بخراطيم المياه ، حتى لا
ينسوا هذا الحدث في حياتهم . ثم
يتابع طلاس : و تم احتجاز اللصوص
شهراً و نيف و لم يطلق سراحهم
إلا بعد أن انتهت الأزمة و سافر
رفعت إلى موسكو).
و أريد أن أوضح
للذين لا يعرفون علي عيد هذا أنه
من الأقلية العلوية في لبنان
الموجودة شمال طرابلس ، و قد شكل
عصاباته من شباب الطائفة
الحاقدين ، بأموال و أسلحة
سورية و
بدعم مباشر من الرفيق رفعت
الأسد و سرايا الدفاع التي كانت
تدرب هذه العصابة على القتل و
السرقة و الإجرام ، و قد نصح
رفعت علي عيد بتشكيلها من صغار
العلويين ، على شاكلة النويات
الأولى لسرايا الدفاع ، عندما
كان رفعت يرسل عصاباته المجرمة
إلى جبال العلويين بغتة ليقوموا
بخطف الأطفال و اليافعين ( من
عمر 9إلى 18 سنة ) من حارات و شوارع
القرى و بدون علم أهلهم ، ثم
يأتي بهم إلى معسكرات السرايا
في القابون بدمشق ليخضعوا
لتدريب عسكري صارم و مكثف ، و
غسيل دماغ بحيث تملأ أدمغتهم
بالأفكار الفاسدة ، و بتأليه و
تقديس الرئيس و القائد ( حافظ و
رفعت ) فقط ، و بالحقد الأعمى على
بقية أبناء الوطن ، و عندما
يتأكد رفعت أنهم أصبحوا كما يحب
و يرضى ، و أرتبط مصيرهم و
مستقبلهم بالسرايا ، و لم يعد
لهم طموح أكثر من طاعته و
عبادته، عندها يسمح لهم
بالاتصال بأهلهم و زيارتهم 0 و
كنا قد تكلمنا عن عقوبة رفعت
على محاولة انقلابه هذه و تدمير
و استباحة دمشق ، أن كافأه
الرئيس وسمح له بمغادرة سوريا
مع رجاله و عصابته بعد أن استقرض
له مبلغاً ضخماً من المال من
العقيد القذافي ، و أعطاه إياه
قبل مغادرته ، أما هنا فنجد أن
عقوبة العصابات القادمة من خارج
القطر لتنهب و تسرق ما خفّ حمله
و غلا ثمنه ، و تشارك في استباحة
عاصمة الأمويين ، و أقدم عاصمة
في التاريخ ، هي السجن لمدة شهر
مع التأكيد أن شفيق فياض قد دغدغ
مؤخراتهم بخراطيم المياه .
و هنا يتبين لنا أن
النظام طائفي حتى في عقوباته ،
فقد كان الشباب المسلم المثقف
المسالم يجرون
من مدارسهم و جامعاتهم و
مساجدهم و عياداتهم و مكاتبهم و
معاملهم و مزارعهم ، بلا ذنب
ارتكبوه ، و لا جرم اقترفوه سوى
أنهم ملتزمون بدينهم و عقيدتهم
، و كانوا مثال الأخلاق الحميدة
، و الآداب الرفيعة ، من عوائل
كريمة ، و أسر شريفة ، ربوا على
الفضيلة ، و حب الوطن و أبناء
الوطن ، و
التفاني في خدمته و رفع شأنه ،
كانوا يساقون إلى فروع الأمن
بإسلوب همجي مهين ، و هناك
يخضعون في أقبية الظلام لجلسات
الحقد و الكراهية و تصفية
الحساب، على الدولاب البعثي
و الكرسي الألماني و الفلق
الروسي و يضربون بالكرابيج
القومية و عصي الخيزران
الثورية و
أسلاك حديد الصمود و التصدي ( و
ليس المصدي )، و هم مكتوفي
الأيدي إلى ظهورهم ، وعيونهم
مغطاة بعصابات الحقد الأسود ،
و يغمرون بالمياه الباردة ،
و تمزّق ملابسهم ، ثم توصل أسلاك
الكهرباء إلى عوراتهم فتتقلص
عضلاتهم و تلتوي أطرافهم و تصطك
أسنانهم، و منهم من وضع على
الخوازيق ، و قلعت أظافرهم ، و
نتفت و حرقت شعور رؤوسهم و لحاهم
، و منهم من جيء بزوجته أو أخته
أو ابنته ، و تم الاعتداء على
عفتها أمام ناظريه ، و منهم من
أعتقل أبواه العجوزان
ليتم الضغط عليه بهما ، و كل
ذلك حتى يُقر بأنه منظم ، ليرحّل
بعد ذلك إلى سجن تدمر الرهيب ،
في بادية الشام ، هناك حيث
الجحيم المقيم على الأرض ، و من
منا لم يسمع ماذا كان يجري في
تدمر ، و من لم يسمع فأنصحه أن
يقرأ كتب خطها أصحابها بدمائهم
و دموعهم ( ككتاب تدمر شاهد و
مشهود للسجين الأردني سليم حماد
، و كتاب خمس دقائق و حسب – تسع
سنوات في سجون سوريا للسجينة
هبة الدباغ ، و سنتان في القاع )
، فقد عاشوا هناك مأساة العصر
العظمى ، و كانوا من النسبة
القليلة التي كُتب لهم الخروج
من ذاك الجحيم ( حيث الداخل
مفقود و الخارج مولود )، و كانت
مأساتهم يومية ، بل لحظية ، على
مدى سنين طويلة ، فبعد خمس أو ست
سنين من القتل و الجلد و التجويع
و المرض و الذل و الإهانة ، في
أبشع صورة و أقبح مشهد للإجرام
البشري البغيض ، يعرض من بقي
منهم حياً – فقد تُوفي الآلاف
تحت التعذيب ، و بالأمراض
المزمنة الخطيرة كالسل و
التيفوئيد و المالطية و
الكوليرا و نقص التغذية - على
المحاكم الميدانية العسكرية ،
لتكتمل فصول المأساة ، و
يقابلوا الرائد سليمان الخطيب -
ذلك الوجه الطائفي الكالح
الحاقد القبيح - مع كاتبه فقط (
هما أعضاء المحكمة البعثية
العربية الاشتراكية )، و هو
الخصم و الحَكَم ، فالحكم معروف
مسبقاً ، و مشرّع بموجب الأحكام
العرفية ، و معلن من قبل وزير
الداخلية السابق / عدنان دباغ
منذ عام 1980 ، و وافق عليه مجلس
المرسيدس السوداء المظللة
الزجاج بالإجماع ( كالعادة ) ، و
له اسم مشهور ، و علامة مميزة ،
لا يقلدها أحد في الكون ، و هو
القانون ذي رقم/ 49 ،
ليبشرهم بقرب الفرج ، و
انتهاء سنوات العذاب ، و يصرخ
فيهم ساخراً مستهزئاً : سأرسلكم
إلى جنات النعيم التي تحلمون
بها ، سأرسلكم إلى الرضوان و إلى
زعيمكم محمد ، إلى الباحة
السادسة ، حيث أعواد المشانق
تنتظركم يا .... ، يا ...... و يفرغ ما
بجعبته من أحقاد دفينة، وألفاظ
بذيئة تعبر عن تربيته و بيئته
الوضيعة .
و بعد هذه المحكمة
الهزلية التي لا تستغرق إلا
دقائق معدودة ، ينتظرون دورهم
في ملاقاة وجه المولى الكريم ، و
يجلسون كل صباح بعد صلاة الفجر ،
ليتوضؤوا بكأس من الماء هو
حصتهم و ربما تيمموا لانقطاعه ،
و يصلوا صلاة الشهادة ( كما صلى
خباب بن عدي رضي الله عنه )
، فربما يكون هذا اليوم هو
يوم الراحة من العذاب المهين و
الذل المقيم ،و آخر يوم في هذا
المهجع المزدحم الكئيب و هذا
السجن البعثي الرهيب ، و لكن
يتأخر دورهم شهوراً و حتى
سنوات ، فأمامهم قوافل كبيرة ، و
أعداد غفيرة ، و لم يرو الجلاد
الحاقد بعدُ غله من تعذيبهم و
إهانتهم . و بعد طول انتظار يأتي
الفرج ، و يودع الشهيد إخوانه ،
و يوزع عليهم ثيابه البالية ،
التي دخل بها منذ سنين طويلة ، و
يخرج كالأسد الجموح ، رافعاً
رأسه و مهللاً ، ليحيط به كلاب
السلطة الهائجة و يوثقوا كفيه
وراء ظهره ، و يعصبوا
عينيه ، و يكمموا شفتيه ، و
يسوقوه تحت السياط و اللكمات و
الشتائم إلى الباحة السادسة ،
ليشدوا الحبل على رقبته ، و
يسحبوا المسند من تحت قدميه ،
و ربما تعلق بعض الكلاب
بساقيه ، و هم يضحكون ، و
يتمازحون ، و يشربون نخب نور
الأنوار و عميد الطائفة و أول
رئيس من المحرومين
يصل إلى قمة الحكم على أنقاض
وطن كان اسمه سوريا .
فهل بعد ذلك من حقد
دفين ؟؟!!
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|