و
يحكــى أنّ
-10-
د/
محمـد الحكيـم
و يحكى أنه في بلد
كان اسمه سوريا و في ليلة حمراء
من ليالي الصيف (10 أب / أغسطس 1966م
) دعي مجموعة من الضباط إلى حفلة
شربوا فيها مشروبات كحولية خدرت
عقولهم و أطلقت ألسنتهم، فبدأ
بعض الضباط المؤيدين لفهد
الشاعر بشتم صلاح جديد وحافظ
الأسد وقيادة 23شباط البعثية ،
بينما هب آخرون للدفاع عنهم ، و
شتم قيادة 8 آذار البعثية،
وانفجر الشجار بينهم فألقي
القبض على أنصار القيادة
القومية وسيقوا للمثول أمام
محكمة ميدانية عسكرية و بذلك
اكتشفت القيادة القطرية لحزب
البعث في سورية بطريق الصدفة
خطط الانقلاب المدبر من قبل
القيادة القومية للبعث
المخلوعة وسليم حاطوم .
وتمّ تدريجياً خلال
بقية الشهر معرفة أسماء الأشخاص
الآخرين المتورطين في الانقلاب
المدبر حيث اعترف الضباط بأسماء
أكثر من مائتي ضابط مشتركين في
الانقلاب كان
أكثرهم دروزاً .
وقد اختار فهد
الشاعر يوم 3 أيلول / سبتمبر 1966م
موعداً مناسباً للانقلاب
العسكري، بيد أنه فيما بين 25 أب
و3 أيلول 1966م تكشف الجزء الأكبر
من التنظيم العسكري السري
للقيادة القومية المخلوعة، بما
في ذلك تشكيل مكتبه العسكري، و
تم اعتقال العديد من ضباطه،
وأصبح من غير المحتمل قيامه بأي
عمل ناجح ضد نظام القيادة
القطرية. لذلك فقد لجأ فهد
الشاعر للاختباء بناء على
تعليمات الرزاز وتخلى عن أي خطط
أخرى للتعاون مع حاطوم عسكرياً،
بيد أن حاطوم استمر في مؤامراته
ضد القيادة القطرية، حيث انتهى
الأمر بانقلاب فاشل في 8 أيلول
1966م.
شرع كل من سليم
حاطوم وطلال أبو عسلي ومصطفى
الحاج علي في الانتقاد العلني
للاعتقالات التي جرت في آب
للضباط المتورطين في المؤامرة
التي تكشفت أخيراً، وركزوا في
انتقاداتهم على عدم وجود ضابط
واحد علوي من بين الضباط
المعتقلين أو المطلوبين
للاعتقال، بَلْ كونهم جميعاً
أعضاء من طوائف دينية أخرى.
وقد استطاع سليم
حاطوم استغلال القضية الطائفية
بالإشارة إلى حقيقة أنه منذ
انقلاب 23 شباط/ فبراير 1966 تم
تصفية ضباط دروز بارزين من
الجيش والحزب، أمثال حمد عبيد،
والآن جاء اعتقال القادة الدروز
أمثال طلال أبو عسلي وفهد
الشاعر – الذي يشغل أعلى الرتب
بين الضباط الدروز في الجيش
السوري – من قبل قيادة الجيش
بتهمة التورط في المؤامرة التي
تكشفت أخيراً.
وبهذا خلق حاطوم
ومعاونوه المقربون من الدروز
الانطباع بوجود
تجمع أو استقطاب طائفي علوي –
درزي في القوات المسلحة السورية.
وقد نجح حاطوم بالتعاون مع أبو
عسلي، في كسب تأييد الغالبية
العظمى لفرع
الحزب المدني بجبل الدروز.
وكذلك أعضاء التنظيم العسكري
السري للقيادة القومية
المخلوعة، الذين كانوا
متمركزين في جبل الدروز.
كل
ذلك سبب فزعاً كبيراً وقلقاً في
فرع الحزب بجبل الدروز.
وبالتالي، قامت قيادته في 7
أيلول 1966 بتقديم مذكرة خاصة
لصلاح جديد وضحت فيها وجهة نظر
الغالبية من أعضاء فرع السويداء.
طلب فرع السويداء
إعادة جميع من نقلوا لمراكز أقل
أهمية في ذاك الوقت، أو الذين
اعتقلوا، إلى مراكزهم السابقة،
كما اقترح انعقاد مؤتمر قطري أو
اجتماع على مستوى أقل لبحث أزمة
الحزب. وفي الختام هدد أعضاء جبل
الدروز في مذكرتهم بتجاهلهم
لأية تعليمات أخرى صادرة عن
القيادة القطرية وبمقاطعتهم
لأية انتخابات مستقبلية للحزب.
وكرد فعل لهذه
المذكرة، قررت القيادة القطرية
للحزب إرسال لجنة حزبية عليا
للسويداء، تتكون من الرئيس
السوري نور الدين الأتاسي
والأمين العام المساعد صلاح
جديد، وجميل شيا العضو الوحيد
الدرزي بالقيادة القطرية. وكان
غرض اللجنة هو شرح خلفية "أزمة
الحزب" لأعضاء الحزب في
السويداء.
وهنا، اغتنم حاطوم
وأنصاره فرصة وصول اللجنة في
يوم 8 أيلول 1966، وبينما كان جديد
قد جمع عدداً من الشخصيات
المحلية البارزة في مكتب قيادة
فرع الحزب في السويداء، دخل
عليهم فجأة حاطوم وبيده مدفع
رشاش و بدأ يوجه لهم الشتائم و
الإهانات وهدد بأن يحصدهم
برصاصه جميعاً وتبع ذلك ذعر
وصراخ، وأخيراً تمكن كبار رجال
الدين الدروز من ضبط حاطوم
لأنهم لم يقبلوا أن يتعرض للأذى
ضيوف في حمايتهم. ومع ذلك فقد
حبس صلاح جديد والآخرون تحت
الحراسة في منزل أحد الحزبيين،
بينما سيطر حاطوم بمساعدة رئيس
فرع المخابرات العسكرية
بالسويداء على مقر الحامية
وألقى القبض على الضباط
العلويين هناك وجردهم من رتبهم
واستغل المعتقلين بمن فيهم جديد
والأتاسي كرهائن أثناء
مفاوضاته اللاحقة مع سلطات
الحزب والجيش، بما فيها حافظ
الأسد الذي بقي في دمشق. وقد تم
اعتقال ضباط بارزين آخرين أمثال
القائد العلوي للحرس الوطني
النقيب محمد إبراهيم العلي،
الذي تم اعتقاله بالسويداء على
يد الملازم أول الدرزي عبد
الرحمن بطحيش رئيس فرع
المخابرات العسكرية المحلي،
الذي نصب لهم فخاً عن طريق
عودتهم لوليمة، وفي نفس الوقت
نجح أنصار عسكريون آخرون لحاطوم
في مفاجأة لواء السويداء
والاستيلاء عليه، ولم يتم
اعتقال جميل شيا العضو الدرزي
الوحيد في لجنة القيادة القطرية
من قبل أبناء طائفته الدينية.
لذلك فقد تمكن من التوسط بين
جديد و حاطوم.
وأثناء مفاوضاته (الهاتفية)
مع وزير الدفاع حافظ الأسد،
ورئيس الوزراء يوسف زعين، طالب
سليم بعدة اشتراطات بينها:
1 - عودة أهم مؤيديه
إلى مراكزهم العسكرية التي
طردوا أو نقلوا منها بعد 23 شباط
1966 م.
2 - إطلاق سراح
أتباعه أو زملائه الذين اعتقلوا
مؤخراً فيما يتعلق باكتشاف
المؤامرة ضد القيادة القطرية.
3 - إبعاد بعض من أهم
وأبرز أنصار صلاح جديد من الجيش.
4 - إعادة قبول ما
أسماه حاطوم بـ "اليساريين"
(أي جماعة الشوفيين) في الحزب.
5 - استقالة القيادة
القطرية السورية التي اختيرت في
آذار 1966م، وتعيين قيادة قطرية
سورية مؤقتة جديدة تضم خمسة
أعضاء على الأقل من جماعة
الشوفيين، إلى جانب بعض الأعضاء
الحاليين بالقيادة القطرية.
ورفضت قيادة الجيش
تماماً الرضوخ لأي من هذه
المطالب، وعوضاً عن ذلك أرسلت
وحدات عسكرية تضم كتيبة
الصواريخ للسويداء، مهددة
بقصفها، و كذلك بدأ حافظ الأسد
بعرض طلعات جوية لطائراته فوق
جبل الدروز
مما جعل حاطوم يدرك أن قضيته
خاسرة حتماً. وهكذا أخذ الطريق
الوحيدة إلى الخارج، و هي
الطريق جنوباً نحو الأردن حيث
أعطاه الملك حسين مع حوالي
ثلاثين ضابطاً من رفاقه حق
اللجوء السياسي.
في 13 أيلول 1966 عقد
حاطوم مؤتمراً صحفياً في عمان
وسرد روايته لما حدث في
السويداء ، وصرح بأن "الوضع
في سوريا مهدد بوقوع حرب أهلية
نتيجة لتنمية الروح الطائفية
والعشائرية التي يحكم من خلالها
اللواء صلاح جديد واللواء حافظ
الأسد والفئات الموجودة حولهما"
، وأضاف حاطوم قائلاً: إن الروح
الطائفية تنتشر بشكل فاضح في
سوريا وخاصة في الجيش سواء
بتعيين الضباط وحتى المجندين
وإن الفئة الحاكمة تعمد إلى
تصفية الضباط والفئات المناهضة
لها وتحل مكانها من أتباعها في
مختلف المناصب، فقد بلغت نسبة
العلويين في الجيش خمسة مقابل
واحد من جميع الطوائف الأخرى.
وفي مقابلة لحاطوم
وأبو عسلي مع صحيفة النهار
بتاريخ 14 أيلول 1966 صرح حاطوم
بأنهم فروا إلى الأردن من أجل أن
يناضلوا بأسلوب آخر أو بطريقة
أخرى "لإنقاذ الجيش وإبعاد
الروح الطائفية التي سيطرت عليه"،
ومضى قائلاً: إذا ما سئل عسكري
سوري عن ضباطه الأحرار سيكون
جوابه أنهم سرحوا وشردوا ولم
يبق سوى الضباط العلويين، إن
الضباط العلويين متمسكون
بعشيرتهم وليس بعسكريتهم وهمهم
حماية صلاح جديد وحافظ أسد، إن
الاعتقالات الأخيرة شملت مئات
الضباط من جميع الفئات إلا
العلويين.
وأضاف طلال أبو
عسلي لملاحظات حاطوم أن وضع
الجيش السوري دقيق جداً وخطر. إذ
إن جميع أبناء الوطن هم ضد كل ما
هو علوي، وهذا الانقسام قائم في
الجيش لدرجة الاقتتال في أية
لحظة، وإن هذا سيكون رداً
طبيعياً على التكتل العلوي
المنتحل صفة الحزب.
إن التسلط العلوي
شمل كل المستويات لدرجة أنك ترى
المرأة العلوية تتصرف وكأنها هي
السلطة وفي كل المنازل التي
يسكنها العلويون يرى جيرانهم
بوضوح تسلطهم باسم السلطة وباسم
الحزب وكل علوي من كبير أو صغير
يعرف ماذا سيحدث من تطورات ومن
تنقلات ومن اعتقالات قبل أن
يعرف بعض كبار المسؤولين.
وأخيراً روى أبو
عسلي أنه "عندما تم اعتقال
الضباط في الجبهة" (الذين
كانوا متورطين في الانقلاب
الفاشل ضد القيادة القطرية )،
كانت النساء العلويات يزغردن
ويهللن على مسامع نساء الضباط
المعتقلين وهذه صورة بسيطة عن
الجو السائد في البلد.
وبعد مضي أسبوعين
أصدر سليم حاطوم تصريحاً بتاريخ
28 أيلول 1966م شمل –وفقاً لما
ذكرته جريدة الحياة- اتهاماً
بأن المجموعة الحاكمة في دمشق،
عقدت العزم على تنفيذ خطة
طائفية بغية إقامة نظام انتهازي
يحمل شعار "دولة علوية ذات
رسالة خالدة" يلمع فيها
العميد صلاح جديد ونور الأنوار
إبراهيم ماخوس ( علوي كان يومها
وزيراً للخارجية ).
ومن الواضح أن شعار
"دولة علوية ذات رسالة خالدة"
تلاعب ألفاظ الشعار البعثي "أمة
عربية واحدة ذات رسالة خالدة"
أما نور الأنوار والعميد فهما
مصطلحان ومرتبتان دينيتان
علويتان.
هكذا كان المشهد
بعد ثلاث سنوات من وصول حزب
البعث العربي الاشتراكي إلى
السلطة في سوريا ، إثر انقلاب
عسكري ، رافعاً شعارات براقة ، و
لكن سرعان ما تكشف وجهه الحقيقي
الكالح ، فالوحدة العربية بين
كل أقطار العرب أصبحت طائفية و
عشائرية داخل الوطن الواحد ، و
تسلط طائفة صغيرة على الجيش و
الأمن و من خلالهما على أبناء و
مقدرات و ثروات
الوطن . و الحرية هي في نظرهم
قوانين طوارئ ، و أحكام عرفية ،
و محاكم عسكرية ، و سجون و
معتقلات ، و حكم أمني مخابراتي
يتدخل في كافة شؤون الحياة الصغيرة
و الكبيرة –
ففتح أي محل يحتاج لموافقة
أمنية حتى لو كان محل فلافل أو
حلاقة مثلاً، و كذلك الزواج أو
أي نشاط اجتماعي آخر -
، و استبدال مجلس النواب
المنتخب بثلة من اللصوص و
الانتهازيين ، حيث القرارات
تصدر كلها بالإجماع ، في مجلس
سموه زوراً باسم الشعب و هو أبعد
ما يكون عنه
- "اعتادت العرب أن تسمي
الأشياء بأضدادها تفاؤلاً
فسموا القافلة تفاؤلاً بقفولها
و سموا السليم للملدوغ
بالأفعى تفاؤلاً بشفائه أما
البعثيون فسموا كل من يعمل ضد
الشعب باسمه كمجلس الشعب و قصر
الشعب و دستور الشعب و جيش الشعب
و المنظمات الشعبية و حزب
الجماهير الشعبية
....."- ، و ليس همهم إلا
استغلال فترة وجودهم تحت قبة
البرلمان لينهبوا الشعب و
يملؤوا جيوبهم و أرصدتهم قبل أن
يطردوا منه
كمن كانوا قبلهم .
و الاشتراكية هي تسلط
المفسدين و اللصوص على
الممتلكات العامة ، و نهب الوطن
والشعب ، و استبدال الإقطاعيين
و الرأسماليين الأغنياء
بالبعثيين الجائعين و النهمين
الذين لا يشبعون .
و بمثل هذه
الازدواجية بين القيم و
الشعارات من جهة و بين الواقع من
جهة أخرى ، و بمثل هذا الفصام
السياسي البغيض
، أصبح المواطن السوري لا يصدق
شيئاً يصدر عن هذا النظام ، ولا
عن أزلامه و أبواقه – حتى نشرة
الأخبار الجوية – و لأن النظام
اعتاد و أدمن على الكذب و الخداع
و على هز الرؤوس و الموافقة من
زمرة المنافقين و الانتهازيين
التي التفت حوله ، يريد أن نصدقه
، أن الأحزاب الدينية و
الإسلاميين ، هم من يدعون
لتقسيم الوطن ، و إحياء
الطائفية البغيضة ، و كأن
حكامنا الطائفيين هم حراس
الوحدة الوطنية ، و كأن
الإسلاميين لم يدخلوا من قبل
البرلمانات المنتخبة من الشعب و
يشاركوا في الحكومات الوطنية
المدنية، و كانوا يتحالفون و
يتسابقون على صناديق الاقتراع
مع الأحزاب الأخرى ، و يرشحون
على قوائمهم حتى غير المسلمين
عندما يجدون في ذلك مصلحة للوطن
الغالي ، و ذلك كله قبل أن
يبتلينا الله بانقلاباتهم
العسكرية الدموية المتكررة
التي قتلت كل شيء جميل في وطن
كان اسمه سوريا .
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|