التعذيب
في سجن تدمر - 2
الدكتور
خالد الاحمد
مقـدمـة :
يقول فلاسفة
التاريخ : الهدف من دراسة
التاريخ ليس اجترار الآلام ،
ونبش الماضي بروائحه المتعفنة
واسترجاع الصـور المبكيـة ،
وإنما هو أخذ العبرة من الماضي ،
الماضي الذي كلف سوريا عشرات
الآلاف من خيرة أبنائها ، كي
لايضيع الماضي سـدى ، فنستفيد
منه في الحاضر ، وعندما أتحدث عن
المذابح الجماعية التي مارسها
نظام حافظ الأسـد في سوريا ، أو
أنواع التعذيب وأساليبه
الوحشية ؛ لا أقصد منها سوى أن
نعتبر من الماضي المؤلم ، وأن
نتخذ كافة الاجراءات
والاحتياطات كي لايعود هذا
الماضي ، ونجتث الأسباب المؤدية
لهذا الماضي المروع من جذورها ،
وأهم تلك الجذور الحكم الفردي
الديكتاتوري ، الذي استخدم
الجيش ( جيش الشعب ) كما قالوا
عنه ، استخدم جيش الشعب ليقتل
الشعب بدلاً من أن يحميه. وينهب
أموالـه وأثاث منازلـه بدلاً من
المحافظة عليها .
يقول تقرير منظمة
رقيب الشرق الأوسط (1991) ومابين
القوس للكاتب :
ليس هناك أطول
وأشقى من رحلة السجين السوري ..
ففي أول اعتقاله تسرع المخابرات
إلى جلب أسيرها إلى مكان الحجز
المؤقت ، [ وجرت العادة أن يأتي
زوار الفجر ، عندما يستغرق
الناس في النوم ، فيطرقون الباب
حتى إذا فتح رجل الباب ، كمموا
فمـه بأيديهم ، ثم باللاصق ،
وجـروه أو سحلوه إلى سيارتهم ،
بلباس النوم ] ،
ثم يوضع في زنزانة انفرادية
، تقطعه من الصلة بالعالم
الخارجي ، أسرته ، محاميه ،
أصدقائه ، أي شيء في العالم
الخارجي . ولايواجه السجين غير
المحققين يحاولون نزع الاعتراف
منه ...
مسيحي يعترف أنه من
الاخوان المسلمين :
[
وعلى ذكر نزع الاعتراف ... ـ قرأت
في مجلة المجتمع ـ أنه
اعتقل مرة مسيحي سوري خطأً ،
فوقع على اعتراف يقول فيه أنه
منظم في الإخوان المسلمين ورحل
إلى تدمر .... ولولا نشاط الكنيسة
ومكانتها لقتل مع الإخوان
المسلمين في تدمر ] ، ولما سأله
الضابط بعد وصول الكنيسة إليه :
كيف تعترف أنك من الاخوان
المسلمين ، فأجاب المسيحي : كي
أموت ، لأن الموت أسهل من
التعذيب عندكم .
وقرأت
كذلك في مجلة المجتمع :
[ وذات مرة أراد أحد
المساعدين في المخابرات
العسكرية مدرس رياضيات ( مدرس
خصوصي ) لابنته طالبة في الشهادة
الثانوية ،
فطلب من جنوده إحضاره ، فظن
الجنود المطلوب اعتقاله ،
واعتقل خطأ مدرس الرياضيات ،
وأحضر بالطريقة ذاتها ، وأدخل
الزنزانة وبـدأ مسلسل التعذيب
حتى وقع على اعتراف بأنه من
الإخوان المسلمين ، وبعد بضعة
أيام تذكر المساعد وسأل جنوده ؟
ماذا جرى بمدرس الرياضيات ؟
قالوا : اعترف بسرعة ووقع
الاعتراف ... فذهل المساعد
واستدعاه ، و قال المدرس
للمساعد : الموت أسهل من التعذيب
الذي صبوه علي ، لذلك اخترت
الموت ، لأن اعترافي بأنني من
الاخوان يعني الموت ، طبعاً
أطلق المساعد سراحه وهو يضحك
ويقول الحق عليك لماذا كنت
مدرساً ناجحاً في الرياضيات ؟؟؟
] حتى وقعت عندنا خطأً .
نعود إلى تقرير
منظمة رقيب الشرق الأوسط ونجد
فيـه :
... ومن
النادر أن تجد عائلة في جميع
أنحاء سوريا ليس لها بعض أفراد [أقارب
أو أصدقاء ] تعرضوا للسجن .
يقول أحد المساجين
من دمشق بعد أن فك الله أسـره :
( في البدء وضعوني
في دولاب (تاير ) وضربوني مائة
مرة على الأقل ، على قدمي ، وفي
الأخير تورمت قدماي ، وسالت
منهما الدماء لدرجة لم أعد
أستطع المشي ، لذا كانوا (يسحلوني
) على الأرض لإكمال التحقيق .
أحدهم ضربني بعنف
على ظهري وعمودي الفقري مباشرة
، ثم أطلقوا التيار الكهربائي
في جسمي ، حتى فقدت رشدي ، وغبت
عن الوعي عدة مرات ، فيلقون
بالماء على وجهي ، ويكررون
التيار الكهربائي ... ولم يقدموا
لي طعاماً لمدة أربعة أيام قـط .
[ واعتقل أحدهم خطأ أيضاً ،
ومكث عشرين يوماً نقص وزنه
فيها عشرين كيلو غراماً ] .
( ومرة ربطوني
بالمقلوب إلى السلالم ، رأسي
إلى أسفل وجسمي إلى أعلى وبدأوا
يركلوني بشدة ويضربونني بالسوط
، ورفسوني على وجهي بالحذاء
العسكري حتى سالت الدماء من
وجهي ، وغطت فمي و أنفي وتجلطلت
الدماء فوق أنفي ويداي
مربوطتان، فصرت أتنفس بصعوبة .
واستمر حالي هذا
أكثر من شهر ، وكان لباسي الثياب
الداخلية التي أخذوني بها من
بيتي ، والتي صار لونها أسوداً
من (سحلي على الأرض ) ، ولم يكن
عندي حتى بطانية أنام فوقها أو
تحتها . حتى اقتربت من الموت ) .
الازدحام والطابور
أمام المرحاض :
ويقول سجين آخر (
كنا ثمانين سجيناً نعيش على
مساحة سبعين متراُ مربعاً فقط ،
مع مرحاض واحد في الزنزانة ، ومع
هذا فكنا نفضلها على غرف
التحقيق حيث التعذيب الجهنمي ،
ولا أشد عذاباً من انتظار دور
الحمام في الصباح ، ولك أن تتصور
المأساة عندما يفقد بعضهم
المقدرة على ضبط جسمه ، فينفلت
وتخرج رائحته بين السجناء ،قبل
أن يصله دور المرحاض ) .
ويقول أحد السجناء :
( في الثالثة أو الرابعة قبيل
الفجر بدأ أحد السجناء معي
في زنزانتي يتلوى ويشكو من
صدره ، وأجمعنا أن معه أزمة
قلبية ، فصرخنا نطلب الحارس
ليطلب الطبيب فـرد الحارس ببرود
: ليس هو
أول من يموت في السجن ، الآن في
هذه الساعة لايوجد طبيب ..
الــدولاب :
تحدث سجناء آخرون
عن الدولاب - تاير السيارة-
بوصفه الصيغة المألوفة في
التعذيب - يضطجع الضحية على ظهره
(أو على ظهرها)، يشد وثاقه
بالتاير من فوق القدمين وأسفل
الردفين، ومن خلال أسفل الساق
والركبتين ثم من الجزء الأعلى
من الجسم حتى الرأس. ثم يبدأ
المحققون بتوجيه ركلاتهم
وسياطهم وأدوات الضرب التي بين
أيديهم إلى الأجزاء المكشوفة من
أخمص القدمين حتى الردفين -
لمائة مرة أو أكثر ربما.. في نوع
جديد من التعذيب يدعى (الفرّوج)
هنا توثق الضحية إلى قضيب معدني
يشبه شريحة (التروست) وتعرض إلى
أشد أنواع الضرب وحشية: على
الظهر والأرداف والأكتاف
والرأس والسيقان. ويقول الناس
الذين نالهم هذا التعذيب: إنهم
يفقدون الوعي تماماً من شدة
الألم، وليس في مقدور أحد منهم
الوقوف على قدميه بعد التعذيب
لساعات طويلة، وحتى لأيام، وإذا
ما اضطجعوا بغية الفوز بقسط من
النوم فإن الألم يسلبهم دقائقه
فيستحيل عليهم النوم أخيراً.
أما آلات التعذيب
الأخرى فأكثر هولاً ورعباً.
اختراعات سورية في
التعذيب :
هناك تعذيب (العبد
الأسود) حيث يعلق السجين الضحية
به من معصميه، ثم يدخل سيخ معدني
شديد الحرارة في فتحة دبره بقوة.
وآلة (الغسالة) التي تمثل طبلاً
فيه ما يدور كالمغزل سرعة،
وبحيّز من طبقتين حيث يضع
السجين الضحية، قسراً، ذراعيه
فيه. وما إن تدور الآلة حتى تمسك
بالذراعين فتتعرضان وحدهما أو
هما والأصابع معاً إلى السحق
والتشويه. هناك أيضاً آلة (الكرسي
الألماني) التي حازت أسوأ سمعة
بين جميع الآلات! إذ هي كرسي
معدني مع مقصلات على مسنده
الظهري. يشد وثاق الضحية إلى هذا
الكرسي مع ميل ظهره أكثر باتجاه
الخلف للالتحام بالكرسي أكثر،
وبحركة الكرسي يتعرض العمود
الفقري إلى أشدّ الآلام أذى،
وكذلك العنق والأطراف السفلى.
وفي نوع آخر من الكرسي هذا يضاف
إليه السكاكين أيضاً فتقطّع في
جسم الضحية لحمه أثناء حركتها
الدورانية. تفقد الضحية، عادة،
وعيها، وبعض الضحايا يبقون
يعانون من عوق دائم ومؤلم في
الظهر والأطراف.تتنوع وسائل
تعذيب المخابرات السورية بتعدد
صيغ وحشيتها: الصدمات
الكهربائية، الاغتصاب الجنسي،
قلع الأصابع والأظافر، كسر
الأطراف، تعليق الضحية في
الهواء، جرّ الجسم إلى نقطة
التمزق والانفجار، الحرق،
الغرق، أو التقطيع بالشفرات (الأمواس).سجلت
منظمة العفو الدولية التي كانت
تراقب التعذيب في سوريا لسنوات
كثيرة، ثمانية وثلاثين شكلاً
مختلفاً من أنواع التعذيب التي
تستعمل في سورية هذه الأيام(4).
لم ينج حتى أبناء الأقليات من
هذا التعذيب. فلقد عذب مراهقون
كثير، اعتقلتهم المخابرات
كرهائن، أو من ذوي الأنشطة
السياسية أو لأسباب "عدوانية"
أخرى، لم يكن هيثم كامل مصطفى،
السياسي الفعال، عندما اعتقلته
المخابرات في العام 1980 إلا بعمر
أربعة عشر عاماً فقط. وقد عذبته
المخابرات ووضعته في السجن ست
سنوات قبل أن تطلق سراحه أخيراً.
وفي العام 1987 اعتقلت المخابرات
العسكرية ثلاثة يافعين يهود (من
الأعمار 15 - 16) سنة في دمشق حتى
أطلق سراحهم جميعاً في العام 1988،
إلا أن واحداً منهم ما زال يعاني
من شلل جزئي. أما بصدد الذين
تعتقد المخابرات أن لهم موقعاً
مهماً في المعارضة السياسية،
وحتى الذين تنظر إليهم على أنهم
"غير متعاونين" فإنهم
يلقون تعذيباً خاصاً، طويلاً
ومكثفاً شديداً. وفي خارج هذا
السياق، تعذب السلطات سجناءها
لسنوات ولكن في كل مرة على
انفراد وبشكل مميز. وما تعذيب
فرع التحقيق العسكري بدمشق إلا
واحداً من أشد أنواع التعذيب
بطشاً بإطار هذا النمط من
التعذيب.
المناضل رياض
التــرك :
يروى أن رياض الترك
سكرتير عام الحزب الشيوعي -المكتب
السياسي- تعرض إلى الحجز
فالتعذيب وكل أنواع الانتهاكات
في هذا المركز على مدى أكثر من
تسع سنوات، فلقد تحطمت عظامه
كسوراً فوق كسور، وأتلفوا له
سمعه وبصره تماماً، ووهن قلبه
كثيراً، لقد تحول جسمه إلى ركام
إنساني، شكلاً من غير بناء،
لدرجة نقل إلى المستشفى على عجل
ست مرات في الأقل، وهو على حافة
الموت. حتى غدت قضيته أشهر من
نار على علم، إلا أن كثيرين غيره
واجهوا العذاب المرَّ نفسه وهم
مجهولون لا يعلم عنهم أحد شيئاً.
أصبح العديد من الأشخاص
المخطوفين في لبنان بين الضحايا
الدائمين تقريباً في فرع
المخابرات العسكري. وقد عذب
الضابط العسكري الفلسطيني حسن
ذيب خليل في هذا الفرع منذ
اعتقاله في العام 1983 بطرابلس،
وفلسطيني آخر: محمد داوود حجزوه
في الفرع المذكور وعذّبوه فيه،
وهو الآن بالحبس الانفرادي منذ
اعتقاله في لبنان سنة 1985 هناك
أيضاً فلسطينيان آخران: ذياب
محمود (و) فايز عرفات تمّ
اعتقالهما وتعذيبهما في هذا
الفرع للمدة ذاتها. بل إن أحد
السجناء مجهول الهوية مات تحت
التعذيب في هذا الفرع نفسه في
خريف العام 1989.
*كاتب
سوري في المنفى
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|