لماذا
الاعتراف بإسرائيل الآن؟
د.
محمد الغزي
ما
أن فازت حماس في الانتخابات
التشريعية، وقبل أن تخطو خطوتها
الأولى، حتى انهالت عليها
الضغوط الغربية الظالمة
لمطالبة حماس بالاعتراف
المجاني بالكيان الصهيوني
والتخلي عن المقاومة والدخول،
بعد ذلك، في مفاوضات لا نهاية
لها مع الاحتلال ولا طائل
لشعبنا من ورائها، ويصاحب هذه
الضغوط الغربية تهديدات تنم عن
توجهات غربية ماكرة بإنهاء
القضية الفلسطينية تمهيدا
لإعادة صياغة الوطن العربي
والإسلامي وإحباطا للمحاولات
والجهود العربية والإسلامية،
على المستوى الشعبي، للنهوض
ونفض غبار الذل والهوان والوقوف
بشموخ في وجه التحديات الكبيرة
التي تستهدف إسلامنا، ومن ثم،
وجودنا.
والمجتمع
الدولي، الذي تسلطت عليه الدول
الغربية فأصبحت تقوده إلى حيث
المصالح الغربية والصهيونية،
مارس في الماضي دورا قذرا في
سياق تعامله مع القضية
الفلسطينية العادلة وذلك
بالضغط على السلطة الفلسطينية،
وجعلها ترضخ حتى الاستسلام
للمطالب الصهيونية، وبالتهدئة
للشعب الفلسطيني، خلال
انتفاضته لحرمانه من استخدام ما
يملك من قوة في دفع العدوان
ومقاومة الاحتلال، وبتمييع
القضية الفلسطينية وتهميشها
إقليميا وعالميا من خلال تقديم
وعود كاذبة لم تخرج إلى الوجود
حتى هذه اللحظة، ولن تخرج أبدا.
والمجتمع
الدولي، ممثلا في اللجنة
الرباعية، الذي كان يشرف على
المفاوضات المهينة بحق
الفلسطينيين، بين السلطة
المتهاونة والصهاينة الماكرين،
لم يستطع منع الكيان الصهيوني
من اتخاذ إجراءات أحادية
الجانب، كما يسمونها، أدت إلى
اتساع الاحتلال البغيض وتكريسه
وانتهاك المزيد من الحقوق
الفلسطينية، ولم يستطع المجتمع
الدولي الحد من الممارسات
الصهيونية كالقتل والاغتيال
والاعتقال والتجويع الجماعي
والحصار الشامل، ولم يستطع
المجتمع الدولي منع إقامة جدار
الفصل العنصري الذي خرب ودمر
الأراضي الفلسطينية ومزق القرى
والمدن الفلسطينية وشتت
العائلات الفلسطينية، ما أدى
إلى زيادة مآسي شعبنا الفلسطيني
ومعاناته من الاحتلال نتيجة
للوصاية الدولية الظالمة ولم
تؤد المعونات الغربية، التي
يستخدمها المجتمع الدولي ورقة
ضغط على حماس، إلا إلى مزيد من
جرائم الاحتلال وعدوانه، فقد
ازداد الاحتلال وحشية وشراسة
نتيجة للتغطية الغربية على
جرائمه وممارساته اللا إنسانية.
والآن
يواجه محور الإرهاب العالمي،
بزعامة الولايات المتحدة
الأمريكية وعضوية دول الاتحاد
الأوروبي والكيان الصهيوني،
خيار الشعب الفلسطيني الشجاع
بمواصلة مسيرة التحرير حتى دحر
الاحتلال بمثلث السم الغربي:
الاعتراف؛ نبذ المقاومة؛
المفاوضات المشروطة، ولإكمال
حلقات المؤامرة الغربية هناك
مثلث آخر للإرهاب والترويع:
التهديد بالتجويع حتى الموت؛
العزلة الدولية؛ استمرار
الإرهاب الصهيوني الذي يتوعد
قيادة حماس بالتصفية، ليشكل
هذان المثلثان النجمة السداسية
التي يتخذها الصهاينة شعارا
لمكرهم وإجرامهم.
تأتي
هذه المطالبة اللعينة،
بالاعتراف بالاحتلال وكيانه،
في الوقت الذي بدأ الشعب
الفلسطيني يتوجه نحو الخيار
الصحيح، الذي ينم عن وعي
وإيمان، رافضا للتسوية المهينة
وللاعتراف بكيان الاحتلال،
وتأتي هذه الضغوط الجائرة بعد
أن أدرك شعبنا الفلسطيني نتيجة
خيارات التخاذل لسلطة أوسلو
التي ضيعت الحقوق وعمقت التبعية
للاحتلال وجعلت الاحتلال قدرا
للشعب الفلسطيني وأضفت عليه
شرعية أمام الرأي العام
العالمي، فأخذ الشعب، نتيجة هذا
الإدراك، على عاتقه مسؤولية رفع
الظلم ودحر الاحتلال غير معولا
بجهود المجتمع الدولي ومتوكلا
فقط على الله عز وجل وطالبا منه
العون.
لم
يرق لزارعي الكيان الصهيوني في
قلب أمتنا أن يلتقي شعبنا مع
قيادته الإسلامية في الهدف
والمصير وفي المسيرة والتدبير،
في لحظة فريدة من حياة شعبنا
الفلسطيني وتاريخه الجهادي،
بعد أن حمل الجميع الراية
الإسلامية في الصراع مع
الاحتلال، وقد بدا واضحا أن
الوضع الفلسطيني قد أخاف العديد
من الغربيين من أمثال سيلفيو
بيرلوسكوني، رئيس الحكومة الإيطالية،
الذي قال بمناسبة فوز حماس: "أن
انتصار حماس هو
نتيجة سيئة جدا جدا جدا، فهو
يعيق قضية السلام في المستقبل
المنظور."
يأتي
هذا الخوف نتيجة لظلم أولئك
الغربيين ولعلمهم بأن الراية
الإسلامية لا تقبل التفريط في
الحقوق ولا يمكن أن تلين لها
قناة في مواجهة أعتا احتلال على
وجه الأرض فالإسلام يحرِّم
علينا التفريط بالأوطان
والحقوق، وكذلك لعلمهم بأن
جهودهم الماكرة ووصايتهم
المخزية لن تجدي نفعا أمام
إخلاص قادة حماس وصمود الشعب
الفلسطيني بعد أن لفظ تلك الفئة
التي كانت تعول عليها الحكومات
الغربية والكيان الصهيوني في
تمرير اتفاقيات الذل والمهانة.
وتهدف
هذه الضغوط التي تمارسها
الحكومات الغربية على حماس
والشعب الفلسطيني إلى إجبار
حماس على القبول بوجود الكيان
الصهيوني على أرض فلسطين دون
السعي لمقاومته أو الإخلال
بأمنه، ما يعطي هذا الكيان
التوسعي الذي لا يعترف بحدود
ولا يلتزم بعهود ولا يحترم
اتفاقيات ولا يرى غير القوة
العسكرية وسيلة له في تحقيق
أهدافه بإقامة وطن له على أرض
فلسطين فرصة عظيمة للانتقال إلى
الخطوات التالية في المشروع
الصهيوني والتطبيع مع العرب
والمسلمين وغزوهم في عقر دارهم
والتمكين لما يسمى "مشروع
القرن الأمريكي".
والاعتراف
الذي تطالب به الدول الغربية له
محاذير كثيرة كفيلة بإنهاء
القضية الفلسطينية إلى الأبد
وتحقيق حلم الصهاينة بإقامة
دولة (إسرائيل الكبرى) من النيل
إلى الفرات، فالاعتراف يؤدي إلى
تقزيم القضية الفلسطينية
والصراع العربي الصهيوني وحصره
في أضيق حدوده له خارج النطاق
الإقليمي والإسلامي والعالمي
وذلك بعزل الأمة العربية
والإسلامية عن القيام بواجبها
تجاه الصراع الذي يستهدفها
وإضفاء الشرعية على الاحتلال،
بالإضافة إلى كل هذا فإن اعتراف
حماس بالكيان الصهيوني سوف يؤدي
إلى تفشي "فلو نزا التطبيع"
في جسد الأمة العربية
والإسلامية، ما يحقق للاحتلال
ما عجز عنه لأكثر من نصف قرن من
العدوان والإجرام.
أما
على المستوى المحلي فالاعتراف
بالكيان الغاصب يعيد القضية
الفلسطينية ستين عاما إلى
الوراء ويؤدي حتما إلى خفض
مستوى الطموحات الفلسطينية إلى
مستوى منخفض غير مسبوق ودق
إسفين في قلب الشعب الفلسطيني
وتمزيقه إلى شراذم وإضعاف
التأييد الشعبي لحماس وسقوط
الجدار الأخير الذي يقي فلسطين
من اليهود والصهاينة، وهذا لن
يتحقق أبدا طالما بقي فينا من
يقول "لا إله إلا الله محمد
رسول الله."
إن
إضفاء الشرعية على الاحتلال،
بالاعتراف بالكيان الصهيوني،
يكفل لهذا الكيان ولأعداء أمتنا
استمرار صراعهم معنا بأقل تكلفة
ممكنة ويحقق لهم المزيد من
التقدم على مسار تمزيق أمتنا
والهيمنة على أوطاننا لإقامة
إمبراطورية الشر الأمريكية،
ولهذا فالكيان الصهيوني حريص
على نزع كل مقومات صمود العشب
الفلسطيني ومنع استمرار
مقاومته واتخاذ الفلسطينيين
جسرا للمرور إلى العالم العربي
والإسلامي.
لقد
جاءت حماس على رأس تجارب عديدة
ابتعدت عن المنهج الإسلامي فكان
مصيرها الفشل والمزيد من
التقهقر على صعيد القضية
الفلسطينية، وصعدت على أنقاض
مشروع تسوية مهينة في إطار
اتفاقيات أوسلو وفي سياق تخاذل
رسمي وصمت شعبي عربي وإسلامي،
ولهذا كان حتما على حماس أن تمضي
قدما في برامجها غير آبهة بضغوط
الدول الغربية ومناداتها
بالاعتراف بإسرائيل لما تحتويه
هذه الدعوات الغربية من انبعاث
التسوية المهينة من قبرها في
وقت لا يملك الكيان الصهيوني ما
يقدمه للشعب الفلسطيني سوى
الخراب والدمار والمزيد من
العدوان.
وهنا
تكمن أهمية الثبات على المبادئ
والصبر والمرابطة في هذه
المرحلة التي تسلمت فيها
القيادة الإسلامية، لأول مرة،
قيادة الصراع ضد الاحتلال وتولت
مقاومته بشكل لا لبس في مضمونها
وأهدافها، فعدم الاعتراف
بالاحتلال كفيل بأن ينهيه في ظل
تعرض الكيان الصهيوني لعوامل
عديدة تهدده وتؤذن بفنائه
كالعوامل الديموغرافية ونقص
المياه والصعود الإسلامي
وزعزعة الأنظمة الحاكمة التي
طالما كبلت الشعوب و عزلتها عن
الصراع.
ومن
حق الشعب الفلسطيني أن ينبذ
الاعتراف الذي أقرته منظمة
التحرير الفلسطينية
والاتفاقيات التي وقعتها
السلطة الفلسطينية مع الاحتلال
والتي لا تزيد شعبنا الفلسطيني
إلا آلاما ومعاناة، فحماس غير
ملزمة بما يهدر حقوق الشعب
الفلسطيني من اتفاقيات
واعترافات ويؤدي إلى تكريس
الاحتلال، والاحتلال لم يحترم
تلك الاتفاقيات لحظة واحدة ولم
يعترف بحق الشعب الفلسطيني في
إقامة دولته على أرضه، ولا تزال
جريمة اقتحام سجن أريحا ماثلة
أما أعيننا وحاضرة في أذهاننا،
والله تعالى أمرنا أن ننبذ
الاتفاقيات والعهود إلى من نخاف
خيانته من الأقوام فكيف
بالخائنين فعلا؟ فالله سبحانه
يقول: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن
قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ
إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ
اللّهَ لاَ يُحِبُّ
الخَائِنِينَ }الأنفال58.
وعلى
الشعوب العربية والمسلمة أن
تبادر إلى بذل جهود مناسبة
توازي الجهود التي تبذلها حماس
والشعب الفلسطيني وتضاهي، بل
تفوق، الضغوط الغربية وجهود
محور الإرهاب العالمي في دعم
الاحتلال وتأييده، إن الحكومات
الغربية تجتمع الآن، بتبجح
ووقاحة، على دعم الاحتلال
والوقوف بكل قوة وخسة في وجه
حماس محاولة إجهاض حكومتها قبل
أن تخرج إلى الوجود؛ فلا أقل من
أن تقوم الشعوب العربية لأداء
واجبها تجاه الهجمة الصليبية
الصهيونية وتهب لنجدة الشعب
الفلسطيني الذي أضحى قوته يومه
مرهونا بمزاج قادة الاحتلال
والعدوان.
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|