في
سورية يعضون البعوض
بقلم
: محمد الحسناوي
في ليلة من ليالي هذا الصيف أفاق الكاتب
على عضة بعوض وهو في الغربة ،
فتألم ، حاول استئناف النوم فلم
يستطع ، لأنه تذكر بعوض الوطن ،
فحنَّ إليه ، فكتب هذه الخاطرة :
في كل بلاد العالم يوجد بعوض ، وفي كل
بلاد العالم يعض البعوض
المواطنين ، فيكافحونه بالمواد
الكيميائية المخلوطة بالنفط أو
أحد مشتقاته ، كالكاز والبنزين
، وما سوى ذلك ، فيتخلصون منه
ومن عضه .
أما في سورية ، فالمسألة تختلف كل
الاختلاف ، لأن سورية ، لها
خصوصية : شعباً وحكومة ونظاماً .
في سورية يوجد بعوض عظيم ، وهو
بعوض وطني ، وهو محترم ، ذو نفوذ
وانتشار واسعين في مفاصل الدولة
والمجتمع ، بنص الدستور . وهذا
يفسر انتشار القمامة وتكدسها
على شكل إهرامات لطيفة في مفارق
الطرق والشوارع والساحات
العامة والمتنزهات وأمام مباني
البلدية أيضاً ، ولا أحد يستغرب
ذلك ، لأنه أصبح فولكلوراً
شعبياً محبباً . ومن العادة أن
المواطنين هم الذين يعضون
البعوض ، بدلاًَ من أن يعضهم ،
وذلك من قلة شرفهم ، ولتواطوئهم
مع بعوض الخارج .
وقد حاول بعض الأذكياء أن يؤصِّل للبعوض
السوري ، فتساءل في رسالة
جامعية : هل هذه الظاهرة مستمدة
من حضارة شرقية تقدس الحيوانات
كالحضارة الهندية ، حيث الراهب
الناسك هناك يفتح فمه ، ويدلق
لسانه بكل طواعية للبعوض أو
الذباب ، كي يعيش على لسانه ،
فلا يغلق فمه بخلا وجحوداً .
فاشتم البعوض الوطني السوري من
هذه الرسالة الجامعية مؤامرة ،
ففتكوا بالرجل وانتهى أمره .
والذي جعلهم يستنتجون هذا
الاستنتاج الذكي هو أن حضارة
تقديس الحيوانات ارتقت إلى
تقديس الإنسان والأخذ
بالديموقراطية الحقيقية ، وحصر
سياسة العض في أضيق حدودها ، أي
تركها مسألة شخصية ، غير مقننة
بالدستور تقنين الماء والهواء .
والحقيقة أن المواطنين السوريين
متألمون من بعوضهم الوطني ، ولا
يجدون طريقة فعالة لمواجهته
المستمرة إلا العض ، لأن النفط
الوطني ومشتقاته محتكرة للحزب
القائد للدولة والمجتمع
، من أجل بيعه في السوق السوداء
بأسعار خيالية ، تزيد من حجم
الأرصدة المودعة في المصارف
الأجنبية للأيام القادمة الأشد
سواداً .
أحد عناصر البعوض المكلفين بحماية
المساجد في مدينة (حمص ) ، حيث
الرطوبة والمستنقعات التي تزين
وسط سورية ، كشف عن هويته لرواد
أحد المساجد من المواطنين
الأغبياء السذج ، وأراد أن
يمارس هوايته بأن يمص دم إمام
المسجد . وسبب اختياره الإمام
أنه خفيف الدم ، ظريف
لطيف كالغالبية العظمى من أهالي
حمص ، ولأن عض المواطن الشريف
الهمام خير من عض المواطنين
الطغام اللئام :
إذا غامرتَ في أمرٍ مَـرومِ
فلا تقنـع ْ بما
دون النجومِ
فعضُ المرء من شعب لئيم
كطعمِ العض من
شعبٍ كريمِ
والطريف أن إمام المسجد سكت عن عض
البعوض الوطني ، وسلَّم له
أعضاءه للعض أكثر من مرة ، لكن
الخطأ أن رواد المسجد أخذتهم
الحمية الحمصية على إمامهم
المعضوض ، وتطوع بعضهم لإنهاء
هذا العدوان الحضاري ، وهم ذوو
إمكانية في العض لا يُستهان بها
، فترصدوا لعنصر البعوض ،
وأوسعوه عضاً ، ولما كانت
أنيابهم قاطعة ، والصحيح موتورة
، وعنصر البعوض هش العظام ، كانت
النتيجة أن مات عنصر البعوض
الأمني من عضات المواطنين
الشرسين والصحيح الموتورين ،
فما كان من جيش البعوض الوطني
إلا شنَّ حملة فعالة على
المواطنين رواد ذلك المسجد
وإمامه ومؤذنه وخادمه وعلى
الحارة المحيطة به والحارات
المجاورة ، وأشبعوهم عضاً
عنيفاً ، كانوا قد نسوه ، ونقلوا
المصابين بالعض العنيف إلى
زنازن وسجون مشهورة بالعض
المؤلم ، يشبهه بعضهم بعضّ
الكلاب (المكلوبة ) أي ( الكَلَب)
، وهو مرض مُعدٍ ، كما هو معلوم ،
فانتشر الخبر في أرجاء سورية
بشكل مضخَّم ومشوَّه بسبب
الشائعات المغرضة المتآمرة على
الأمن الوطني ، وتعلَّم الناس
أن الاستسلام لعض البعوض الوطني
عضاً عادياً خير من الاعتقال
والسجن والتعرض لعض البعوض
الأشد ، وبعض العض أهون من بعض .
هذه قصة البعوض الوطني في سورية . وهي
الرواية الموثقة التي تنقض
الروايات الأجنبية .
على كل حال انتشرت الواقعة خارج سورية ،
وبلغت إلى مسامع الكبار في
السوق الأوروبية ، وإلى الوفد
الأوروبي المكلف بتوقيع معاهدة
شراكة مع الحكومة السورية ،
فأشفقوا على المواطنين
السوريين ، فتدخلوا في الشؤون
الداخلية استنكاراً لشدة العض
الذي يمارسه البعوض الوطني
السوري ، فزاروا سورية ، وطلبوا
زيارة بعض سجناء العض في سجونهم
، مثل النائبين رياض سيف ومأمون
الحمصي ، فرفضت السلطات هذا
الطلب غير الحضاري ، لكن أعضاء
الوفد الأوروبي استطاعوا
الاجتماع ببعض رجال المعارضة ،
وسألوهم عن المشكلة الوطنية ،
فتجرأ أحد رجال المعارضة ، ووضح
الحائق تماماً ، ثم تجاوز
الحدود المرسومة أو الخط الأحمر
، وطلب من الوفد الأوروبي
مساعدة المواطنين السوريين
بالتخلص من سياسة (العض العام )
الذي يمارسه البعوض الوطني ،
وذلك بوقف التوقيع على معاهدة
الشراكة الأوروبية السورية ،
لكيلا يستفيد البعوض الوطني
السوري من دعم إضافي من السوق
الأوروبية قبل أن يكف عن هذه
السياسة ، فيشتد العض على
المواطنين ، مع العلم أن
المواطنين السوريين المؤدبين
قد بلغ بهم الصبر الشديد مبلغاً
، لم يعد يحتمل العض من البعوض
الوطني ، وأن المواطنين يكادون
ينفجرون من الغيظ المكتوم طوال
أربعين عاماً ، وحرصاً على
التهدئة الوطنية ، واستمرار
التعاض الوطني المخفف ، يطلبون
هذا الطلب !!
ومع ذلك لم تتفهم أجهزة البعوض الأربعة
عشر نوايا المواطن المعارض
فهماً حسناً ، فكشفت خيانته
للوطن البعوضي ، ولمكتسبات
الوطن من البعوض ، وهددته
وتوعدته عبر الصحافة الوطنية إن
عاد لمثلها ، وكشف سياسات
البعوض الوطنية الممتازة ، خشية
حصول تقليد أجنبي لها أو سرقتها
.
وهذه هي آخر أخبار البعوض الوطني
المظلوم من مواطنيه .
عاش البعوض الوطني رمزاً للخصوصية
السورية .
يسقط البعوض الأمريكاني والبريطاني وكل
بعوض أجنبي .
عاش التعاض الوطني
عاش الصبر الشعبي السوري الذي لا ينفد .
وكل عضة وأنتم بخير .
التوقيع : مواطن معضوض
هارب من العض الوطني منذ ربع قرن
.
* كاتب سوري وعضو رابطة
أدباء الشام
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|