الكرامة
السورية المهدورة
وتقوم الكرامة
الإنسانية على كون المواطن
السوري أكثر من شيء، وأكبر من
أثر أو ظل، ولا يمكن اختزال
كرامته إلى بُعد معين من كيانه
أو مرحلة من عمره، ولا يمكن شحطه
بالليالي حتى تتكحل مقلتاه
برؤية رئيس الفرع، وشرب فنجان
قهوة معه.وتفترض الكرامة
الإنسانية نظرة إلى الإنسان
السوري السيئ لا تقلل من وجوده
الزمني والجسدي. فكرامة الإنسان
السوري تختص بحياته في كافة
مراحل تاريخها. حتى ولو بلغ
الخمسين من العمر، ومضى يبحث
تحت الأمطار الغزيرة على إدارة
أمن الدولة، ومن ثم فرع
المعلومات.--ويمر التعبير عن
الكرامة الإنسانية من خلال
الجسد الذي بلله المطر وأغرقته
النزوات الأمنية المفاجئة.
اتصل أحدهم بي عبر
جهاز الموبايل، وقال: تكلم مع
رئيس فرع المعلوماتية. في
البداية ظننت الأمر مزحة، ولكن
تبين أن هناك شخص على الطرف
الآخر، عرف عن نفسه بأنه رئيس
فرع المعلوماتية، ويطلب مني
الحضور إليه، وسألته أين مكانه
حفظه الله، فقال في المنطقة
الفلانية ولن أذكرها حتى لا
يتصل بي فرع ثاني ويقول إنني
أسرب أسرار أمنية. بدأت أفكر:
فرع المعلوماتية، ماذا يريدون
مني ؟ سألت أحد الأصدقاء عن
وظيفة هذا الفرع فقال: إنها
تتعلق بالانترنت، وجدتها، هكذا
ظننت. قد يكون أحد مخبري السلطة
والأمن قد وشى بي وأخبرهم أنني
أرسلت أيميل إلى مستشفى هداسا
أطمئن به على صحة شارون؟ أو لعل
واشي أكبر أخبرهم أنني اتصلت
بايهود اولمرت وهنأته بحصوله
على 28 كرسي بطريق ديمقراطية؟ كل
شيء جائز. قد أكون دخلت على موقع
الواوا دون بوس، أو أحد مواقع
الصبي مهج خليل الخليفة الواثق.
وصلت إلى هناك،
سألت بائع حمص، أين تقع إدارة
أمن الدولة؟ فأشار إلى بناء ضخم
توجهت إليه تحت وابل من الأمطار
القومية الشديدة. على الباب
سألت أحد العناصر، قال الباب
الثاني، تابعت المسير وأنا
أفكر، لو أن الأحكام العرفية
مرفوعة، وقانون الطوارئ مُلغى،
هل كنت مضطرا للسير تحت المطر
بحثا عن فرع المعلوماتية، مع
العلم أنهم يقولون دائما، إننا
لا نعمل بهذه القوانين. وصلت إلى
الباب الآخر، وسألت عن رئيس فرع
المعلوماتية فقيل لي هنا،
تستطيع أن تبدأ رحلتك الثانية،
أعطنا الموبايل، ولماذا؟ هكذا
الأوامر اعطنا إياه. أعطيتهم
الموبايل وبدأت المسير في طرقات
ليس لها أول ولا آخر، وأسأل هذا
وذاك والمطر ينهمر، وبالي مشغول
على وشاية شارون. وأخيرا وصلت
بعد أن أصبحت ثيابي مبللة
بالكامل. قال الحاجب الذي
استضافني في مكتبه بينما يُنهي
السيد الوأعماله، فرع
المعلوماتية أشغاله: أعطني
هويتك، قلت سا عتها كما يقول أهل
الزبداني: يا ز--ب الله -ولماذا
هويتي ألا تعرفوني ؟ أعطيته
هويتي وانتظرت السيد العميد حتى
ينتهي من أشغاله وأعماله، ومن
أنا حتى يستعجل، لست سوى مواطن
سوري. وطال الزمن ولم أعد أهتم
لا بوشاية شارون ولا اولمرت،
الأخطر والأصعب كان في غرفة
الحاجب. لقد فتح التلفزيون
السوري، وأجبرني على حضور
برنامج كامل، وهذا في حد ذاته
سبب لي ألم أشد من استدعائي
وبهدلتي بالمطر وانتظاري
الطويل.
دخلت إلى مكتب
سيادة العميد رئيس فرع
المعلوماتية، شاب مهذب لبق، قال:
أريد فقط أن أسألك سؤال واحد،
قلت في نفسي سؤال واحد، هذا يعني
واشي واحد، بسيطة مقدور عليها.
قلت: تفضل. قال: أريد أن أسألك عن
جمعية تأهيل المعتقلين التي
تودون إطلاقها، ما هي أهدافها ؟
قلت له: كما قرأت سيادتك إنها
جمعية ذات هدف إنساني ستعمل على
تخفيف الآلام والمعاناة التي
لقيها أخوة لنا في الإنسانية
شاء حظهم العاثر، أن يُعتقلوا
ويتألموا. قال: نحن لا نوافق
عليها وأرجو أن توصل هذا. قلت له:
أنا لا أوصل شيء، لا توافقون لا
توافقون، قال: لا، نحن لا نعمل
في الظل نحن نعمل في العلن،
وإدارة أمن الدولة لا توافق على
هذا المشروع أبدا. وإذا استمر
يتم به كل واحد يتحمل المسؤولية
بنفسه. ثم قال: ولكن معلوماتنا
تقول أن لك دور أكبر من هذا. أريد
أن أعرف كل أهدافها. قلت: ما
أعرفه قلته لك وعليك أن تصدقني.
ثم طلب مني أن أكتب على ورقة
بأنني لا أعرف عنها شيء، فكتبت
له. سألته عن اسمه، فقال: غير
ضروري، قلت: ممكن أعرفه، فقال:
أعرفه. ودعني بكل طيبة وحملني
سلامه إلى جميع المواطنين
السوريين الذين سألقاهم بطريق
عودتي.
تابعت مسيري حتى
ساحة (سري) ووقفت هناك في الليل
الدامس كما يقول المتنبي، أنتظر
سيارة مكرو، وطال الانتظار
ووصلت إلى بيتي حوالي الثانية
عشرة منتصف الليل، ووجدت الأهل
والجيران والأصدقاء على باب
البناء، والجميع قلق ينتظر
عودتي، أطفالي سارعوا إلى
احتضاني وهم يبكون متألمين
متذكرين اعتقالي السابق.
من يحم الشعب
السوري اليوم، من نزوات هذا
وذاك، ؟
إلى متى سيبقى
الأطفال في وطني ينتظرون آبائهم
في هلع وخوف؟
ألا يوجد قانون
يحمي الناس من الذهاب إلى أماكن
لا يرغبون في زيارتها ليلا؟.
يزداد السؤال عن
الكرامة السورية إلحاحا
وأهمية، عندما نواجه استدعاءات
مفاجئة ومواقف نلمس فيها (حدود))
الكرامة المهدورة. في حالات
الازلال ألبدني والمعنوي. وفي
حالات الانتظار الطويل في
المكاتب، والتفكير المضني
بالتهمة، والمهانة الإنسانية
عند معرفتك بقيمتك الحقيقية في
نظر الجهات الأمنية. وعندما
نتساءل عن معنى الكرامة في
سوريا في هذه المواقف المهينة
والمخجلة، فإنها، ويا للعجب،
تعلمنا شيئا جديدا، بل أساسيا
عن قيمتها ومبلغها. تُعلمنا أن
نقول لا، تُعلمنا أن نتحمل كل
المهانة، في سبيل يوم مشرق
أكثر، تنزاح فيه هذه الغمامة
الأمنية، ويعود فيها للمواطن
السوري كرامته التي أهدرها بين
فروع الأمن المختلفة في وطنه،
في سوريا الأسد.
الليلة الممطرة
دمشق
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|