لم
يحدث في شامستان
-2-
د/
هشـام الشـامـي
مع نهاية القرن
الفائت و بداية القرن الحالي
فارق بعض الزعماء العرب كرسي
السلطة الذي فُصّل على مقاساتهم
، و تمسكوا وتشبثوا فيه ،و عضوا
عليه بالنواجذ ، وقعدوا عليه
عقود عديدة ، حتى ملّهم و ضج من
مؤخراتهم المترهلة و قعودهم
المزمن ، و لو كان له لسان لقال :
صبرت حتى ملّ الصبر من صبري .
فارقوه مكرهين لا مخيّرين ،
عندما أتاهم هادم اللذّات و
مفرق الجماعات ، أتاهم أشد خلق
الله هولاً على ابن آدم الذي لا
يفرق بين رئيس و مرؤوس ، و لا بين
ظالم و مظلوم ، أتاهم من حيث لم
يحتسبوا ، و قد حسبوا حساب كل
شيء ( إلا الموت ) حتى دبيب النمل
، و صفير الريح ، و شخير النوّم
،و أنفاس البشر ، و سخّروا من
أجل هذا الكرسي الذي فارقوه
جيشاً عرمرماً من الجواسيس و
المخبرين والأفّاكين و
السجانين و الجلادين و الساديين
و المتوحشين و نصبوا في سبيله
المشانق و دمروا و نكلوا و
أرهبوا و أرعبوا و قتلوا و سفكوا
الدماء و هتكوا الأعراض و فرقوا
الجماعات و نهبوا الشعب و
الأوطان ، و نشروا ثقافة الخوف ،
حتى قال الجميع : لا تنطقوا إن
الجدار له أذن .
و من الطبيعي أن
يخلف الولد أباه في النظم
الملكية ، و لا حرج في ذلك ، لأن
الدستور واضح و صريح في ذلك ، و
هذا ما حصل في المغرب و الأردن و
البحرين مثلاً . إلا في شامستان
فالنظام جمهوري ، و الدستور (الذي
وضعه حافظ أسد بنفسه عام 1973م و
سماه الدستور الدائم للبلاد )
كان على مقاسه تماماً ، و نص
صراحة أن عمر الرئيس يجب ألا يقل
عن أربعين عاماًُ (وهو عمر حافظ
عندما انقض على السلطة) ، و لكن
الفكر التسلطي الشمولي لا تقف
أمامه قوانين و أنظمة و لو كان
هو من سنها ،و لا تعجزه الحيلة
في تدبير أمره ، فهو السلطات
الثلاث و غايتها و هدفها و
منطلقها و مستقرها ،و هو أدرى
بمصلحة البلاد و العباد ، و ما
على الشعب ( الذي لا يعرف مصلحته
) إلا السمع و الطاعة ، و التصفيق
و التمجيد ، فلما توفي حافظ
الأسد في العاشر من حزيران 2000م ،
و أضطر أخيراً لمغادرة الكرسي
الذي جلس عليه ثلاثين عاماً ، و
نزل في حفرة داخل التراب مثلما
ينزل بقية خلق الله ، و ما أن ردم
فوق جثته التراب ، حتى حدث ما
كان متوقعاً من مثل هكذا نظام ،
و جرت مسرحية هزلية مكشوفة و
مفضوحة ، في أروقة البرلمان ،
حيث اجتمع ممثلوا النظام ( لا
الشعب ) و جوقة النفاق و الكذب ،
و عدلوا الدستور في عشر دقائق (
بلمسة سحرية )، و فصلّوه على
مقاس ولده الدكتور بشار، و أصبح
عمر الرئيس أربعاً و ثلاثين
عاماً ( هو عمر الأسد الابن )
عوضاً عن أربعين ( عمر الأسد
الأب ) ، و تم التصويت عليه
بالإجماع ( كالعادة ) ، و عندما
تساءل أحد المجتمعين ( ببراءة
الأطفال ) عن مبررات التعديل من
الناحية القانونية، سمع ما يسره
من الرفيق عبد القادر قدورة (
ناظر الحضانة ) و رئيس مجلس أشعب
، و مع كل الذي حصل ، و مع عدم
مشروعية الرئيس الجديد ، تفاءل
الناس خيراً ، و حاولوا أن
يضغطوا على جراحهم النازفة ، و
آلامهم المزمنة ، فالرئيس
الجديد طبيب - أخصائي عيون - و
مثقف ( و جراح العيون أرفق و أشفق
و أدق و أرق الجراحين ) ، و له
اهتماماته العلمية و
المعلوماتية ، و درس في أوربا و
عاين التعددية و الديمقراطية
الغربية ، و كان صغيراً في نهاية
السبعينات و أوائل الثمانينات
عندما أرهب أباه و أعمامه و
أزلامهم الناس و العباد ، و
دمروا المدن و سفكوا الدماء و
كمّوا الأفواه ...
و لكن الذي حدث في
النظم الملكية كالبحرين و
المغرب بعد استلام الأبناء
السلطة من آبائهم لم يحدث في
شامستان ! ؛ فبينما أصدر ملك
البحرين الشاب عفواً عاماً عن
المساجين و سمح بعودة المنفيين
، و أبعد رجال الأمن و المخابرات
و المفسدين ، و فتح تحقيقاً
معهم ، و حاسب المتجاوزين منهم .
ذهب ملك المغرب محمد السادس
أبعد من ذلك ، فلم يكتفِ بما
فعله ملك البحرين ، بل أنشأ هيئة
لإغلاق ملف انتهاكات حقوق
الإنسان التي تعود إلى الفترة
بين عامي 1956م ( و هو عام استقلال
المغرب عن فرنسا ) و عام 1999 و هي
السنة التي تولى فيها محمد
السادس الحكم
بعد وفاة أبيه ، و ها هو يصدر
منذ أيام و بمناسبة عيد المولد
النبوي الشريف عفواً عن (879)
سجيناً ، منهم ثلاثون متشدداً
إسلامياً كانوا قد اعتقلوا على
خلفية تفجيرات الدار البيضاء
التي حدثت في عهده في مايو عام
2003م .
بينما لا تزال كل
الملفات الإنسانية ، و الجرائم
و الانتهاكات الحقوقية ، و
المجازر و السجون و المعتقلات و
ملفات المبعدين و المنفيين و
المفقودين و البدون ، في
أسدستان هي هي ،و ما زال
الأمنييون الذين أرهبوا الشعب و
نكلوا به هم السلطة و القانون ،
حتى رجال المخابرات الذين شابوا
و شاخوا و فقدت أجسادهم القدرة
على التعذيب و التنكيل ، رُقّوا
و رُفّعوا ، و أصبحوا نواب و
معاونين و مستشارين ، حتى لا
تضيع تلك الخبرات سدى ، و لا
يخسر جهودهم الجبارة الوطن و
المواطن ، و ما زال قانون
الطوارئ مسلطاً على رقاب
المواطنين منذ أكثر من أربعة
عقود ، و ما زال قانون (49) السيئ
الصيت الذي صنع في سوريا و لا
يوجد قانون يشابهه في أرض الله
الواسعة – ماركة مسجلة - و الذي
يحكم على فكر الإنسان و معتقده
بالإعدام سارياً ، بل جرى
تفعيله أخيراً عندما حكم بموجبه
على المهندس عبد الستار قطان
الذي قضى زهرة شبابه في سجون
الأسد الأب ( منذ أواسط
السبعينات و حتى أواسط
التسعينات ) و بعد أن تجاوز
الستين من العمر بالسجن اثنتي
عشر سنة، و ذنبه
( الذي لا يغتفر!؟ ) أنه وزع
بعض الإعانات المالية و
المساعدات الإنسانية على أهالي
بعض المعتقلين و المفقودين
الذين غيبهم النظام و أصبحوا
بلا معيل .
و السؤال الذي يطرح
نفسه ، و الذي نوجهه لأبواق
النظام الناعقة ، و مؤتمرات
الشام الداعمة ( من محامين عرب و
أحزاب عربية ... ) ، و مخيلات
المخدوعين الحالمة ، لماذا لم
يحدث في أسدتان ما حدث في غيرها
؟.
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|