ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين 17/04/2006


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

إصدارات

 

 

    ـ مجتمع الشريعة

 

 

   ـ أبحاث    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


 

التعذيب في سجن تدمر - 6

الدكتور خالد الاحمد*

مقـدمـة :

يقول فلاسفة التاريخ : الهدف من دراسة التاريخ ليس اجترار الآلام ، ونبش الماضي بروائحه المتعفنة واسترجاع الصـور المبكيـة ، وإنما هو أخذ العبرة من الماضي ، الماضي الذي كلف سوريا عشرات الآلاف من خيرة أبنائها ، كي لايضيع الماضي سـدى ، فنستفيد منه في الحاضر ، وعندما أتحدث عن المذابح الجماعية التي مارسها نظام حافظ الأسـد في سوريا ، أو أنواع التعذيب وأساليبه الوحشية ؛ لا أقصد منها سوى أن نعتبر من الماضي المؤلم ، وأن نتخذ كافة الاجراءات والاحتياطات كي لايعود هذا الماضي ، ونجتث الأسباب المؤدية لهذا الماضي المروع من جذورها ، وأهم تلك الجذور الحكم الفردي الديكتاتوري ، الذي استخدم الجيش ( جيش الشعب ) كما قالوا عنه ، استخدم جيش الشعب ليقتل الشعب بدلاً من أن يحميه. وينهب أموالـه وأثاث منازلـه بدلاً من المحافظة عليها .

ويتابع الأخ محمد سليم حماد عرض مشاهد من التعذيب التي صبت عليه وعلى إخوانه في سجن تدمـر ، في دولة النظام الاستبدادي الأسدي ، هذا النظام الذي قتل قرابة مائة ألف مواطن من خيرة المواطنين ، وسجن عشرات الألوف ، وشرد خارج سوريا مئات الألوف أيضاً ...

التـفقـد  

وبلغت الساعة حوالي الثانية بعد الظهر . ووجدنا الباب يفتح من جديد . وانتفض الأخ جمال فقدم الصف . ودخل الرقيب وصاح فيه :

صفهم خمسة خمسة للتفقد .

ولم يكن علينا إلا التنفيذ . لكن الفزع الذي غمرنا جميعاً جعلنا نتدافع مضطربين كل منا يتحاشى أن يأتي إلى طرف الشرطي ، فلما طال الأمر ولم ينتظم الصف دخل الشرطة علينا وأوسعونا ضرباً وجلداً ، وجمال رحمه الله يجهد في أن يساعدنا على الإنتظام في الصف قدر الإمكان . وتم الأمر أخيراً ، وعَدُّونا فكان العدد فوق المائة . وصار واضحاً لدينا الآن أن هناك جزءاً أساسياً في البرنامج اليومي يسمى التفقد ، الجلد والضرب والشتائم لوازم ضرورية لا بد وأن تلازمه .. مثلما هي لوازم لا تنفصل عن أي مناسبة أخرى تتاح للشرطة فيها أن يسفكوا دماءنا !

وخرج الشرطة .. وعدنا كل إلى ذاته مطرق الرأس مشتت الفؤاد . لا يكاد واحدنا يسمع أدنى حركة حول المهجع أو فوقه حتى ينتفض كالمحموم ! وكلما ود أحدنا أن يرفع الطرف لينظر حوله تذكر ما حل بالأخ صالح فيرتد إليه طرفه وهو حسير !

وهكذا مضى اليوم .. ومرت أيام أخر ، لا يجرؤ أحدنا أن يكلم جاره الذي ينام معه على عازل واحد ، أو يهمس حرفاً لأقرب الناس إليه . والبرنامج اليومي يتكرر كاللازمة : نستيقظ في السادسة ، فنضب العوازل والبطانيات ونقبع فوقها صامتين واجمين .. ولا يلبث أن يفتح الباب فننتفض جميعاً ونقف في حالة الإستعداد . وتخرج مجموعة منا لاستلام حفنة الطعام التي يعتبرونها الفطور مجازاً . فنزدردها بلا شهية ، أو نجمعها في ركن الحمام من غير أن يقربها أحد . وربما مرت على الواحد منا الوجبة والوجبتان والخمس وهو لا يمس من الطعام من قلة الشهية شيئاً . ولكم اضطر رئيس المهجع إلى رمي الطعام في الحمام لأن أحداً لم يأكله خشية أن يكتشف الشرطة ذلك فننال ما نحن بغنى عنه !

فإذا انتهى الفطور من غير مشاكل حان وقت التفقد . فنستعد ونأخذ حسبنا الله لساعة تعذيب لازم . وينال كل منا نصيبه المقدور .. ونعود إلى جلستنا مترقبين حذرين . ولا يلبث الشرطة أن ينادوا علينا للتنفس هذه المرة . فنخرج إلى الساحة مطرقي الرؤوس مغمضي العيون .. يمسك واحدنا أخاه الذي أمامه من وسطه ويتبعه كالأعمى .. لتتلقانا الكبلات والعصي فتقودنا بالإكراه إلى حيث يشاؤون . وترانا كقطيع مسعور نجري حول الساحة والكرابيج والكبلات والضربات تلاحقنا أنى اتجهنا . فإذا زلَّ أحدنا أو وقع تعثر به البقية وتكوم فوقه المتساقطون .. فتزداد فرصة الشرطة لزيادة الضرب ومضاعفة العذاب . ويعلو الصياح وأصوات الإستغاثة ، فتعلو عليها عبارات الكفر والشتائم البذيئة .

فإذا انتهى وقت التنفس وقادتنا الكَبْلات صوب المهجع من جديد ، تكون على الباب ملحمة أخرى دامية . فمائة ونيف من هؤلاء البؤساء ليست أمامهم إلا فتحة هذا الباب لينفذوا منها . عيونهم مغمضة فلا يستطيعون مشاهدة موطىء أقدامهم ، والسياط والهراوات تلاحقهم من كل حدب وصوب . فتنحشر الأكتاف والرؤوس ، ويسقط من يسقط تحت الأقدام ، ويشج البعض بعارضة الباب الحديدية . فلا تنتهي حفلة التنفس تلك إلا وقد دمي من بيننا أكثر ممن سلم ، وأصيب أضعاف من نجا .

طعــام ومنــام !  

وهكذا كنا نعود إلى المهجع لنلعق جراحنا بصمت ، ونتأوه تخنقنا الحسرات والعبرات .. ويحين موعد الغداء بعد حين .. ولا يلبث أن يأتي من ثم العشاء . ونحصي إذا قدرنا نصيبنا الذي نلناه على مدار اليوم من الطعام فلا نراه يكفي لأن يسد رمق طفل صغير : صمونتان صغيرتان جافتان للوجبات الثلاث . ورشفة شاي على الفطور مع بضع حبات زيتون أو لحسة مربى أو حلاوة لا تملؤ ملعقة واحدة . ومرق أحمر للغداء لا يكاد يكفي لكي يبلل الصمونة التي فتتناها فيه . وبعض حبات الحمص المسلوق أو أجزاء من البطاطس المسلوقة للعشاء .. وحسب ! ولربما استُبْدِلَ البيض بالبطاطس مرات ، أو شوربة العدس بالحمص المسلوق . لكن قلة الكمية وسوء النوعية كانت تثير فينا الشعور بالجوع أكثر من أن تلبي حاجتنا إلى الشبع ! فنصيبنا من البيض إذا حضر لم يكن يتجاوز البيضة الواحدة لستة أشخاص . ومن الأرز ملعقة صغيرة واحدة للشخص . ومن اللحم أقل من رأس العصفور في المناسبات . وإذا أحضروا دجاجاً كان نصيب المهجع كله خمس أو ست دجاجات مقابل أكثر من مائة فم ! حتى أننا بتنا نعتبر الطعام نوعاً إضافياً من العذاب ليس إلا ! وصار اعتيادياً بيننا أن نأكل قشر البرتقال وقشر البيض والبطيخ ولا نرمي من الفضلات في القمامة شيئاً . ولكن النهار لا بد وأن ينتهي ، ويحل موعد النوم في السادسة ، لكنه النوم الذي يحرم على صاحبه أن يتنعم بالنوم فيه ! فالضوء داخل المهجع لا يطفؤ ليل نهار ، والشرطة على السطح يراقبوننا باستمرار . ولو نمى إلى سمعهم صوت همس أو حس حركة من بيننا علّموا صاحبها على الفور فكان نصيبه من العذاب في الصباح ما لا يسر !

ولقد كانت الصلاة وسط هذا الظرف نوعاً من التهلكة بالطبع ، ولكم أخرج الشرطة رئيس المهجع وانهالوا عليه ضرباً يسألونه عمن يصلي عنده من المساجين ليدلهم عليه . ولذلك كنا نصلي إيماء من أول يوم . كل بسرّه وحده من غير ركوع أو سجود . لكن النعمة التي وجدناها في ذلك المهجع كانت في الحمام . فلم يكن من رحمة الله للحمام شراقة تكشفه ، ولذلك كنا نتوضأ آمنين ، وننسحب إلى بطانياتنا فنستلقي تحتها ونصلي موميين بسكون وهدوء . [ أذكر مرة أخرى بأن النظام السوري يمنع السجناء من الصلاة ، ويمنع العسكريين من الصلاة في الجيش ..وقد لايصدق القارئ غير السوري هذا الكلام ، لكنه الحقيقة المـرة ... التي لايعرفهاأعضاء مؤتمر الأحزاب العربية الذين مجدوا بشار الأسد ، والنظام السوري ، ولايعرفها المحامون العرب الذين أعجبتهم فنادق خمس نجوم في دمشق ، وأثاثـها .... فراحوا يكيلون المديـح للنظام السفاح ( نظام المافيا الأسدي ] ..

إلى الـــحلاق !

وانقضى قرابة أسبوع على هذه الحال .. وبدأنا نألف الوضع الجديد ونتأقلم معه . وأخذنا نجرؤ على النظر إلى بعضنا البعض والهمس فيما بيننا ولو بكليمات . وقام الأخ جمال رئيس المهجع فقسمنا إلى مجموعات صغيرة للسخرة ، فساعدنا ذلك على الخروج من حالة الوجوم تلك ، وبدأنا نتعرف على الأفراد المحيطين بنا من غير أن نجانب أقصى أسباب الحذر . لكننا وبعد أن ظننا أن البرنامج استقر على هذه الحال فوجئنا بهم ينادوننا للخروج من المهجع مرة واحدة في غير موعد التنفس . ووجدناهم يسوقوننا مغمضي العيون إلى زاوية من زوايا الباحة تلاحقنا الجلدات والسياط كالعادة . وهناك صفونا على الجدار وجعلوا يخرجوننا خمسة وراء خمسة في صف واحد ، لنجد في انتظارنا ثلاثة من السجناء العسكريين الذين يسمون "البلدية" بلغة السجن يقومون بدور الحلاقين . وغالباً ما يتم اختيار أولئك من أبناء طائفة النظام الذين يقضون عقوبة ما في سجن تدمر ، فلا يقلون حقداً ومكراً عن بقية السجانين من الشرطة العسكرية . وعندما يصل واحدنا إلى أول الحلاقين يأتيه الإيعاز بلهجة الأمر :

وراء دُرْ .

فيستدير .

ارفع راسك .

فيرفعه من غير أن يفتح عينيه . ويمر الحلاق بالفرشاة والصابون على الذقن فيطريها . ويرسله إلى الحلاق الآخر فيفعل ما فعل الأول . وينتهزها "البلدية" فرصة لينفثوا فينا أحقادهم الطائفية . فشتيمة من هنا ، ودس للفرشاة في الفم أو الأنف من هناك ، ولطمة أو صفعة هنالك .. وأما المسبات فكلها بالمجان وعلى الحساب ! وعندما نصل للحلاق الثالث على الشاكلة نفسها ، يمر بالموس على الذقن فيحلقها ، والشرطة من ورائنا يصيحون فيه :

اذبحه هذا الكلب .. أو اسلخه هالعرص .

فيلبي الحلاق الطلب بكل امتنان ، فيضيف على الوجه جرحاً أو أكثر . ولا يبخل بمزيد من الصفعات والمضايقات . فإذا انتهى انتقل الصف إلى حلاقة الشعر ، فيجثو السجين على ركبتيه ، يداه وراء ظهره وعيناه مغمضتان . وأؤكد هنا أنني طوال السنوات التي أمضيتها في تدمر لم أشاهد وجه الشخص الذي كان يحلق لي قط إلا خلسة .. وكنت دائماً مثل الآخرين مغمض العينين مطبق الجفنين ! وعندما تنتهي حلاقة الرأس واللحية والشاربين التي تستخدم بها ماكينة يدوية بالطبع ربما انتزعت الشعر بدل أن تحلقه ، أو أصابت الوجنات فأدمتها لتبهج الحلاق .. عندما تنتهي يأتي الإيعاز من الشرطة خلفنا :

منبطحاً .

فننبطح .. ويتقدم واحد منهم أو أكثر ليقدموا لنا ما كنا نسميه "نعيماً" الحلاقة ! فيبدأوا بالقفز فوق ظهورنا ، أو يوسعونها جلداً وركلاً ، ولا ينسوا نصيبنا وافراً من الشتائم والمسبات . فإذا انتهوا وقت أن يحلو لهم الإنتهاء ، عدنا محطمين إلى الجدار من غير أن يكف الشرطة عن جلدنا وضربنا وركلنا ونحن ننتظر أن ينتهي المهجع كله من الحلاقة .

ولقد كانت مفاجأة لنا أول مرة حينما عدنا بعد هذه المعمعة إلى المهجع وأقفلوا علينا الباب ، فوجدنا أنفسنا بالقرعة تلتمع رؤوسنا كثمر البطيخ .. فلم نتمالك أنفسنا من الضحك رغم الألم . ثم وجدنا أنفسنا بعد ذلك لا نألف إلا هذا الشكل فينا ، ولا نعرف إلا هذا النوع من الوجوه !

حمــام الـــدم !

وانتهت الحلاقة ، لكن البرنامج لم ينته . ولم يلبث مناديهم أن نادى فينا :

الكل برة بالشورت ولا .

فظننا أنها حفلة تعذيب جديدة . وبدأنا نراجع أنفسنا علنا ندرك ما حدث . ووجدتنا نساق مغمضي الأعين عاريي الصدور مكشوفي الظهور حفاة نتبع واحداً من الشرطة كالنعاج لا صول لنا ولا قوة . تتناوشنا السياط من كل اتجاه ، وتهوي علينا الصفعات والركلات في كل خطوة . وعندما صادفنا "البلدية" الذين كانوا يوزعون الطعام على إحدى الباحات في طريقنا وجدناهم يهجمون علينا فكأننا الطريدة العاجزة أمام كلاب الصيد ! وانتهت بنا المسيرة بعد قرابة الربع ساعة إلى الباحة الأولى ليعلموننا هناك أنها ساعة الحمام أتت .

وعندما يذكر الحمام عادة يتبادر إلى الذهن الماء الدافىء أول ما يتبادر .. والصابون والطيب والإسترخاء .. لكن الأمر لم يطل بنا لنعرف الحقيقة . ووجدناهم يقسموننا قسمين : أبقوا الأول في الباحة وأمروهم أن يجلسوا جاثياً ، رأسهم إلى الأرض وظهرهم العاري مكشوف للشرطة ، وساقوني مع القسم الثاني إلى الحمام .

ودلفنا أكثر من خمسين شخصاً على عدد من المقصورات لايتجاوز عدد أصابع اليدين ، وجاءنا الإيعاز بالدخول تحت الدشات ، فكنا ستة أو سبعة أو ربما أكثر كلنا تحت دش واحد ! وانصب علينا الماء البارد مرة واحدة ، لكن صوت السياط التي أخذت تجلد ظهور إخواننا الذين في الخارج أنستنا وكأنها طلقات الرصاص أحاسيس التجمد ، وأبدلت قشعريرة البرد التي سرت فينا رجفة الخوف من المصير المرتقب ! وجعل بعض أفراد الشرطة يدخلون وراءنا فينعمون علينا بلسعات الكرابيج مقدماً . وأمرنا بعضهم أن نخلع سراويلنا ونكشف عوراتنا زيادة لنا في الإهانة والعذاب .. ولم نجد بداً إلا أن ننفذ .. والزبانية بين ضاحك وساخر وشاتم .

وانتهى الأمر خلال خمس دقائق .. وخرجنا تتقاطر منا المياه لتتلقانا السياط التي سبق ونالت من ظهور الإخوة قبلنا . وزادنا ألماً وعذاباً أن عبرنا فوق مجاري الحمام المفتوحة فتعثر فيها من تعثر وارتطم بحوافها القاسية من كان له نصيب لم ينته من البلاء .. فلما انتهت الدفعة الثانية خلنا أن دهراً بأكمله انقضى .. ومضينا تدفعنا السياط والصفعات إلى المهجع مغمضي العينين كما أتينا . وتدافعنا على الباب ككل مرة ، فتعثر من تعثر .. وشج من شج .. وارتض من ارتض . وكان الحمام حقيقة الأمر حمام دم بكل معنى الكلمة .

وارتمينا بعدما أغلق الباب علينا كالقتلى على الأرض . ما منا إلا من يئن أو يتأوه .. وليس فينا إلا جريح أو معنّى . لكن المأساة لم تكن انتهت بعد .. والمهزلة كانت تنتظر فصلها المضحك للختام . فما هي إلا دقائق حتى فُتِحَ الباب ، ودخل الشرطة فأبلغوا رئيس المهجع أن علينا أن ندفع أجرة الحلاقة والحمام .. فوراً وفي الحال !

وأتى الأخ ينتظر منا الجواب .. وليس لدينا من جواب إلا التسليم في كل مرة .. وتقدم من سَلِمَتْ نقوده في الأمانات فدفع .. واندفعنا بعدما هدأ الحال إلى حمام مهجعنا لنغسل ما كسى أجسادنا من دم وشعر وتراب ، فما كدنا ننتهي حتى كان اليوم قد انتهى .. وانتهت فينا كل ذرة من طاقة وجَلَد .. فارتمينا على بطانياتنا الرثة نلتمس ساعة نوم هادئ قبل أن تدهمنا مفاجأة جديدة .. أو تحل علينا من القوم نازلة لم تكن في الحسبان !

ولقد استمر نظام الحمام البئيس هذا مرة كل أسبوع حتي عام 1984 حيث صدرت الأوامر وقتها بأن يتم الإستحمام في حمام المهجع نفسه . وأما الحلاقة فاستمرت حتى عام 1986 حيث انتشر مرض اليرقان - كما سيأتي بأذن الله - فكان ذلك البلاء سبباً في رفع هذا البلاء !

من رحــمات الله

ومرت أيام أخر .. نزداد اقتراباً من بعضنا وائتلافاً بمقدار ما يزداد الهم وتتنامى المعاناة . ومع تقادم الخبرة بدأنا ندرك كيف تمضي الأمور حولنا .. وتعلمنا أن الشرطة يتعاقبون على حراسة سطح المهجع . فصرنا ننتهز فرصة انشغالهم بالإستلام والتسليم لنتحدث بحرية أكثر أو نتحرك من غير خوف . ومع اعتياد المكان والحال بدأنا ومن نعمة الله علينا نسمع صوت الأذان الآتي من مدينة تدمر المجاورة . فلم يكن من أنيس لنا مثله أبداً . وكأنما أحس الزبانية بأثر هذه النعمة علينا ، فكان بعضهم إذا ارتفع الأذان علانا وأطل علينا من الشراقة وجعل يتبع كل تكبيرة بكلمة الكفر .. وكل تهليلة بمسبة فاحشة واستهزاء بالله تعالى . وكنا علاوة على الأذان تبلغنا حتى أصوات السيارات العابرة على الطريق في بعض الأحيان .. فنغتم من ذلك ونتحسر .. لا نتخيل كيف تسير الحياة طبيعية على بعد خطوات منا ونحن في هذا الجحيم لا يدري منهم بحالنا أحد !

ولقد كان من رحمات الله بنا أن أحضروا لنا في بدايات الأسبوع الثاني ممرضاً مجنداً طاف على المهاجع وسجل احتياجاتنا الضرورية من العلاجات . ووجدناه يحضر لنا بالفعل بعض ما طلبنا .. وكان أكثر ماكنا نريد مراهم الجروح والإلتهابات .. فمن بين هذا الجمع من البؤساء كان ثمة من هو في أمس الحاجة لها قبل أن يصل هذا المكان .. مثلما كانت الحاجة إلى العلاجات متجددة على الدوام لدوام الضرب الوحشي والتعذيب والتشنيع .

جــروح وقــروح

ولقد كان من أكثر سكان مهجعنا سوءاً في حالته الصحية الأخ نديم منصور الذي حملته أنا وجمال عيار ساعة وصولنا كما ذكرت . وكان المسكين قد أصيب أثناء اعتقاله برصاصة في ساقه وأخرى في يده . وكان ثمة أخ آخر هو هيثم ملا عثمان مصاباً بالرصاص أيضاً في رجله . وهو أحد الإخوة السبعة عشر الذين هربوا من سجن كفر سوسة ثم اعتقل من جديد وأصيب أثناء ذلك . وتنقل الأخَوَان من فرع مخابرات إلى آخر حتى وصلوا تدمر من غير أن ينالا من العلاج شيء ! وكان أمراً عجيباً أن ظلا على قيد الحياة فعلاً . فالرصاصات التي مزقت اللحم وهشمت العظام استقرت هناك . وتقطعت كما يبدو أعصاب المنطقة فلم تعد الأعضاء تتحرك . ونمت العظام من جديد والتأمت بقدرة الله ولكن على غير وضعها السوي . ولذلك فلم يكن نديم أو هيثم يقدران على السير مطلقاً . وكنا نتعهدهما بأنفسنا في الحركة والسكنة . ولم يكن أمامنا ساعة التنفس أو الحمام إلا أن نتركهما في المهجع بعد الإستئذان من الرقيب . فإذا تلاءم ورفض حسب المزاج كان علينا أن نحملهما حملاً . وظل المسكينان في معاناة دائمة حتى كان إعدامهما عام 1984 .

كذلك لم تكن معاناة الأخ حسين عثمان نتيجة تعذيبه بالكرسي الألماني أخف كما ذكرت . وكان رحمه الله دائم الإستلقاء منعدم الراحة . ولم يسلم برغم ذلك من التعذيب كما سيأتي .. حتى اختاره الله إليه ونال شرف الشهادة عام 1982 .

وأما بقية الإخوة ، ورغم أنهم كانوا في حالة أفضل أو إصابات أخف ، إلا أن آلامهم لم تكن لتكف ، وجروح بعضهم التي خلفتها حفلات التعذيب الأولى في فروع المخابرات أو تلك التي زادت عليها في حفل الإستقبال بتدمر لم تشف إلا بعد شهور . وزاد علينا القمل الذي حملناه في أجسامنا من فروع المخابرات إلى تدمر ، فانتشر في المهجع وتفشى بين الجميع .. ولجأنا إلى نظام التفلية ( وهو البحث عن حشرة القمل بين الشعر أو في ثنايا الثياب وقتلها باليد ) من جديد كإجراء وحيد نخفف منه من شر هذا البلاء !

كعبــة الزبــانيـة !

وبدأت نفوسنا تعتاد هذه الحياة القاسية يوماً بعد يوم . وجعلنا في حسابنا أمر التفقد وما يصاحبه من عذاب الإستفتاح كل يوم .. والتنفس والحلاقة والحمام . وجعل الإخوة الشباب الأصحاء يحرصون أن يقفوا من ناحية الشرطة ليفتدوا إخوانهم المسنين والضعفاء ويحمونهم من أن تطالهم سطوة الظالمين . وكان معنا عدد من المعتقلين ممن جاوزوا الستين والخامسة والستين ، أذكر منهم شريف البعث والحاج محمد غرير وكلاهما من ادلب ، وابراهيم طوبل وعمر حيدر الذي توفي رحمه الله بالسكتة القلبية عام 1986 والرجلان من المعرة . كذلك كان معنا الحاج أحمد البربور من أريحا . وكان الزبانية يحرصون على تعذيب هؤلاء الرجال أكثر ويظنونهم لكبر سنهم ولإصابة بعضهم بالصلع الطبيعي أنهم من قيادات الإخوان ! فكنا نجنبهم التعرض للعذاب قدر الإمكان ، ونأخذ عنهم دورهم في سخرة الطعام . فينال الأخ المتطوع الجلدات واللطمات ويضحي بما قد يكون حياته ذاتها فداء لإخوانه .

وكان الأخ جمال رئيس المهجع قد قسمنا إلى مجموعات كما ذكرت ، فكان ذلك سبباً في ضبط المهجع وتقليل المشاكل مع الشرطة من جهة ، وعاملاً في تآلفنا وتعارفنا من جهة أخرى . حتى بتنا كأبناء أسرة واحدة يواسي بعضنا بعضاً ، ويساند أقوانا الضعيف فينا .. ويدخر كل منا وسعه للتخفيف عن أخيه . ولا أزال أذكر ممن كان في مجموعتي الأولى الأخ أبا رشيد حسين عثمان . وأخاً آخر من حمص اسمه أمجد طيارة . والأخوين ابراهيم أحمدو ومحمد طاهر مصطفى من أريحا .

وإذا كانت الأحداث المرة وتعاقب السنين قد أنستني من الأسماء والحوادث الكثير فإنه مما لا ينسى عن أحداث تلك الأيام وذكريات هؤلاء الإخوة المسنين يوم أن عرف واحد من الشرطة اسمه شحادة الذي ينتمي إلى طائفة النظام أيضاً أن الحاج أحمد غرير قد ذهب لحج بيت الله في يوم ما ، فمد الزنيم قدمه أمام الناس وقال لهم هذه هي الكعبة . وأمر الرجل أن يقبل حذاءه مثلما قبّل الكعبة هناك . ولم يكن للمسكين إلا أن يطيع خشية ما لا تحمد عقباه . ...

همجيــة التعــذيب

وانقضى أسبوع آخر .. ودخلنا أسبوعنا الثالث على تلك الحال . وفوجئنا ضحى أحد الأيام بدفعة جديدة من السجناء تجاوز الستين تدخل إلى المهجع قادمين من حلب هذه المرة . يحضرني الآن من أسمائهم الإخوة رياض الشاوي وحسين ألطُنْجي وكلاهما من حلب . الأول مهندس مدني والثاني طالب ثانوي . وأحمد عنعن طالب هندسة مدنية ، وأحمد حمزة وهذان من من مدينة الباب . وكان الأخير مدرساً . فوصل عددنا الكلي قرابة المائة والثمانين .. وأصبحت حصة كل منا في النوم شبراً وأربع أصابع وحسب ! فكان الواحد منا إذا أراد التحرك في الليل أيقظ بحركته أكثر أهل المهجع . ولو أحس الشرطي فوقنا بأدنى حركة بيننا في الليل خاصة كان ذلك كافياً ليعلّم من يشاء ويخرجه في الصباح التالي لينال نصيبه من القتل والتعذيب .

لكن وصول الإخوة الجدد كان نوعاً من التسرية المؤقتة لنا ، مثلما كان وجودنا من قبلهم عوناً لهم على تفهم الوضع وتعلم الأنظمة الجائرة تجنباً لأي مزيد من العذاب . وسرعان ما انضم القادمون إلى مجموعات السخرة والطعام .. وجعلنا نسمع منهم أخبار الحياة خارج هذه الأسوار .. ويسمعون منا ما وجدناه منذ وصولنا هنا .. فشغلتنا الأحاديث ونشطتنا .. ووثقت بيننا العرى وألفت بيننا . وكشفت لنا في نفس الوقت أوجهاً أخرى من جرائم النظام وممارسات مخابراته الوحشية ، وأطلعتنا على أساليب من التعذيب يمارسها أولئك الزبانية عافانا الله نحن منها وابتلى بها إخواننا في حلب . رأيت بنفسي نموذجين منها كان الأول هو الأخ حسين ألطنجي الذي استخداموا معه في فرع المخابرات بحلب الضرب المباشر بالبلطة على مشط قدمه لإجباره على الإعتراف السريع ، فكادت أن تقطعها ، وظل رحمه الله يتألم منها ولا يستطيع المشي عليها حتى إعدامه بعد عدة شهور . واستخدموا مع الآخر أسلوب الحرق بالمدفأة الكهربائية ، والتي بقيت آثارها محفورة على ظهره شاهداً على همجية هؤلاء الزبانية .. وكان طالباً اسمه مأمون كردي من حماة أعدم هو الآخر بعد مدة رحمه الله .

 

هذه صور من الحريـة التي نادى بها حزب البعث العربي الاشتراكي ، والتي أراد أن يعممها في الوطن العربي كله ، فسلط الله قيادته القطرية على قيادته القومية ، وأنهت دور حزب البعث منذ منتصف السبعينات أو قبل ذلك بقليل ... وبقي النظام الاستبدادي يحكم سوريا بالحديد والنار باسم حزب البعث ... يجمع وينهب خيرات سوريا ولبنان ، ويسود صفحة حزب البعث في العالم أجمع ... فأين أنتم أيها البعثيون الشرفاء الذين تغارون على حرمـة حزب البعث العربي الاشتراكي !!!؟ أين أنتم !!! ماذا تنتظرون !! التحقوا بالمعارضة السورية الداخلية والخارجية ، لنقف جميعاً من أجل إعادة الوحدة الحقيقة والحرية الصحيحة والاشتراكية العادلة لسوريا المغتصبة من قبل هذه ( المافيا ) ...

*كاتب سوري في المنفى

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ