اكذب..
ثم اكذب.. ثم اكذب ....
وسيُعْرَف
عندها أنك مسئول سوري
الطاهر
إبراهيم*
كل
إنسان سوي لا يتملكه جنون
العظمة، يهمه أن يتحرى الصدق
عندما يتكلم، حتى لا يوصف بأنه
كذاب. ويتأكد الأمر أكثر، إذا
كان الإنسان يتقلد مسئولية
عامة، لأنه يعلم أن ما يقوله
مراقب من السامعين والمشاهدين.
وما يتكلم به لا تنحصر جريرته
عليه وحده، بل سيتعدى ذلك إلى
قطاع كبير من الأفراد يتكلم
باسمهم هذا المسئول. وسيحكم
الناس من خلال ما تكلم به ليس
على المسئول وحده بل على
الحكومة التي يمثلها.
وقد
درج رؤساء الجمهورية في
الحكومات التي تحترم نفسها على
اختيار مسئولي الدائرة الأولى
من بين الذين
يُعرف عنهم احترام عقول
الناس عندما يتكلمون في الشأن
العام، أي ممن يتصفون
بالمصداقية. وعندما يكون الوزير
أو المسئول الكبير ممن يلقي
الكلام على عواهنه، ليهرب من
توصيف الواقع كما هو، فإنه لا
يؤتمن على مصالح مواطنيه قبل أن
يكون أهلا لكي يمثلهم أمام
المسئولين الأجانب ورجال
الصحافة.
في
سورية، ومنذ استولى حزب البعث
على السلطة بانقلاب آذار 1963، لا
تجري الأمور بالوضوح الذي يجعل
المراقب السياسي يصف السياسة
السورية بالمصداقية. فالنظام
يقول شيئا ويفعل خلافه تماما.
فقد كانت الحرية من الأهداف
المعلنة لحزب البعث. وقبل إذاعة
الشعار من الإذاعة ووصوله إلى
آذان المواطنين، كان قد فرض
العمل بقانون الطوارئ الذي
اغتال الحريات التي كانت سائدة
في سورية. أما الوحدة فقد بقيت
شعارا على الورق، إلا إذا كان
تسلطا على قطر آخر، كما هو الحال
مع لبنان قبل إرغام النظام على
سحب الجيش السوري من لبنان في 26
نيسان 2005 .وأما
الاشتراكية فقد طبقت ولكن
بشكل عجيب. فقد أرغم المواطن
الميسور أن يتنازل عن القسم
الأعظم من أمواله ليحولها أعضاء
الأسرة الحاكمة وكبار النافذين
في حزب البعث إلى مليارات
دولارية سائلة كدسها سرّاق
المال العام والخاص في حساباتهم
السرية في بنوك سويسرا.
وهروبا
من الاستطراد الذي يستهوي معظم
الكتاب، ويأخذ بأقلامهم بعيدا
عن الموضوع، نعيد إلى أذهان
المشاهدين مشهدَ المجسمٌ
الضخمٌ لوزير الخارجية السورية
"وليد معلم" الذي ملأ شاشةَ
قناة "الجزيرة" القطرية
مساء الأربعاء 19 نيسان الجاري
في برنامج "بلا حدود". وقد
كان المشاهد يشعر أن "أحمد
منصور"، المستضيف والضيف في
آن واحد، لم ينطلق على سجيته
،كما هو الحال في لقاءاته مع
ضيوفه الآخرين، حيث كان هجوميا
لا يدع ضيفه يلتقط أنفاسه من
سؤال محرج حتى يفاجئه في سؤال
أكثر إحراجا.
لا
يلام "أحمد منصور" على
حِلْمِه ،غير المعتاد، الذي ظهر
في المقابلة. فهو أجرى اللقاء في
"دمشق" حظيرة الأسد، التي
لطالما اعتُرِضَ فيها سبيل
الضيوف وهم يغادرونها، أثناء
صعودهم الطائرة، ليستذْكِر
معهم ضباطُ أمن المطار أحاديثهم
التي جاءت عفو الخاطر في أثناء
زياراتهم، ولتذكيرهم بأنهم في
دمشق وليسوا في سويسرا. ولعل "منصور"
كان يجري المقابلة وفي ذهنه
كلمات "المعلّم" التي خاطب
فيها "رفيق الحريري" ،رحمه
الله، وهو يكلمه عبر الهاتف،
قبل اغتياله بعدة أشهر قائلا له:
"لقد رأيتَ كيف حصرناك في
الزاوية" مذكرا الحريري كيف
أُرغِم على الموافقة على
التمديد للرئيس اللبناني "إميل
لحود".
وإذا
كان "وليد المعلم"، لم يخرج
في حديثه عن الأجوبة المفبركة
التي كانت محور أحاديث الوزراء
السوريين في مقابلاتهم مع وسائل
الإعلام، إلا أنه حاول هنا مع
أحمد منصور،أن يَظْهَر كأستاذ
في السياسة الخارجية السورية،
وأن يمسح صورة سلفه "فاروق
الشرع"، من ذاكرة المشاهد،
الذي لم يكن ،على أية حال، يختزن
في ذاكرته أي أثر طيب للشرع.
وإذا
كانت القضية الوحيدة التي يحلو
للنظام السوري أن يبرزها كموقف
يظنه مبدئيا وهو العلاقة مع
أمريكا. ومع أن هذا الموقف لا
خيار لسورية فيه، لأن واشنطن،
لا دمشق، هي التي ترفض يد النظام
الممدودة لها فقد حاول الوزير
إشعار محدثه "منصور" أنهم
كانوا ،في سورية، يعلمون أن
واشنطن ستغرق في أوحال العراق،
مع أن هذه الحقيقة كان يعرفها كل
الناس. غير أن ما لم يقله "المعلم"
أن عنترياته هذه لا تلغي حقيقة
رضوخ النظام لإملاءات واشنطن،
حيث أرسل جنوده لحماية حدود
العراق من دخول المقاومين عبرها.
ومن
جهة أخرى حاول "المعلم" أن
يظهر "أستاذيته" عندما سئل
عن تأخير استقبال دمشق لرئيس
الوزراء اللبناني بقوله: "على
"السنيورة" أن يكون مفوضا
من كامل أعضاء مجلس الوزراء
اللبناني". هذا التعليل
المراوغ مليء بالمغالطات التي
تفتقر إلى المصداقية والقدرة
على الإقناع. فعدا عن أن رئيس
الوزراء يحتاج لتفويض أكثرية
أعضاء الحكومة فقط، فإن
السنيورة يحظى بموافقة أكثرية
الثلثين. كما أنه حصل ،عند تشكيل
الحكومة، على ترشيح، ثم موافقة
جميع أعضاء المجلس النيابي، وهو
ما لم يحصل عليه رئيس وزراء
لبناني قبله، ما يجعل كلام "المعلم"
فقاعة صابون لا تترك أثرا بعد
انقشاعها. كما أن "المعلم"
لم يقدم أي دليلٍ على ادعائه
هذا، ما يجعل كلامه لا يتمتع
بمصداقية تجعله مقبولا ليتم
تأجيل الزيارة التي لا شك أن
القطْرين ،سورية ولبنان، بأمس
الحاجة للتعجيل بها، لحلحلة
الكم الهائل من المسائل الشائكة
والعالقة التي تلقي بظلالها
القاتمة على واقع وحياة الشعبين
الشقيقين.
ولا
نستطيع هنا، في استعراضنا
لأجوبة وزير خارجية سورية على
أسئلة "أحمد منصور" عن عدم
احترام حقوق الإنسان من قبل
أجهزة الأمن في سورية، وعن وجود
معارضة في سورية حيث رد الوزير
بأن الأمر لا يعدو كونهم أفرادا
قلائل، بأنه كذبة كبرى، لأنه
ليس في الكذب الصادر عن الوزير
كبير وصغير. ولكن يمكن أن نضيف
إلى صفة الكذب في هذا الموضوع،
بأن هناك استخفافا بعقل المحدث
وعقول المشاهدين، بعد أن أصبح
انتهاك حقوق الإنسان في سورية
يملأ تقارير حقوق الإنسان في
العالم.
كما
غدت ترتيب سورية بين الحكومات
التي تنتهك حقوق الإنسان بين
الخمسة الأوائل في استعمال
وسائل التعذيب مع المعتقلين،
وأصبحت المعارضة السورية
متجذرة في الشارع السوري. ولولا
الاستبداد والقمع الشديد
والاعتقال لأعضاء المعارضة
والسكوت الدولي المريب عن ذلك،
لكان النظام السوري قد تفكك منذ
زمن بعيد.
يتساءل
المواطن ،وهو يراقب الحال
السوري في صمت، عن قدرة النظام
السوري العجيبة على معرفة
الأعوان الأكثر جرأة على افتراء
الكذب على المواطن وعلى
الأجانب، ومن ثم يختارهم وزراء
لملء شواغر الحكومات
المتعاقبة، وعما إذا كانت هناك
علامة مميزة في وجوه هؤلاء
تميزهم عن غيرهم من الأقل جرأة
على الكذب؟ أم أن القضية لا تعدو
كونها عدوى تصيب كل من يندرج في
سلك النظام؟ أي كما يقول المثل:
يللي مثلنا تعالوا عندنا.
*كاتب
سوري
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|