بطاقة
معاق
بقلم
معتصم دالاتي
بعد أن علمت بالميزات التي أصبح
من حق المعاقين الحصول عليها
بمجرد اقتنائهم بطاقة معاق،
توجهت إلى الجهة الموكل
إليها أمر المعاقين .
و قفت أمام طاولة الموظف
المختص، وبصوت خفيض يحمل ذاك
الأدب الذي اعتدت عليه لدى
مراجعتي للدوائر الرسمية،
قلت : مرحباً، ودون أن يرفع
الموظف رأسه المنهمك في حل
الكلمات المتقاطعة في الجريدة
التي أمامه،
قال: نعم.
أعدت على مسامعه كلمة مرحباً و
أضفت عليها كلمة أستاذ، وأيضاً
دون أن يرفع رأسه قال : ماذا تريد?
قلت : أريد الحصول على بطاقة
معاق، رفع
رأسه لبضعة ثوان ثم أعاده إلى
موضعه و قال:
لاتقبل هذه المعاملة إلا من يد
صاحب العلاقة بالذات، تساءلت في
نفسي فيما إذا كان هذا الموظف
يعاني من إعاقة في رأسه المنخفض
و الذي لايرتفع إلا لثوان
معدودة ثم يعود إلى موضعه ! ثم
قلت في نفسي أيضاً: مالي و ماله،
لينشغل كل واحد بإعاقته : أستاذ
أنا صاحب العلاقة، وأريد الحصول
على بطاقة معاق،
نظر إلي ملياً من فوق لتحت،
وأعاد الكرة معكوسة،
فعلمت أن انخفاض رأسه ليست
إعاقة ربما تكون هواية أو عادة
أو طبع أو تطبيع، وبعد أن تملاني
جيداً، قال
: ما هي إعاقتك ?قلت : إعاقة
داخلية، أعرفها وحدي،
ولايدركها إلا المتفحص اللبيب،
عندئذ قام من وراء طاولته و قال :
تعال معي، فطلبك عند السيد
المدير، وعند الوصول إلى باب
السيد المدير طرق الباب بلطف ثم
انتظر وقتاً ليس بالقصير إلى أن
سمع كلمة ادخل، فدفعني أمامه و
أوصى الآذن الواقف بالباب وهو
يشير إلي بألا يسمح لي بالخروج
إلا بإذن من السيد المدير .
وقف الموظف ذو الرأس المنخفض
أمام طاولة المدير، وبعد أن
أعاد رأسه إلى مكانه المنخفض،
قال: أستاذ هذا واحد نصاب ومحتال
يريد أن يضحك على الحكومة و يحصل
على بطاقة معاق، ثم تبرع بإجراء
تحقيق معي أمام مديره وهو
يمطرني بالأسئلة بتهكم و
استفزاز، قال: هل رجلك اليمنى
مقطوعة ? قلت : لا، إذن يدك
اليسرى? قلت :لا
قال: رجلك اليسرى مشلولة ? قلت:
لا، قال: ولايدك الأخرى? قلت: لا،
قال: تعاني من انقراص فقرات في
عمودك الفقري? قلت: لا،
قال: هل أنت أخرس ? قلت
: لا، أعمى? لا، أطرش ? لا، قلبك
على اليمين بدل اليسار? قلت: لا،
مصاب بداء الصرع ? قلت: لا
نظر إلي المدير و سأل: ما هي
إعاقتك? فتبرع الموظف بالرد و قد
رفع رأسه نصف رفعة ثم أجاب عني:
أستاذ يقول إن إعاقته داخلية،
لايعرفها إلا هو،
ولايدركها إلا المتفحص
اللبيب،أستاذ: ألم أقل لك إنه
نصاب، محتال? أستاذ كان ينوي أن
يقدم لي رشوة لألبي طلبه،
معاذ الله سيدي أن أبيع
ضميري بمبلغ تافه،
أستاذ : هل أطلب له الشرطة ?
أم الجنائية أم شرطة المكافحة
أم المخابرات ?
تجاهل المدير كلام الموظف، ثم
نظر إلي باستخفاف، وزين وجهه
بالابتسامة التي نحملها
للمجانين، ثم
قال: من المؤكد أنك تعاني من
حالة نفسية و اضطرابات في
الرأس،وتسيطر عليك بعض
التهيؤات و الأوهام . وتستحق
بطاقة معاق، لكن عليك أن تشرح
للجنة المختصة ما هي إعاقتك،
قلت في نفسي هذا الرجل يظنني
معتوهاً، ويريد أن يتسلى مع بعض
المقربين من الموظفين ويرفه عن
نفسه بالتفرج على مجنون ليريح
نفسه من وعثاء العمل، قلت له :
اسمع يا أستاذ أنت تظن أني
مجنون، لكن أريد أن تعرف إنني
فنان تشكيلي و شاعر و ناقد، و
أكتب في الصحافة، وعقلي بيوزن
بلد، ورئيس التحرير يعمل ألف
حساب قبل أن يوافق على نشر أية
مقالة أقدمها له تحسباً للوقوع
في المحظور، ولامانع عندي
بالاجتماع بمن تريد و الإجابة
على أسئلته، وأرجو أن يكون رئيس
الشؤون القانونية ومعاونوه بين
الحضور.
أعتقد أنه قد تأكدت لديه اللوثة
في عقلي لأنه أجاب بسخرية و
استخفاف :
معاذ الله يا أستاذ وطلب مني
التفضل بالجلوس،
ثم رفع سماعة الهاتف و أملى
على عامل المقسم بعض الأسماء
للاجتماع في مكتبه .
بعد أن اكتمل النصاب أشار
المدير إلي و قال : هذا المواطن
يود الحصول على بطاقة
معاق،ويقول إن إعاقته داخلية
لايعرفها إلا هو و لايدركها إلا
المتفحص اللبيب،
وقد جمعتكم لمناقشته في
الموضوع و إبداء الرأي، ثم غمز
بعينيه بالطريقة التي نتغامز
فيها على المهابيل، بعد ذلك طلب
مني أن أشرح إعاقتي للأساتذة
الحاضرين .
قلت مخاطباً الذين يتفرجون علي
:
منذ مطلع شبابي وأنا أحمل
أفكاراً اشتراكية تقدمية وأعيش
في بلد يرفع منذ عشرات السنين
شعار"لاحياة في هذا الوطن إلا
للتقدم و الاشتراكية "، لست
أملك بيتاً، وأجرة أي بيت تفوق
راتبي الوظيفي، وأسعار البيوت
تبدأ من المليوني ليرة سورية و
تصل إلى عشرات الملايين،
و بعضها مئات الملايين،
و عليكم إن كنتم تجهلون ذلك
أن تتفحصوا النشرات الإعلانية
الوسيلة و الدليل و تحديداً
العقارية إضافة إلى أن راتبي
الذي أتقاضاه من خزينة الدولة
لا يكفي ثمن الطعام،
في حين أن شريحة من
المواطنين تصل دخولهم الشهرية
إلى عشرات ومئات الملايين وأعيش
في ظل قوانين استنثائية تحمي
هؤلاء و تمنعني و أمثالي من
الكلام، إنني أعيش في بلد يتربص
به العدو من الخارج، وينخره
أبناؤه الفاسدون في الداخل،
الحكومة تأخذ منا بالطنجرة،
وتعطينا بالقطارة، أعيش في بلد
لا يشبهني و مشكلتي أن بلدي هذا
مسكون ومزروع بداخلي حتى النخاع
ولا يحتمل عقلي مجرد التفكير أن
أغادره لأي سبب كان في حين أن
أعداداً كبيرة من أبنائه يعيشون
فيه بأجسادهم، أما عقولهم و
ثرواتهم المنهوبة من شرايين
الوطن فهي في الخارج، الإعلام
أيها الأساتذة يستخف بعقلي و
المسؤولون يكذبون علي،
يبيعونني شعارات و يقبضون
ثمنها من قوتي وقوت عيالي،
المطلوب أن لا أرى إلا ما
يريدون، ولا أسمع إلا ما
يرتؤون، ولا أتكلم إلا بما
يحبون، بالمحصلة أنا أعمى،
أطرش، أخرس،
أخاف من المرض لأنني لا أملك
تأميناً صحياً،
أخاف من التشرد لأنني لا
أملك تأميناً اجتماعياً،أخاف
من المحاكم لأن القضاء ليس
دائماً مع أصحاب الحق من
الفقراء، لا أفكر باللجوء إلى
الشرطة لعدم ثقتي بأن جميعهم
يعملون بالشعار المتداول (الشرطة
في خدمة الشعب)، أرتعد من أجهزة
الأمن بسب عقدة الخوف المزمنة
منهم، الفساد يعم كل شيء،
الحكومة تحتال على المواطن،
والمواطن يسرق الحكومة و
المسؤول يستبيح المال العام،
والمواطنون يسرقون بعضهم
بعضاً كل حسب قدرته و شطارته،
الأثرياء يزدادون ثراءً و
الفقراء يزدادون فقراً،
الكفاءات العلمية و الفنية
و التقنية تهرب إلى الخارج و
الوطن أحوج ما يكون إليها،
المرض يشتد على البلد، و الله لو
أن روحي تعيد إليه بعضاً من
عافيته لقدمتها له بلا تردد،
ولو أن دمائي تبعث فيه شيئاً من
الحياة لقدمت شراييني كاملة
لكنني عاجز عن فعل أي شيء،
والعجز أيها السادة إعاقة،
ولذا فأنا أطلب إليكم
الموافقة على إعطائي بطاقة
معاق، وهذا طلبي ملصق عليه
طوابع الاستدعاء القانونية .
التفت المدير إلى رئيس الشؤون
القانونية و سأله هامساً:
مارأيك ? رد عليه رئيس الشؤون
القانونية : من الناحية النظرية
فإن طلبه قانوني ومحق.
صفن المدير قليلاً و بدا ساهماً
وهو يفكر بالموضوع ثم مال على
أذن موظف القانون وقال له : أفكر
بأن أتقدم بطلب إعاقة مادام
الأمر قانونياً، فأنا لدي
الكثير من الإعاقات التي ذكرها
هذا الذي كنا نحسبه مجنوناً،
ويمكنك أنت أن تقدم نفس الطلب و
سأرفعه مع الموافقة.
ظهر الأسى على وجه رئيس شعبة
القانون، وقال
: يا أستاذ لايمكن أن نفتح هذا
الباب، قال
المدير : لماذا? أجابه القانوني :
سيدي هل تخمن عدد الطلبات التي
سنتلقاها ? ولو تمت الموافقة على
تلك الطلبات، أستاذ لن يبقى في
البلد من لايحمل بطاقة معاق، فعلق
على هذا الكلام نائب المدير
الذي كان يسترق السمع : أستاذ
حينئذ يمكن أن تحل هذه البطاقة
بدلاً من الهوية الشخصية، وتصبح
بطاقة معاق هي الهوية الرسمية
للأفراد
تغيرت ملامح المدير و بان الغضب
على وجهه ثم صرخ بي : انقلع بره
ولك نصاب، محتال، خاين، عميل .
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|