تصنيف
الآخر في خانة الأعداء ...
نهج
بعثي بامتياز
الطاهر
إبراهيم*
يتمنى
المواطن العربي أن يصل الحال
بين الأنظمة العربية وشعوبها
إلى نصف ما وصلت إليه في الدول
الديموقراطية الغربية بحيث يتم
تداول السلطة عبر صناديق
الاقتراع الشفافة، ومن خلال
انتخابات حرة ونزيهة.
وإذا
كان احتكار السلطة هو الحالة
العامة في الدول العربية، فإن
التباين في ذلك بين دولة وأخرى
ليس معدوما، وإن كان التفرد في
الحكم هو الصفة الغالبة، لا
يكاد يشذ عنها دولة أودولتان في
مغرب الوطن العربي ومشرقه. وهذا
الافتراق عن القاعدة العامة لا
يصل إلى ديموقراطية كاملة، لا
يأتيها الاستبداد من بين يديها
ولا من خلفها.
على أن
الوضع في سورية لم تبلغه أية
دولة عربية أخرى نهجت نهج
الاستبداد. وإذا كانت معظم
الدول العربية قننت لاحتكار
السلطة في قوانين استثنائية
ومحاكم أمن دولة، فقد جعل حزب
البعث احتكاره للسلطة في صلب
الدستور، وعمل على عزل الشعب
السوري بأكمله، عند ما نص في
المادة الثامنة من الدستور على
أن: " حزب البعث قائد للدولة
والمجتمع". ما يعني أنه حرم
نظريا ومارس عمليا وصول أي
مواطن غير بعثي إلى مناصب
الدولة السيادية مستغنيا عن
طاقات كل المواطنين إلا من
انتسب إلى حزب البعث.
ويعجب
المرء من هذا الاختراق الدستوري
الذي يكاد لم يسبق في نظام شمولي
آخر، حيث أن مواد الدستور يراعى
فيها العمومية والابتعاد عن
الفئوية والإقليمية والمذهبية.
وحتى في الاتحاد السوفياتي
والاتحاد اليوغسلافي فقد كان
الدستور أقل تضييقا، عندما نص
على حق الدول المكونة للاتحادين
بالانفصال من خلال استفتاء
شعبي، وهذا ما حصل.
وإذا
كانت الأنظمة التي تحتكر السلطة
في معظم الحكومات الأحادية،
عادة ما تحاول كسر عزلتها
بالاقتراب من التنظيمات
المعارضة العاملة على الساحة،
فإن ذلك لم يحدث من قبل نظام حزب
البعث، ليستأثر بكامل السلطة
لنفسه. ولا يعتبر تجمع أحزاب
الجبهة الوطنية التقدمية نوعا
من التعددية، لأنها أحزاب
هامشية تقتصر في كثير منها على
أعضاء القيادة في الحزب، وربما
لا يضم الحزب إلا الرئيس وزوجته
وأولاده.
وأمام
هذا الواقع الشاذ الغريب في
سورية، فقد بادرت أحزاب
المعارضة إلى تصحيح ما رأته
نوعا من الانتحار الوطني، فمدت
يدها للنظام، لكن ذلك كان يصطدم
دائما بإصرار قيادة النظام على
أن يتم الأمر من خلال الانضواء
في تجمع أحزاب الجبهة الوطنية
الهزيل ،ما يعني أن النظام يرفض
أي تصحيح للوضع الحالي الشاذ.
ولقد
حاولت جماعة الإخوان المسلمين
،كبرى فصائل المعارضة السورية،
أكثر من مرة،أن تنهي حالة
الصراع مع النظام على مدى ربع
قرن. ومع أن النظام بادر أو
استجاب في كل مرة
لتلك المحاولات، وكانت
المفاوضات تقطع شوطا كبيرا، إلا
أن وفد النظام كان يغادر المكان
من دون إبداء الأسباب. وكان
التفسير المنطقي أن النظام لم
يكن جادا في مفاوضاته مع
الإخوان، بل كان يرغب في زرع
بزور الانشقاق في صفوف الإخوان
لأنه نادرا ما كان هناك إجماع في
صفوف الإخوان على إجراء
المفاوضات.
ولو
افترضنا جدلا أن النظام يزعم أن
له تجربة مع قيادات الإخوان
المسلمين، ولا يريد أن يكرر أية
محاولة جديدة معهم على مبدأ طي
صفحة الماضي، فمابال أسر
الإخوان وأطفالهم الذين ولدوا
في المنفى؟ فقد كانت الأجهزة
الأمنية ترفض تطبيع حالات هؤلاء
الأبناء إلاعن طريق "البوابة
الأمنية". ما جعل الأكثرية
الساحقة من أولاد المنفيين
وأسرهم ترفض النزول إلى سورية
بهذا الأسلوب هروبا من مراجعة
الأجهزة الأمنية عند كل عودة
إلى /أوخروج من سورية. بل إن
الكثيرين كانوا يُبَلّغون من
قبل القنصليات بأنه لا مكان لهم
في سورية. ومن نزل من دون "تسوية
أوضاعه" كان مصيره الاعتقال.
بل إن بعض من سوى وضعه "أمنيا"
أعيد اعتقاله ونكد عيشه وعيش
أهله في سورية وفي المنفى.
هذا
الأسلوب التعسفي لم يشمل
الإخوان المسلمين وحدهم، بل
تعداهم إلى فصائل المعارضة
الأخرى. ولم يكن التعامل معها
بأفضل مما كان عليه الأمر مع
الإخوان، مايعني أن الجميع
كانوا يصنفون عند النظام السوري
في "خانة الأعداء"، "وما
في أحد أحسن من أحد".
وقد
يستغرب متسائل عما حدا بنا أن
نزعم أن النظام يصنف المعارضين
في خانة الأعداء؟ أو ليس في
التسمية غلو في الوصف يتجاوز
الواقع؟ ومع أن الجواب على
السؤال بسؤال آخر ممالا يحبذه
القارئ أو المراقب، فإننا نسأله
ماذا يسمى هذه المعاملة السيئة
التي يُعامَل بها المواطنون
السوريون جميعا في داخل الوطن
ومن كان منهم في الخارج؟
يعتقل
المواطن، ويضرب بالسياط ويجلد
ظهره بالكرباج ويصعق
بالكهرباء، ويُنال منه مالا
يُنال من الفلسطيني المعتقل في
سجون إسرائيل، هذا إذا عرفنا
مكان اعتقاله وبقي على قيد
الحياة . وقد يكون سببُ الاعتقال
مجردَ اشتباه، أو كلمة قالها
يتأفف بها من غلاء المعيشة.
والويل كل الويل لمن غمز بحاجبه
عند ذكر اسم الرئيس القائد،
وربما كون أصابته "لوقة"،
فيتحرك حاجبه حركة لا إرادية،
وعندها فإن "النمل الأبيض"
لن يعرف مكانه. وإذا ضُبِطَ
أحدُهم متلبسا بجريمة توزيع
مساعدات على أسر المعتقلين، فيا
ويله ويا سواد ليله.
أما من
أدى فريضة الحج أو العمرة. وقابل
أحدَ معارفه هناك، وعرف منه
المنفيُّ بعضَ ما تقاسيه
والدته، أو زوجته التي حُصرت في
سورية فلم تستطع أن تلحق
بزوجها، وقد تأخذ الحاج
الأريحية فيحمل معه بعض المال.
وإذا شعر الزبانية بالأمر،
فعندئذ وقعت الواقعة، فيرعد
المحقق ويبرق، ويرغي ويزبد،
ويُؤتى بالزوجة، وتعرى من
ثيابها، فينهارُ هذا "الأريحي"،
ويعترف بأنه قابل في الحج الشيخ
مصطفى السباعي وسيد قطب والشيخ
حسن البنا، وربما ،لكنه غير
متأكد، قابل الخَضِر عليه
السلام في "حجر إسماعيل".
نحن لا
نفتري على أجهزة أمن النظام
السوري، فقد رأيت شابا جامعيا
في سجن "السريان" التابع
للمخابرات العسكرية في حلب عام
1979، يدور على المعتقلين يسألهم
واحدا واحدا، لعل بعضهم يعرف
أسماء يشتبه بأن أصحابها من
الإخوان المسلمين، حتى يعترف
بها أمام المحقق، لعله يخفف عنه
ساعة من العذاب، فما يصيبه تنهد
منه الجبال.
"أحمد
فيصل الشهابي"، طالب علم
شرعي، ومهنته نجار عربي، يعمل
بها من بيته. أما في الصيف فكان
يحفّظ الأطفال القرآن الكريم في
جامع "عمر بن عبد العزيز".
اتهم بأنه آوى في بيته "حسني
عابو". اعتقلته أجهزة أمن
الدولة في حلب في صيف عام 1979،
وأذاقوه صنوف العذاب ما هو
معروف وما لا يعرفه حتى الجن
الأزرق. ولا يعلم أحد إلا الله
ما قاله تحت التعذيب، وكم من
الأولياء والصالحين نظّّمهم
"حسني عابو" في كتائب "الطليعة
المقاتلة". لكن ما هو معروف
على الحقيقة، أن الزبانية وضعوا
منفاخا في فتحة الشرج، ونفخوا
حتى تمزقت أمعاؤه. ولم تشفع له
قرابته من اللواء "حكمت
الشهابي" رئيس الأركان
الأسبق، مع أنه كان ابنَ عمِّه
اللزم، "خي البي".
أما
"جهاد حبو حبيب" فقد كانا
فنانا رساما خطاطا، صاحب ذوق
رفيع، اعتقل رهينة عن أخيه عام
1979. صُب عليه العذاب صبا، حتى
اختلط عقله. فساعة تراه في كمال
عقله يرسم ويخط بقلمه الآيات
والحكم. وفجأة تعلو جبينه سحابة
الكآبة، فيهيج حتى يجتمع عليه
رهطٌ ممن معه في القاووش، وربما
ربطوا يديه ورجليه حتى يهدأ.
يأتيك
أحد (الوطنيين الأحرار) فيسألك:
كيف تزعم أن نظام حزب البعث
يصنفُ الآخرَ في خانة العدو؟
وعندها قد يفيض بك الكيل مما
يخرج الإنسانَ عن طوره فتقول:
معك حق، فقد جانبتُ التقويم. لأن
تُصنيفَ البعثيين للمواطن
السوري في خانة العدو أهونُ
عنده ألف مرة مما وجده هذا
المواطن من زبانية نظام حكم حزب
البعث، والعدو ،على كل حال، لا
يفعل بعدوه ما فعلته أجهزة أمن
النظام بحق المواطن السوري. ومن
ذاق عرف.
يبقى
أن نقول أن الفترة التي مرت فيها
سورية منذ استيلاء حزب البعث
على السلطة عام 1963 ،كانت فترة
عصيبة وشاذة. ولا أبالغ إذا قلت
أن التشويه أصاب كل نواحي
الحياة ،سياسيا واجتماعيا
واقتصاديا، وأنه ربما كان من
الأفضل، بعد خلاص البلاد
والعباد من حكم حزب البعث، أن
تطوى هذه الصفحة من تاريخ سورية...
وإلى الأبد. لأن الإنسان الحر
يود لو أن الأوقات التي مرت في
حياته، وقد عمل فيها أعمالا
سيئة، كانت كأنها لم تكن من عمره.
*كاتب
سوري
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|