صباح
ياسمين شامي
د.
هشـام الشـامي
أيقظتني زوجتي
باكراً هذا الصباح بصوت هامس
هادئ لا يوحي بأن لديها طلبات و
أوامر كثيرة و مستعجلة تحتاج
لتنفيذ فوري لا يحتمل التأخير،
و عندما رأيت ابتسامتها الفاترة
و فنجان القهوة بالحليب في يدها
، تجرأت و سألتها : ما الأمر الذي
دعاك لإيقاظي قبل دوامي بأكثر
من ساعة . أجابتني بصوت رقيق
هامس : اشتهيت أن أحتسي القهوة
برفقتك ، و دعتني لتناولها قرب
البحرة في وسط بيتنا الدمشقي
القديم . و عندما رأيت النافورة
وسط البحرة قد عادت لتنثر الماء
في الهواء من جديد ، و رأيت
الورد الجوري و القرنفل يطفو و
يسبح فوق مياه البحرة بعد غياب
طويل ، عدت بذاكرتي أكثر من
عقدين إلى الوراء ، فأنا لم أجلس
مثل هذه الجلسة العاطفية مع
زوجتي منذ زمن بعيد .
الله
.. ما أجمل عبق الياسمين الشامي ،
عندما يعانق عبير الفل و شذى
الريحان ، تلك الياسمينة التي
غرستها والدتي – يرحمها الله –
امتشقت جدار بيتنا و طلت على
الممر الضيق خارج البيت لتصبّح
على كل أهل الحي الوادع بصفاء
بياض زهرها و طيب فوحه ، و بينما
كنت ارتشف فنجان الصباح مع
زوجتي و انفض الغبار عن
ذكرياتنا الجميلة ، سمعت صوتاً
رخيماً ينادي ( حليب .. حليب ) ،
تنهدت طويلاً ، و توجهت إلى
زوجتي بالكلام : الله يا أم نور ،
هل تذكرين هذا الصوت ، أنه صوت
بائع الحليب أبو صياح ، الذي كان
يأتي كل صباح على بغلته البيضاء
حاملاً لنا الحليب مع الأمل من
الغوطة الخيرة ، كنت أحسب أنني
نسيت هذا الصوت الذي كان يحثني
منذ طفولتي أن أدع كتابي و أركض
لأمي في المطبخ و آخذ منها وعاء
يملؤه أبو صياح لنا كل يوم .
و بعد أن تبادلنا
أطراف الحديث ، و استحضرنا تلك
الذكريات البعيدة ، سألتها ( هذه
المرة أنا من أسأل ) عن طلبات
المنزل ، و ودعتني و هي تدعو لي
بالتوفيق و الرزق و أن يحميني
الله من الحكام و الظلام و أولاد
الحرام ، و خرجت قاصداً عملي بكل
نشاط و تفاؤل .
كان لا بد لي أن
أعبر ذلك الطريق الضيق المرصوف
بالحجر الأسود المتناسق ، و
الذي لا يتسع لأكثر من شخصين
بجانب بعضهما ، و ما إن يلتقي مع
طريق الحي الفرعي الآخر حتى
يتسع شيئاً فشيئاً ، لأصل إلى
السوق ، حيث الضجيج الذي لا
ينقطع منذ بواكير الصباح و حتى
بعد منتصف الليل .
و أول ما لفت نظري
عدم وجود ازدحام أمام الفرن ،
حتى ظننت أنه مغلق ، لقد كان
هناك شخصان أو ثلاثة فقط و قد
اصطفوا بنظام وراء بعضهم ،
بينما كان البائع يناولهم الخبز
بشكل حضاري غير مألوف ، و قد
نضده في أكياس نظيفة ( و كأنه خبز
سياحي ) ، و هنا تذكرت المظاهرة
التي كنت أراها كل يوم أمام هذا
الفرن ، و الصراخ و السباب الذي
كنت اسمعه هناك ، و قد انتشر حول
الفرن السعداء (القبضايات)
الذين فازوا بالوصول إلى نافذة
البيع الضيقة و استطاعوا سحب
رصيدهم من الخبز من تلك الكوة )
من فم الأسد ) ، بعد أن حرقوا
أيديهم بحرارة الخبز الخارج من
الفرن ، و تمزقت بعض الأرغفة في
أطراف الفوهة الضيقة ، و أسرعوا
إلى حافة الجدار ليمدوا كيساً
من الخيش ، أو جريدة ( و هذه أهم
فائدة للصحف اليومية ) لينشروا
عليها الخبز، و هم ينظروا بشفقة
و خيلاء لأولئك المساكين الذين
سيحاربون كثيراً حتى يحصلوا على
ما حصلوا هم عليه .
هذا الهدوء الغريب
أمام الفرن أرهبني ، لأن محل أبو
تحسين الجزار بجوار الفرن ، و
كنت أستطيع وسط الضجيج أن أفلت
منه بعض الأحايين دون أن
يُسمعني ذلك الموشح اليومي ، عن
المبلغ الذي صار بذمتي له ، و
يفتح دفتره الدسم ليريني بأم
عيني صفحة ديوني ،لأشرح له في كل
مرة أنني لا أستطيع أن أعطيه
شيئاً حتى أستلم مرتبي ( الهزيل )
من الوظيفة أول الشهر، لكنه هذه
المرة لا بد سيلحظني ، و هو الذي
يراقب الرائح و الغادي بعينيه
الواسعتين ، و بسبب الهدوء سمعت
صوتاً رخيماً ينطلق من محل أبو
تحسين ،إنه صوت الشيخ عبد
الباسط يتلو من سورة الرحمن ،
فينشر جواً من الخشوع و الهدوء و
الأمان في المكان ، و عندما رآني
أبو تحسين أنظر إليه بطرف خجول
ابتسم و قال : الله يصبحك بأنوار
النبي يا جار . فرفعت رأسي و أجبت
: الله يصبحك بالنور و العافية
أبو تحسين .
لم يكن أبو تحسين هو
العقبة الوحيدة التي يجب أن
اجتازها كلما رحت أو غدوت إلى
بيتي ، فها هو محل أبو حمدي
البقال قد اقترب ، و لكن هذه
العقبة تبقى أسهل من سابقتها
لعدة أسباب ، أولها- لأن أبا
حمدي غالباً ما يكون منشغلاً في
داخل المحل بجلب طلبات الزبائن
مما يسمح لي باجتيازها محافظاً
على كرامتي و دون خسائر تذكر، و
ثانيها- لأن واجهة المحل لم تكن
كلها زجاج كواجهة محل أبو تحسين
، بل اكتفى بنافذة و كوة صغيرتين
في وسط واجهة المحل ، النافذة
لمناولة الزبون ، والكوة ينظر
من خلالها و هو يحاور زبونه ، و
لكن هاتين الكوتين لم تمنعا صوت
فيروز الملائكي أن يعبق من
المحل و يعانق مسامعي و هي تغني
من كلمات سعيد عقل و ألحان
الرحباني:
شام يا ذا السيف لم
يغبِ **
يا كلام المجد في الكتـبِ
قبلك التاريخ في
ظلمـةٍ **
بعدك استولى على الشهبِ
وثالثها- و هو الأهم
أن أبا حمدي لا يملك سكاكين و
سواطير أبي تحسين .
و ما إن اجتزت محل
أبي حمدي بسلام حتى رفعت رأسي
عالياً ، فمحل أبو جمال
الحلواني الذي يصنع المحلاية و
البوظة (بالدق اليدوي) لا يخيفني
، و لست مستديناً منه و الحمد
لله ، لا لشيء ، إلا لأنه قد وضع
لافته كبيرة في صدر المحل كتب
عليها : الدين ممنوع و الرزق على
الله .
لقد كانت أصوات
التفاؤل الثرة تنطلق بصوت
المنشد أبي الجود من محل أبي
جمال ، فتعانق مشاش الفؤاد ،
سارعت بالسلام عليه ، فرد
السلام و أتبعه بقوله : تفضل أبو
النور . فأجبته شكراً و تابعت
مسيري إلى عملي .
كان هذا الطريق
الوحيد الذي يجب أن اجتازه لأصل
إلى الشارع ، قبل أن استقل سيارة
الخدمة إلى مكان عملي ، يوقظ و
يحرك كل حواسي ، فمن رائحة الخبز
المنعشة ، إلى رائحة كباب أبي
تحسين و رائحة الحمص و الفول و
الفلافل و الشاورما و البيض
المقلي بالسمن البلدي التي تجعل
حاسة الشم عندي في أوج نشاطها و
غددي اللعابية كنبع بردى .
و من منظر لحوم
الضأن و قد زينها أبو تحسين
بالبقدونس و الكزبرة و النعناع
، إلى محلات الفواكه و قد تزينت
بخيرات الشام من كل لون و شكل و
طعم ، و ما أكثر فاكهة الشام و
خضراواتها التي تغذي العين و
الروح بأشكالها و ألوانها قبل
أن تغذي الذوق و الجسد .
وسط هذا الزحام ، و
في زاوية ملتقى طريق الحي
بالشارع ، نصب أبو سومر منشراًَ
كمنشر الغسيل ، علق عليه الصحف
اليومية ، و لعدم وجود إقبال على
تلك الصحف المملة التي تكرر
نفسها كل يوم ، كان أبو سومر
يعرض صفحة الحوادث عوضاً عن عرض
الصفحة الأولى و مانشيتاتها
العريضة التي كانت على إيقاع
واحد ، من حيث استقبل الرفيق و
ودع الفريق ، و كان يرسم حول
المواضيع - التي يراها تلفت
الانتباه و تحث المواطنين على
الشراء - خطوطاً عريضة حمراء و
خضراء و صفراء ، فهنا خبر عن
سرقة محل مجوهرات ، و هناك خبر
عن جريمة قتل ضحيتها زوجة
القاتل مع عشيقها ، و خبر آخر عن
القبض على عصابة من الشباب
العاطلين عن العمل و التي تمارس
كافة الجرائم من اغتصاب و نهب و
دعارة و تشليح و تشبيح ، و خبر عن
موظف صغير سرق أكثر من خمسين
مليون ليرة من دائرته ..
و لكن هذا الأسلوب
المشوّق لم يكن يجذب الكثيرين و
يقنعهم بضرورة دفع عشرة ليرات
من أجل جريدة أبي سومر المملة
بعد أن يخصمها من حصة أهله و
أولاده .
و كان أهل الحي
جميعاً يعرفون أن أبا سومر هذا
لا يمكن أن يعيش مع عائلته من
بيع عشرين إلى ثلاثين جريدة في
اليوم ، ليس له منهم أكثر من
ثلاثين ليرة في أحسن الأحوال ، و
ما هو إلى موظف أمني لمراقبة
الداخل و الخارج من الحي ، و
إحصاء أنفاس البشر.
و لأننا نخاف من
المخابرات كنت أحاول ما استطعت
أن لا أرى أبا سومر ( فأنزع صباحي
) و لا يراني ( فينتزع صباحه ) .
لكنني هذا الصباح
رأيت ما يلفت النظر حقاً ، رأيت
جمهرة كبيرة من الناس قد تجمعت
حول أبي سمير ، حتى ظننت أن
المخبز قد انتقل إلى هناك ، و
لأول مرة ساقني فضولي لأستطلع
الأمر ، فرأيت جرائد أبي سمير قد
عُرضت بصفحاتها الأولى ، و
بمانشيتاتها العريضة ، و رأيت
أبا سمير منشغلاً بمناولة
زبائنه من تلك الجرائد المحلية
الرسمية التي لم تكن تستهوي
أحداً ، فتساءلت عن سر هذه
الصحوة الثقافية الوطنية عند
الجمهور ، و بدأت بقراءة عناوين
الصحف :
- السيد الرئيس يصدر
مرسوماً بإلغاء قانون الطوارئ .
- بعد أكثر من أربعة
عقود ، قانون الطوارئ في سوريا
باطل .
- الرئيس القائد
يصدر عفواً عاماً عن كل السجناء
السياسيين و سجناء الرأي .
- رئيس الجمهورية
يأمر بتبيض السجون من السياسيين
، و يصدر عفواً عن المطلوبين
خارج سوريا .
- تعطيل قانون
الطوارئ ، و دعوة المنفيين
للعودة إلى بلادهم بأمان .
- الرئيس الأسد يدعو
لمؤتمر وطني شامل لا يستثني أحد
.
- المؤتمر الوطني
سينعقد بداية الشهر القادم
برعاية الأسد ، و ستنبثق عنه
حكومة مؤقتة لمدة ستة أشهر ،
ستمهد لانتخابات رئاسية متعددة
و تحت إشراف دولي .
- السيد الرئيس يأمر
بتشكيل لجنة للكشف عن المفقودين
، و دراسة كافة التجاوزات و
التظلمات منذ تاريخ إعلان حالة
الطوارئ ، و يأمر بتعويض
المتضررين .
- السيد الرئيس
يُفعّل لجنة من أين لك هذا ؟
لمحاسبة الفاسدين ، و المعتدين
على الحق العام مهما علت رتبهم و
مناصبهم ، و يبدأ بآل بيته .
و بينما أنا مندهش
لما أقرأ ، لفني دوار شديد أخذني
عقوداً إلى الوراء ، و بدأ شريط
الذكريات يمر في خيالي كفيلم
سينمائي قديم . تذكرت أخي
أحمد الذي دخل السجن قبل أكثر من
ربع قرن عندما اعتقل من داخل
كليته ، و انقطعت أخباره منذ ذلك
التاريخ ، و لا أدري هل هو على
قيد الحياة ؟ أم أعدم مع الآلاف
الذين أعدموا في السجون ؟ .
و
تذكرت أخي الآخر عبد الرحمن
الذي سافر للاختصاص في تقويم
الأسنان في جامعات فرنسا ، و بعد
عشر سنوات من الاختصاص و العمل
هناك وحصوله على الجنسية و
الجواز الفرنسي انتقل للعمل في
مدينة أبو ظبي ، و لم أره منذ
ثلاثين سنة .
و تذكرت أخي حسن
الذي سافر إلى ألمانيا و حصل على
دكتوراه في الفيزياء النووية ،
و تزوج هناك من ألمانية ، و ما
زال يدرّس في جامعات ألمانيا ، و
لم يزر القطر إلى مرة واحدة في
منتصف عقد الثمانينيات ، عندما
تجرأ و حضر بعد وفاة الوالد الذي
أصيب باحتشاء قلبي من حزنه على
اعتقال أخي أحمد
و مات من عقابيل ذلك
الاحتشاء ، و عندما حضر حسن من
ألمانيا للتعزية بوالده ، أعتقل
من مطار دمشق ، و لولا جنسيته
الألمانية و جهود زوجته و
السفارة الألمانية لكان لحق
بأخيه أحمد إلى سجن تدمر ، لكنه
خرج بعد شهرين من السجن ليروي
لنا قصص و مآسي السجون في سوريا .
و تذكرت أختي
الوحيدة أسماء التي تعيش مع
زوجها و عائلتها في السعودية ،
ولم استطع رؤيتها منذ ما يقرب
العقدين ، و عندما تواعدت معها و
مع أخويَّ بأن نتقابل في الحج لم
يوافق الأمن على إصدار جواز سفر
لي ، رغم كل ما دفعت من رشوة و
قدمت من هدايا لرجال الأمن و
المسؤولين .
و تذكرت والدتي
التي ماتت و الحسرة تحرق فؤادها
، أن يجمعنا من جديد بيت العائلة
الذي أصبح في عهدتي لعدم وجود
أحد من العائلة معي داخل الوطن
الكليم ، و كانت توصيني دائماً
بالمحافظة عليه و عدم بيعه أو
التصرف به حتى يلم شملنا ثانية ،
و هي لا تدري أنني لا أستطيع
بيعه قانونياً إلى بموافقتهم
جميعاً و هم بين مفقودين و
منفيين .
و تذكرت المرات
العديدة التي اعتقلت بها ،
للسؤال عن أخوتي ، سواء عندما
كنت طالباً في كلية الهندسة ، أو
بعد تخرجي منها، و معاناتي في
الحصول على ورقة ( لا حكم عليه )
من الأمن لأتمكّن من الحصول على
الوظيفة ، و الرشوة التي دفعتها
لجارنا أبي سومر حتى حصلت على
تلك الورقة ، رغم أنني لم أحاكم
، و كانت أطول فترة حجزت بها في
السجن قرابة عام عندما أرسل لي
أخي حسن حوالة مالية من ألمانيا
كقرض ليساعدني على فتح مكتب
هندسي ، لأبدأ حياتي العملية
بعد تخرجي ، فحجزت المخابرات
المبلغ ، و حجزت بسببه قرابة
السنة في سجن كفرسوسة ، لأنني
أقبل المال من الإرهابيين و
العملاء !!.
و بينما كانت تلك
الذكريات تتدفق على مخيلتي كسيل
جارف ، سمعت صوت زوجتي يخترق
أذنيَّ و هي توكزني و تقول :
استيقظ أبو النور ، لقد تأخرت عن
عملك ، عليك أن تحضر لنا هذه
الطلبات قبل ذهابك للعمل ، ولدك
جائع و ليس لديه حليب ، ماذا
أصابك ؟ لماذا لا ترد ؟ ، إنني
أحاول إيقاظك منذ عشر دقائق .
و سمعت صوت طفلي
الصغير يبكي فيخترق صراخه عنان
السماء ، و أيقنت أنني كنت في
حلم جميل ، فرفعت رأسي و سندت
ظهري على ناصية السرير ، و قلت
بحسرة و تأوّه : يا الله ، حتى
الحلم أصبح حراماً في شامستان .
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|