تعذيب
النساء في السجون السورية – 8
في
سجن قطنا
إعداد
الدكتور خالد الاحمـد*
الشعب
كله متهم في سوريا ، رجاله
ونساؤه ، أطفاله وشيوخه ، كلهم
متهمون ، يجب أن يسحقوا ، وأن
تملأ بهم السجون والمعتقلات ،
ويذبحوا ويتسلى بهم الساديون ،
أزلام النظام الأسـدي ، الذين
نفخ فيهم أسـد الحقـد الطائفـي
، وسـخرهم لذبـح المواطنين
رجالاً ونسـاء ، من جميع
الفـئات ، والأعمـار والأجناس
...
قدم
لنـا الأخ محمد سليم حمـاد (
يحفظه الله ، وجعل ذلك في صفحات
أعماله الصالحة يوم القيامة ) ،
قدم لنا كتاب ( تدمر ، شاهد
ومشهود ) بين فيها صفحة من صفحات
التعذيب الذي
صبـه أزلام النظام الأسدي
على رجال سوريا الأحرار ، على
خيرة أبناء الشعب السوري .
وتـذكر
لنا هذه المـرة ( هبـة الدبـاغ )
يحفظها الله في كتابها ( خمس
دقائق فقط : تسع سنوات في سجون
الأسد ) ، هبـة الدباغ ، الوحيدة
التي بقيت من أسرتها الحموية ،
التي أبادوها بكاملها في عام
(1982) ، ونجت هي لأنها فس السجن ،
وشقيقها ( صفوان ) لأنه خارج
سوريا .... وقتل أزلام الأسد
حوالي ( عشرة ) من أفراد أسرتها ،
من الأب إلى الأم ، إلى الأطفال
الصغار ، والبنات الصغيرات ، في
مجزرة حماة الكبرى (1982) التي
عجـز المغول والتتار
والصليبيون والفرنسيون على أن
يفعلوا مثلها ... فلنسمع ماتقوله
هبـة الدبـاغ ( واسأل الله أن
يجعله في صحائف أعمالها يوم
القيامة ) ... فقد قدمت وثائق
نادرة وحقيقية ضـد نظام القتلة
الأسـدي ...
تقـول
هبـة الدبـاغ :
ســجن
قـطنـا ، الـموت البـطئ
أخذت
السيارة تنهب الأرض نهبا وتكاد
في كل انعطافة لها تلفظنا إلى
الخارج لولا أن تتلقانا القضبان
الصماء تارة وأجساد بعضنا البعض
المنهكة تارة أخرى . . وفيما جلس
اثنان من الحرس بيننا وبين حجرة
القيادة واثنان آخران بين القفص
الذي أغلق علينا بإحكام والباب
الخلفي مدججين كلهم بالسلاح ،
بقي أبو طلال في المقدمة بجوار
السائق وحده . كنا أنا وماجدة
وأم شيماء والحاجتان ومنتهى
وإيمان ورغداء ومنى وحليمة وأم
محمود وأمل . . وفي بداية المشوار
الذي استغرق قرابة الساعة
أصابني الدوار ، فلما تلفت
لأستنجد بأحد حولي وجدت أكثر
البنات مغمى عليهن ! فقد اجتمع
علينا الجوع والإرهاق والرعب
والهم . . وكانت شهور قد مضت
علينا لم نركب فيها سيارة ولا
سطعت علينا الشمس بهذا الطول . .
وأما أنا وبعد أن بدأت استعادة
وعيي حاولت أن أحرك يدي في القيد
فشد عليها أكثر ، فلما حاولت
تخفيف هذا الضغط ازداد واشتد
حتى ازرقت أناملي وأحسست أنها
ستنقطع ! ولم نلبث وقد بلغ الكرب
مداه أن توقفت بنا السيارة عند
حاجز للشرطة المدنية ، وتقدم
أحدهم ففتح الباب الخلفي لبرهة
وكأنما أرادوا أن ينزلونا . .
وقتها استطعت أن ألمح قوساً
معدنياً فوقنا مكتوب عليه بخط
عريض "سـجن قطنـا المـدني "
لكن الباب عاد فأقفل ، وعادوا
فساروا بنا إلى الداخل ليتوقفوا
عند باب آخر جرت عنده كما تبدى
عملية التسليم والإستلام ، وبعد
انتظار ربع
ساعة تقريباً ريثما سلموا
الأوراق واستلموها جاء أحد
أفراد الشرطة ففتح باب السيارة
ودعانا للنزول . كنا لا نزال
كالخارجين من القبور لا نستوعب
ما يدور ولا نقوى من الإعياء أن
نتحرك . . وأذكر أنني سحبت نفسي
سحباً وجاء الشرطي فأسندني ثم
أمسكني من يدي وأنزلني . .
وارتمينا جميعاً من فورنا على
الأ رض وافترشناها كالشحاذين !
فيما تحلق بعض رجال الشرطة
حولنا يتهامسون ويحوقلون ، وأخذ
آخرون يطلون من شبابيك المخفر
علينا وكأننا مخلوقات من كوكب
آخـر !
كان
منظرنا محزناً مثلما كان غريباً
ورهيباً . . فالوجوه مصفرة من
الهزال باهتة من اعتياد الظلمة
والبعد عن ضوء الشمس ، والثياب
رثة ممزقة تراخت فوق أجسادنا
المنحولة وقد تغيرت ألوانها
واختلطت الرقع عليها فكادت أن
تغطيها . . وفوق ذلك كنا لا نزال
مقيدات الأيادي نتحرك - إذا
استطعنا - أزواجاً بالكلبشات !
وتبين فوق ذلك أن أبا طلال قد
نسي مفاتيح الكلبشات في كفر
سوسة عمداً لا ندري أم سهواً ،
فتركنا على حالنا في القيود فوق
الرصيف ومضى ليحضرها . . لكن وما
أن تحركت سيارة المخابرات حتى
أقبل الشرطة علينا يدعوننا
للدخول إلى غرفتهم إكراماً لنا
، ولما لم نقو حتى على الإنتقال
سحبونا سحباً وأجلسونا هناك في
انتظار عودة أبي طلال بالمفاتيح
. كانت غرفة الخفر بسيطة
المحتويات تضم طاولة مكتب
وخزانة السلاح وبعض الكراسي ،
وكان العناصر يطلون من الباب
بين الحين والآخر ينظرون إلينا
نظرات يختلط الإشفاق فيها
بالإستغراب ، ولا تلبث أن تدمع
عيونهم ويبكون مثل النساء !
وأقبل واحد منهم في الخمسينيات
من عمره وحاول أن يفك الكلبشات
من أيدينا مرات عديدة فلم يستطع
. . فجعل يواسينا والدموع تسيل
على خديه ويقول : اطمئنوا أخواتي
اطمئنوا . . الان ستنتقلون إلى
الداخل وتعيشون عيشة طبيعية من
جديد . . وجعل يشير من النافذة
ويقول وهو لا يتمالك نفسه من
البكاء : [ أرجو الانتباه إلى أن
هؤلاء شرطة وليسوا من وحدات
الأمن ،
ولاحظوا الفارق
بين الشرطة وهم من طينـة الشعب
السوري ، وبين وحدات الأمن وهم
لقطاء من حثالة الشعب
] . انظروا
. . يوجد أولاد هناك . . وشجر . .
ونسوان . . هناك واحدة من حماة
اسمها غزوة . . وهناك غيرها فلانة
وفلانة ، يالله إن شاء الله الآن
تتنشطوا وتعودوا إلى حياتكم
الطبيعية . . وعندما لمحت أم
محمود ولدا هناك تنهدت وقالت له
: وهل إذا وجدنا أولادا هنا
سيعوضوننا عن أولادنا ؟ فقال
لها : منشان الله . . والله إن شاء
الله سيأتي أولادك وترينهم
وتطمئني عليهم . . ومضى الرجل
الطيب مسرعاً فأحضر لنا شاياً
نشربه ونحن لا نكاد نصدق ما يجري
، ولم يلبث مدير السجن المساعد
أبو مطيع أن جاء مع وصول أبي
طلال بالمفاتيح بعد قرابة
الساعتين ، ففك لنا الكلبشات
واحدة بعد الأخرى ، ومن غير أن
يقول لنا أية كلمة مضى بالعناصر
والسيارة . . فيما أخذ أبو مطيع
يهدئ من روعنا ويؤكد لنا أن هذا
المكان مختلف جداً، ولن يكون
هناك أي تعذيب ولا خوف بعد اليوم
. . ودخل إلى منطقة المهاجع ونحن
نتبعه ، فلما دخلت أولانا -
وكانت أم شيماء - وجدنا السجينات
جميعاً هجمن عليها يعانقنها
ويحملنها إلى المهجع حملاً . .
وهي تناديهم ولا يسمعون ترجوهم
أن يتركوها لتمشي بنفسها . .
والذي تبين أن أبا مطيع دخل على
السجينات وأخبرهن بأن نساء
خارجات من أحداث حماة أتين
إليكن . . منهن المكسورة
والمجروحة والمصابة ، . وهن في
أسوأ حال . ولم يكن الرجل
متصنعاً ولا كاذباً وقتها ،
وظننا كذلك فعلاً نتيجة الحالة
المزرية التي كنا عليها بعد
ثلاث سنوات من العيش في قبو
لا يشبهه من بقاع الدنيا شيء
إلا حفرة القبر!
أحـكام
شـكلية : عـشر سـنوات فقط !
كان
سجن قطنا عبارة عن بناء حجري
أشبه ما يكون بالبيوت العربية
القديمة تتوزع الغرف فيه على
محيط باحته ، وتفصل بين هذه
الباحة وبينهم القضبان
الحديدية فتجعل من كل حجرة
مهجعاً مستقلًا بذاته . وعلاوة
على مهجع مخصص من قبل للسجينات
السياسيات كانت المهاجع الأخرى
موزعة حسب القضايا التي حبست
السجينات على ذممها ، فثمة
مهجعان للمتهمات بالقتل ، وآخر
للحشيش والمخدرات ، والرابع
للدعارة . . وثمة غرفة خامسة أشبه
بالزنزا نة المنفردة كانت والدة
مهدي علواني الذي أعدم مع
مجموعة من الشباب في أواخر عام 79
مسجونة فيها وحدها ثم أفرج عنها
قبل أن نأتي . [ أي بقيت في السجن
حتى عام 1984 ، لأن الله عزوجل شاء
أن تكون أم الأخ مهدي علواني
يرحمه الله ] ...
. لكن وبرغم المجاورة فإن
الإختلاط بين السياسيات
والقضائيات كان ممنوعاً ،
وكانوا ساعة أن وصلنا قد سمحوا
للسياسيات بالخروج لاستقبالنا
، لكن بعضاً ممن كن يعرفننا لم
تتمكن من التعرف علينا بادئ
الأمر ! فسناء س . التي كانت معي
في الجامعة جعلت تحملق في وتقول
: - غيرمعقول . . هل هذا أنت ؟ ماذا
حصل . . هل جففوكم في العلب !
وأقبلت غزوة ك . أيضا تستقبلنا
بضحكتها وفكاهاتها . . وغمرت
الفرحة قلوبنا وقلوبهن وكأننا
التقينا في بيوتنا معززات
مكرمات ! وبين خليط من القبلات
والدمعات والتنهدات جلست كل
واحدة تقص قصتها . . ولم يلبث أن
حضر العقيد موفق السمان قائد
المنطقة ورئيس السجن فسلم علينا
ورحب بنا وقال لنا أنتم هنا في
أمانتنا ولن تجدوا إلا خيراً ،
وجعل يؤكد علينا أنه لم تعد
للمخابرات أية علاقة بنا ، وأنه
لم يعد لذلك أي معنى للاستمرار
في الإضراب ، راجيا إيانا أن
ننهيه للتو ونصبر ونحتسب حتى
يأذن الله بالفرج . . وحضر أحد
رجال الشرطة بكرسي للعقيد فجلس
عليه أمامنا ، ولم يلبث أن أخرج
أوراقاً بيده وقد ارتسمت معالم
الجدية أكثر على قسمات وجهه
وقال لنا دون أن تختفي ظلال
الحرج عن نبرته : - اسمعوني الآن .
. لا أريد بكاء ولا نواحاً . .
اسمعوا فقط . فسألته الحاجة : ليش
إيش في ؟ قال : هذه ورقة الأحكام
التي بلغتنا سأقرأها عليكم
لتعلم كل منكم حكمها. ومن غير أن
يترك لنا فرصة لاسترداد الأنفاس
شرع يقرأ : حكمت محكمة أمن
الدولة على المتهمة هبة دباغ
بعشر سنوات مع الأشغال الشاقة . .
فصاحت الحاجة رياض : آه . . ولي
على قامتي ان شا الله يا هبة .
وهجمت علي وضمتني وهي تبكي
وتنوح . . وردت الحاجة مديحة معها:
- ولي على قامتي ان شا لله . .
عشرسنين ! لكن أثر المفاجأة
والتأثر بما سمعوه لم يلبث أن
تقلص عندما تذكرت كل منهن نفسها
وجال بخاطر كل منهن عدد السنين
التي حكمت بها أيضاً ، وسرعان ما
اتجهت الأنظار إلى المقدم ثانية
وقد بدأ يكمل قراءة بقية
الأحكام : حكمت محكمة أمن الدولة
على المتهمة رياض د.
بعشرين عاماً مع الأشغال
الشاقة ! فصاحت به بانفعال : وقف
أبوي لايكون (دبانة) عملت نقطة
هنا بالغلط ! ماذا ؟ هل قلت 25
عاماً ؟ غير معقول فتركوني
واتجهوا إليها وقد تضاعف حكمها
يواسونها ويخففون ما وسعهم عنها
. . ثم تتابعت قراءة الأحكام :
منتهى ج . عشرون سنة . الحاجة
مديحة عشر سنوات . رغداءخ . ومنى
ع . أربع سنوات (لكنهما جلستا
معنا السنين العشرة) ! أم شيماء 4
سنين . عائشة ق . أربع سنوات .
حورية أم محمود عشرة . منى ف .
وأختها عشرة . ماجدة ل . عشرون .
هالة عشرة . ترفة عشرة سنين . .
ولما انتهى من الأسماء كلها
ورأى حالة الوجوم التي كستنا
وتأثرنا وبكاء من يبكي منا ونحن
مضربات بالأصل وحالتنا حالة قال
لنا مواسياً: هذه مجرد أحكام
شكلية وحسب ، وان شاء الله
تخرجوا قبل ذلك ولا تطولوا ، ولا
أحد جاء هنا إلا وخرج . . ثم جعل
يحدثنا عن حقوقنا هنا والمزايا
المتحققة لنا ، وأخذ يشجعنا هنا
لكي نتناول الآن طعام الإفطار
ونعود إلى حياتنا الطبيعية . .
وخلال ذلك أعدت البنات لنا
مائدة طويلة على طول المهجع
الذي خصصوه من فورهم لنا نحن
القادمات الجدد ، فالتفت إلى
ماجدة وأنا أصيح ولا أكاد أصدق
نفسي : - بندورة . . خيار . . بقدونس
. . وبيض ...إيه ... ماهذا ....! لكننا
وعلى الرغم من الجوع الشديد
والطعام الشهي إلا أننا وما أن
ابتلعنا اللقمة الأولى بعد سبعة
أيام من الإضراب حتى أصبنا
جميعاً بمغص في المعدة وعجزنا
عن الإستمرار . . لكننا أنهينا
إضرابنا واستعدنا بعضا من
حيويتنا ، وكانت سعادتنا غامرة
وقد لمسنا نجاح إضرابنا ولو إلى
حد ، وبدأنا وقد حدثتنا
سابقاتنا عن نظام الزيارة
الأسبوعي لكل الأهالي . . بدأنا
نعد الأيام انتظارا ليوم الجمعة
الآتي . . وننسج الأحلام من ظهيرة
يوم الأربعاء الذي وصلنا فيه
ترقباً لهذا اللقاء الذي طال .
أشـــغال
شــاقــة !
كان
مهجعنا عبارة عن غرفة مستطيلة
الشكل لا يجاوز طولها خمسة
أمتار تقع في زاوية السجن
اليسرى، وبعد أن يتجاوز الداخل
درجة حجرية في البداية تنخفض
أرضية المهجع بما يسمى "العتبة"
ثم تعود لترتفع إلى المستوى الأ
ول من جديد . وفي الزاوية اليسرى
هناك حجرة الحمام ، وثمة
نافذتان تطلان على باحة السجن
على يمين الباب . وبعد أن
استلمنا المهجع وعلمت كل منا
حكمها عاد مدير السجن فسلمنا
فرش إسفنج ومخدات وبطانيات على
عددنا ، لكنهما كانت كلها قديمة
ومستعملة ومنتنة ، وسرعان ما دب
الخلاف بين القادمات وهن
يتسابقن للفوز بأحسن الفرش
والبطانيات وأفضل الأماكن ،
وبالطبع لم تتسع الغرفة لنا
جميعاً ، وحسما للخلاف صارت
فرشتى انا وأختي على العتبة
ونصفها الآخر على الخلاء ! وبعد
أن مرت الأزمة على خير واستطعنا
آخر الأمر الإستقرار على حال
جعلنا ننظف المكان معا ونعد
مسكننا الجديد فيه . وخلال ذلك
لاحظنا أن بعض زوايا الغرفة
متآكلة من القدم ، وجانباً من
الدرجة التي على الباب مكسور
بما يهدد أي عابر بالزلق ،
فسألنا مدير السجن أبا مطيع إن
كان بالإمكان السماخ لنا ببعض
الإسمنت لترميمها فوافق ، وفي
اليوم الثاني جاءنا مبكراً وفتح
علينا الباب فخرجت الحاجة رياض
أول من خرج ، فما أن رآها
وناداها حتى وجدناها وقد أغمي
عليها ، وأسرعت الحاجة مديحة
فسكبت عليها الماء وصحتها ،فلما
فتحت عينيها تشبثت بها وهي تقول
: - أبوي يا حاجة ، يريدون أن
يأخذونني إلى الأشغال الشاقة!
من شان الله تكلمي معه . . قولي له
لا أستطيع . . ضغطي يرتفع . . ونفسي
والله يضيق ولا أتحمل . . وصارت
المسكينة تبكي كالممسوس . .
فخرجت الحاجة مديحة وقد تملكتها
الدهشة وسألته : -ما الذي حدث . .
إلى أين ستأخذها ؟ قال الرجل
باستغراب واضطراب : والله لم
أفعل لها أي شيء . . لم أزد عن أن
أقول لها تعالي يا حاجة وخذي
الإسمنت . لكنها وكما علمنا بعده
، ولضعف سمعها من جهة ورواسب
الخوف التي لا تزال تملأ نفسها
من جهة أخرى ظنت أنه يريد أخذها
لتبدأ تنفيذ حكم الأشغال الشاقة
. . فأغمي عليها !
ولاده
"مـعقـل " في المعتقـل !
كان
مهجع السياسيات قبلنا غاصا كذلك
بنزيلاته القادمات من شتى
المحافظات : غزوة ك . من حماة ،
وسناء د . من دمشق ، وأم معقل
وولدها الذي ولدته في السجن
أيضاً ، وأم هيثم من جسر الشغور
، وأم عبد الباسط وابنتها عائدة
وهما من الجسر أيضاً ، وسنيحة
وفاطمة من اللاذقية ، وأم محمود
كامل من اللاذقية أيضاً . ولكل
من هؤلاء كانت قصة . . ولكل منهن
مأساة وغصة . كانت غزوة طبيبة
أسنان من حماة ساعدت بشراء بيت
في دمشق للشباب الملاحقين ،
ولكن عبد الكريم رجب [ طالب طب ،
حموي ، جاسوس للمخابرات بين
الطليعة ، وقد كشف أمره وقتله
الشباب ] ، اكتشف ذلك وأبلغ عنها
فاعتقلوها من عيادتها في صوران
، وفي البداية أحضروها إلى فرع
الأمن السياسي بحماة ثم نقلوها
إلى فرع التحقيق العسكري بدمشق
، وبقيت هناك حوالي 6- 8 أشهر
أحضروها بعدها إلى قطنا لتبقى
معنا إلى النهاية . أما سناء ر .
فيبدوأن أحداً ما قد استعمل
هويتها في شراء بيت وهي لا تدري
، وانكشف البيت بعدما تبين أنه
باسمها فاعتقلوها وأتوا بها ،
وسناء من مواليد1965 وكانت معنا
في كلية الشريعة ، وقد اعتقلوها
في نفس اليوم الذي اعتقلت فيه
ولكن الجهة التي فعلت ذلك كانت
التحقيق العسكري ، وأثناء
التحقيق معها سألوها عني ثم
طلبوا منها أن تأخذهم إلى بيتي
في دمشق ، وبالفعل ذهبوا معها
إلى البيت وقدموها أمامهم لتقرع
الباب ، فلما فعلت خرجت لها أمي
وكنت بالطبع قد اعتقلت الليلة
السابقة ولا يزال العناصر
كامنين في البيت ، فلما رأتها
أمي قالت لها إذهبي ولا تعودي
ثانية في محاولة لإنقاذها من
الإعتقال ، لكن الدورية التي
وراءها والعناصر في الداخل
سرعان ما اتصلوا معاً وعلموا أن
جهة أخرى اعتقلتني فعادوا بها
إلى الفرع من جديد . وأما ثالثة
السجينات مطيعة ح . أم معقل
فكانت معلمة مدرسة شملها قرار
تحويل المدرسين المشكوك في
ولائهم للنظام وتحويلهم أواخر
السبعينات إلى الوظائف
الإدارية ، فمنعت من التدريس
وتم تحويلها إلى أحد المستوصفات
كموظفة إدارية . . وأثناء ذلك
لوحق زوجها ولكنه تمكن من الهرب
، فأتوا واعتقلوها مكانه إضافة
إلى اعتقال والده كرهينة!
وكانت مطيعة أيام اعتقالها
في أواخر الثلاثينات من عمرها
وأما لأربعة أولاد، وتحمل
الخامس في آخر شهور الحمل ، لكن
ذلك كله لم يشفع لها ، فأتوا
وأخذوها رهينة عن زوجها ووضعوها
مؤقتا في مستوصف عسكري تابع
للأمن السياسي بالجسر ، وهناك
وفي الحجرة التي اعتقلوها فيها
ونتيجة الخوف والتهديدات التي
أسمعوها إياها جاءها الطلق على
غير موعد ، فجعلت تدق الباب
عليهم وتستغيث وهي تخبرهم أنها
تضع مولوداً دون أن يجيبها أحد ،
فلما خرج المولود وعلا بكاؤه
سمحوا لإحدى الممرضات بالدخول
إليها لمساعدتها . . لكن كل شيء
كان قد تم ! وبعد ذلك نقلوها
والمولود إلى فرع التحقيق
العسكري بدمشق وبقيت هناك عدة
شهور قبل أن ينقلوها إلى سجن
قطنا فنلتقيهما هناك ولم يكن
معقل قد جاوز شهوره السبعة أو
الثمانية بعد . . ولقد أطلقت
حليمة عليه اسم معقل تيمنا
بالصحابي معقل بن يسار إضافة
إلى أنه ولد في المعتقل . . وعلى
الرغم من أنها كانت غاية في
الصبر إلا أنها ذاقت المر
كثيراً من أجله ، وعلاوة على
لوعتها المستمرة وهي ترى ابنها
يقضي طفولته الغضة في السجن من
غير ذنب ولا سبب ، وترى مستقبله
مجهولاً كمستقبلها رهن المهاجع
والزنازين والسجون . . علاوة على
ذلك الإحساس المؤلم فقد كانت
أشد ما تعاني بشأنه وهي تراه بين
أيدي الجميع ووفق هواهن . . وكل
منهن تفرغ فيه شوقها لبنيها أو
تسلي به مللها من رتابة الحياة
حولها فتحاول أن تعلمه ما يروق
لها حتى ولو لم يرق للأم ! وتجذبه
إليها أو تستبقيه معها حتى ولو
لم يرضها ذلك ! ولقد تسبب لها بعض
من ذلك بكثير من المشاكل والحرج
. . فمن أين لا تدري بالتحديد
تعلم الولد أول ما تعلم النطق أن
يقول "طظ أسـد". . فكان كلما
سمع اسمه أو رأى صورته قال ذلك . .
وذات مرة مرض معقل وازدادت
شكاته فسمحوا بنقله إلى
المستوصف للكشف عليه ، وهناك
وهو بحالته تلك رأى صورة الرئيس
معلقة ، فما أن راها حتى صاح "طظ
أسد بين الناس . . ولم تدر أمه
وقتها كيف نجت لكنها وفي مرة
تالية وعندما أخذوها إلى
المحكمة الميدانية كان لا بد
وأن تصطحبه معها ، فلما كانوا
أمام اللجنة التفت معقل فرأى
تمثال رأس الأسد في زاوية
الغرفة قريبا منه فبصق عليه
وقال نفس العبارة ، فأمر الضابط
باقتياد الأم وابنها فورا إلى
المنفردة للتأديب ، فجعل معقل
يبكي وهو يصيح "طظ أسد". .
وصارت أمه كلما حاولمت أن تسكته
أو تسد له فمه ازداد صياحاً
وتردادا للعبارة . . وكان عليها
أن تتحمل المعاناة في المنفردة
من جديد بسببه أو بسبب من لقنوه
العبارة وحملوها الثمن !
إثــارة
الشـــغب !
وممن
سبقننا إلى قطنا أيضا كانت أم
هيثم من جسر الشغور أيضاً ، وهي
أم لأربعة أطفال شارك زوجها في
إيواء بعض الملاحقين ببيتهم
فداهمته الخابرات واشتبكت معهم
، فقتل البعض وفر آخرون واعتقل
أبو هيثم وزوجته وذاقا معا أشد
أنواع العذاب . . وفيما تم إعدام
الزوج فيما بعد كما ترجح أم هيثم
فقد تم استبقاؤها في السجن
بتهمة إثارة الشغب . . وهي نفس
التهمة التي وجهت لأم معقل وأم
عبد الباسط وابنتها عائدة في
المحكمة الميدانية ولم يخرج
هؤلاء جميعاً إلا أواخر عام 85 [
أي دام اعتقالهم من آذار 1980 وحتى
1985] . وأماسميحة وفاطمة ، وهما
بنات خال وبنات عمة من مرج خوخة
بمحافظة اللاذقية فقد خرجتا مع
مجموعة من أقربائهما الملاحقين
الذين التجأوا إلى الجبال حول
قريتهم . وكان عمر فاطمة وقتها15
سنة وسنيحة 16 سنة ، وكانت معهم
بنت ثالثة اسمها غنية عمرها 18
سنة . وهناك في الجبل جلست
البنات مع المجموعة الهاربة
يطبخن لهم ويساعدنهم في بعض
الأمور حتى جاءت عليهم فسادة
فداهمتهم المخابرات وحصلت
مقاومة انتهت باستشهاد غنية
وبعض الشباب الآخرين ، واعتقال
سميحة وفاطمة . وقد أخذوهما بادئ
الأمر إلى سجن الشيخ حسن بدمشق
ليومين أو ثلاثة لم تسلما
خلالها من التعذيب ثم أحضروهما
إلى قطنا . وفيما لم يسلموا غنية
لأهلها ودفنوها بأنفسهم فقد تم
نقل الشباب الذين اعتقلوا معهما
إلى تدمر جميعاً . وكان من
نزيلات المهجع الثاني قبلنا
أيضا سيدة من اللاذقية اسمها أم
محمود كامل في الخمسينيات من
عمرها ، وهي جدة وأم لأربعة أو
خمسة أبناء . وكان اعتقال أم
محمود قبل اعتقالنا بأيام فقط
بتهمة مساعدة الملاحقين بتأمين
وثائق سفر لهم عن طريق أحد
أقربائها . وفي البداية تم سجنها
في كفر سوسة قبل أن نأتي هناك
ولكنهم نقلوها بسرعة إلى قطنا .
وقد تحدثت أنهم عذبوها وضربوها
دونما أية مراعاة لسنها ، وظلت
في السجن بعد ذلك ولم تخرج إلا
معنا .
تجسس
مزدوج !
ومن
نزيلات قطنا كانت أسماء الفيصل
زوجة رياض الترك الزعيم الشيوعي
المعروف ، وهي طبيبة في
الخمسينيات من عمرها ، وكانت
موجودة هناك في المهجع الثاني
من قبل أن نأتي ، وأظن أنها كانت
قد أمضت في السجن ثلاث سنين
قبلنا ، لكنه تم الإفراج عنها
بعد أشهر قليلة من لقائنا بها ،
وبرغم قصر الفترة إلا أنها تركت
في نفوسنا انطباعا حسنا عنها
ولمسنا طيبها وحسن تصرفاتها
معنا ، وذلك على العكس من أميرة
زركلي التي كانت شريكتها في
المهجع عند وصولنا أيضا ، وهي
سيدة دمشقية كردية الأصل في
الخامسة والأربعين من عمرها ،
متزوجة من عراقي وتشتغل معه في
السفارة العراقية ومتهمة
بالتجسس المزدوج لصالح العراق
وسورية معا ! وبعد اكتشافها سجنت
في سورية فيما صدر عليها الحكم
في العراق بالإعدام غيابيا
وطلقها زوجها بعد ذلك ، وخرجنا
من السجن وهي لا تزال فيه . وكانت
هذه السيدة لا تكف عن إيذائنا
وإثارة المشاكل معنا والحديث
بالسوء دوما عن الإخوان ، وكانت
لا تكف عن ترديد قولها على
مسامعنا : - بكره شوفوا . . ستخرج
كل السجينات وسجينات الإخوان
جالسات ينظرن مساكين بأعينهن . .
والذي حصل أننا خرجنا جميعا في
النهاية وبقيت هي تنظر إلينا
بأعينها سبحان الله . . ولم
يفرجوا عنها إلا بعدنا بسنة أو
ربما سنتين !
*كاتب
سوري في المنفى
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|